تشهد المجتمعات الإفريقية أزمات متكررة على هوامش تداعيات التغير المناخي واضطراب الأوضاع الأمنية والاجتماعية والاقتصادية التي باتت ظواهر مزمنة في حد ذاتها، بل وتُنذر بمزيد من تفاقم هذه التداعيات السلبية المؤثرة على الإنتاج الزراعي في القارة، وتراجع الاستثمارات الخارجية “الجادة”، والتهديد بوقوع موجات جديدة من الاضطرابات الأمنية في أرجاء القارة فيما يتصاعد التنافس الدولي في الساحة الإفريقية (وهو صراع في واقع الأمر)، ويتمدد إلى مستويات تُنذر بتعمق أنشطة الفاعلين من غير الدول بهدف صياغة مفهوم جديد “للدولة الوطنية” الإفريقية يقوم بالأساس على خصخصته وتفكيكه وتثبيط كافة مسارات مساعي عدد من الشعوب الإفريقية لإعادة ضبط دور الدولة الوطنية لصالح مكوناتها وقواعدها الواسعة، والتخلص من دوائر “التبعية” التقليدية التي تمكَّنت من أغلب “النُّخَب” السياسية والاجتماعية في القارة طوال العقود الأخيرة.
يتناول المقال الأول أزمة بالغة الخطورة يشهدها قطاع زراعة الكاكاو في غرب إفريقيا، ولا سيما في غانا (ثاني أكبر مُنتِج للكاكاو في إفريقيا بعد ساحل العاج)، ويطرح مدى تأثير التغير المناخي وأنشطة “المُنقِّبين عن الذهب” المتجسّد في تقلص المساحات المزروعة، وإن كان المقال ينطلق بالأساس من تخوفات تأثير تلك الأزمة على ارتفاع أسعار الشوكولاتة عالميًّا، كما سيتضح مع نهاية العام الجاري.
أما المقال الثاني فإنه يتناول مسألة باتت واضحة تمامًا، لا سيما في حالة الصين واستثماراتها في إفريقيا بشكل أكثر تعميمًا، ألا وهي تراجع حجم تدفقات رأس المال الخاص على القارة لمستويات قياسية دنيا (حتى بمقارنتها بنحو عقد كامل). وتؤشر تلك المسألة إلى تراجع جاذبية الأسواق الإفريقية ومرونتها لدى الاستثمارات “الخاصة”، ويؤثر ذلك بشكل مباشر على أنشطة القطاع الخاص في القارة (سواء في القطاعين غير الرسمي أو الرسمي)، وفرص نموّه في السنوات المقبلة، وما سيقود إليه ذلك من آثار على المجتمع الإفريقي.
واستعرض المقال الثالث دراسة مهمة صدرت منتصف شهر أبريل 2024م عن “المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية” French Institute of International Relations (ifri) للباحثة لينا جوتيل Lena Gutheil، وهي باحثة رئيسة في المعهد الألماني للتنمية والاستدامة IDOS، ومعنية بالشأن الإفريقي ميدانيًّا ودراسيًّا، ولا سيما “ممارسات إدارة المشروعات”، ومِنْ ثَم فإن دراستها عن اللامركزية وآثارها على الحوكمة الحضرية في إفريقيا تكتسب أهمية متزايدة لفهم هذا الجانب المهم في تطورات المجتمع الإفريقي المتوقعة بحلول العام 2050م. مع التركيز على تداعيات سياسات اللامركزية في المدن، وليس في المناطق الريفية، وما يتضمّنه ذلك من دلالات سياسية مهمة في ظل تحوّلات النخب الإفريقية الجارية راهنًا.
أزمة الكاكاو في غرب إفريقيا ترفع أسعار الشوكولاتة عالميًّا([1]):
في العام الماضي كانت مساحة أشجار الكاكاو المملوكة لجانيت جيامفي (المزارعة في غربي غانا)، والتي تغطي مساحة كبيرة تضم 6000 شجرة. وفي العام الحالي أصبح عدد تلك الأشجار حوالي 10 فقط أو أقل، وعاد هذا التراجع إلى تمدد أنشطة البحث عن الذهب، وما تؤدي إليه من تلوث المياه المغذية لأشجار الكاكاو.
وفيما ظلت غانا وجارتها ساحل العاج لفترة طويلة أهم مراكز إنتاج الكاكاو في العالم (وكانتا تنتجان وحدهما أكثر من 60% من الإمداد العالمي منه)؛ فإنهما تُواجهان الآن موسم حصاد كارثي. وتثير توقعات نقص محصول حبوب الكاكاو –المادة الخام للشوكولاتة- ارتفاعات في مشتريات نيويورك المستقبلية من الكاكاو تجاوزت الضعف في العام الجاري وحده. ووصلت المضاربات على أسعار الكاكاو أرقامًا قياسية تزيد بشكل يومي في توجُّه غير مسبوقٍ على نحوٍ لا يوحي بتراجع مستقبلي.
وقد أخبر أكثر من عشرين مزارعًا وخبيرًا ومتخصصًا في تجارة وصناعة الكاكاو وكالة رويترز أن عاصفة كبيرة من أنشطة تعدين الذهب غير القانونية والتغير المناخي وسوء إدارة قطاع زراعة الكاكاو والأمراض سريعة الانتشار بين أشجار الكاكاو كلها تمثل أسبابًا رئيسة للأزمة.
ووفقًا لبيانات غانية أجريت تباعًا من العام 2018م؛ فإن هيئة تسويق الكاكاو الغانية كوكوبود Cocobod تقدر إصابة مزارع بمساحة 590 ألف هكتار بفيروس تورم الشوكولاتة Cacao swollen shoot virus (CSSV)، وهو الفيروس الذي سيؤدي في النهاية إلى موت هذه الأشجار.
ويرى ستيف ووتريدج Steve Wateridge، أحد خبراء الكاكاو، أن الإنتاج يتدهور على المدى البعيد، وأنه لن يكون بمقدور غانا وساحل العاج الحصول على أدنى مستوى للمحصول (في الأعوام السابقة)؛ إذا لم يتم الوصول لنقطة تحوُّل لوقف هذا الانحدار.
ويرى الخبراء أن الضرر الذي لحق بالزراعة يصعب إصلاحه، ومِن ثَم فإنه أحدث صدمةً في الأسواق العالمية، ويمكن أن يمثل بداية نهاية تفوق غرب إفريقيا في إنتاج الكاكاو. الأمر الذي يمكن أن يفتح الباب لصعود منتجين من أمريكا اللاتينية على وجه الخصوص (لتصدُّر أسواق الإنتاج العالمية بدلًا من غانا وساحل العاج). ولاحظ متسوقون لحلوى عيد الفصح في أبريل الجاري في الولايات المتحدة ارتفاع أسعار الشوكولاتة على أرفف المتاجر الكبيرة بنسبة 10% عن العام الماضي؛ بحسب بيانات جمعتها شركة البحوث NielsenIQ.
ونظرًا لتوجُّه صُنّاع الشوكولاتة لحجز مشتريات الكاكاو لشهور مسبقة؛ فإن المحللين يرون أن حالة المحاصيل الكارثية في غرب إفريقيا تكون ملموسة لدى المستهلكين في نهاية هذا العام.
وعزّز خبراء آخرون فكرة أن قِطَع الشوكولاتة قد تصبح عما قريب رفاهية، وأنها ستكون متاحة بأسعار لا تقل عن ضعف سعرها الحالي. فيما تواجه دولة مثل غانا تراجعًا حادًّا في مساحات مزارع الكاكاو لصالح عمليات التعدين عن الذهب فيما تُعرف محليًّا بظاهرة galamsey.
ورغم أن عمليات تعدين الذهب غير القانونية تتم أحيانًا عبر ممارسة العنف مع مزارعي الكاكاو فإن عددًا من هؤلاء أشار في تصريحات لرويترز أنهم قد يقومون ببيع أراضيهم طواعية للباحثين عن تعدين الذهب.
ومع معاناة جنوب إفريقيا؛ فإن الارتفاعات الهائلة الراهنة لأسعار الكاكاو العالمية، ربما ستكون حافزًا جاذبًا للمزارعين لزراعة مزيد من أشجار الكاكاو في أقاليم استوائية أخرى لا سيما في أمريكا اللاتينية. ويتوقع مراقبون أن تحل الإكوادور محل غانا كثاني أكبر مُنتِج في العالم للكاكاو بحلول العام 2027م. كما أن البرازيل وبيرو ستضاعفان إنتاجهما بشكل ملحوظ.
على أيّ حالٍ فإن ملء هذه الفجوة في الإمداد ستستغرق وقتًا، وفي هذه الأثناء فإن عشاق الشوكولاتة قد يشعرون بالأزمة. لكنّ الضحايا الحقيقيين هم المزارعون في ساحل العاج وغانا الذين لا تتوفر لديهم خيارات تُذكر فيما يشاهدون مصدر دخلهم يتبخر. وإن وضع هؤلاء المزارعين في غرب إفريقيا كارثيّ تمامًا، بحسب خبراء كثيرين.
لماذا تعاني الشركات في إفريقيا للحصول على رأسمال جديد؟([2])
تراجع حجم زيادة موارد شركات رأس المال الخاص في إفريقيا بنسبة 9% إلى 1.9 بليون دولار في العام 2023م، وهو ثاني أقل تعبئة موارد للمخصصات الختامية النهائية في غضون 11 عامًا، مما يبرز الصعوبات التي تواجهها الشركات في زيادة رأس مال جديد للنمو والتوسع في القارة. ويأتي ذلك نتيجة للظروف الاقتصادية الكلية الهشّة التي أضرَّت بعمليات الشركات، بما في ذلك رفع معدلات الفائدة وارتفاع التضخم وخفض العملة، وتقلص احتياطيات الصرف الأجنبي؛ وفقًا لتقرير جديد.
ويشير أحدث تقارير جمعية رأس المال الخاص الإفريقي African Private Capital Association (AVCA)، وهي جمعية معنية بالاستثمار الخاص في القارة، الصادر بعنوان Africa Private Capital Activity Report (2023) إلى أن صعوبة بيئة العمل في القارة قد دفعت المستثمرين الأجانب للاحتفاظ برؤوس الأموال داخل أسواقهم المحلية، ومِن ثَم تثبيط الكثير من جهات الاستثمار عن الإقدام على التزامات جديدة بما في ذلك في القارة الإفريقية.
ويغطي رأس المال الخاص Private Capital المخصصات التي تمت زيادتها عبر أدوات لا يتم تداولها بشكل مفتوح، بما في ذلك الأسهم الخاصة private equity (PE)، ورأس المال المخاطر venture capital (VC).
وكشف التقرير عن أنه في الحالات التي صنعت بها استثمارات فإن مديري المخصصات تفادوا ضخ استثمارات كبيرة باستثناء أمثلة قليلة. ومما ورد في التقرير: تراجع صفقات رأس المال الخاص في إفريقيا بنسبة 22% بقيمة 5.9 بليون دولار فيما تراجع تخارج رأس المال الخاص بنسبة 48% وصولًا إلى 43%، وهو أعلى انخفاض سنوي في تخارج رأس المال خلال عقد كامل. وكان لهذا التخارج تداعيات مباشرة على بيئة تعبئة الموارد مع مواجهة المستثمرين انخفاض السيولة وفقًا للتقرير الصادر في مارس 2024م، والذي خلص إلى أن حالة الشؤون الاقتصادية عالميًّا، وفي إفريقيا كان لها عواقب بعيدة المدى على نشاط رأس المال الخاص على القارة.
وقد أجبر عدم الوضوح والاقتصاد المحتدم مديري التمويل على توخّي الحذر في إستراتيجيات استثماراتهم، والانسحاب من التخارجات الأولية، مما نتج عنه انخفاض أعداد الاستثمارات والتخارجات لمستواها في العام 2022م؛ بحسب التقرير.
“وفي قارةٍ يلعب فيها رأس المال -تقليديًّا- دورًا مهمًّا فإن هذا الجانب كان عاملًا آخر للقيمة المتدهورة للمخصصات المالية المغلقة النهائية في العام 2023م، واستمرار توجُّه كان قد بدأ في العام 2022م، مع ملاحظة أن تعبئة رأس المال الخاص في القارة في العام 2022م كان بقيمة 2 بليون دولار. فيما شهد العامان 2015 و2021م أعلى تعبئة لرأس المال الخاص في القارة بقيمة 4.5 و4.4 بليون دولار على الترتيب، بينما كان أقل مستوى في العام 2020م بقيمة 1.1 بليون دولار مع بدء جائحة كوفيد-19.
وعكَس هذا التراجع المالي في إفريقيا اتجاهات عالمية بسبب تحديات الاقتصاد الكلي التي فرضت تحديات كبيرة على نشاط رأس المال الخاص، وإضافةً إلى تلك التحديات فإن المستثمرين في مجال رأس مال المشروعات قد واجههم تدهور تقييمات المشروعات الناشئة وإغلاق مشروعات ناشئة مهمة، مما دفعهم إلى خفض الاستثمارات. وقد أثَّر الاتجاه المنخفض لنشاط استثمار رأس المال الخاص في إفريقيا في العام 2023م على جميع القطاعات رغم تمكُّن بعض القطاعات (مثل تكنولوجيا المعلومات والمواد الخام والطاقة) من تعويض هذا الاتجاه بتحقيق زيادات سنوية في حجم الاستثمارات.
اللامركزية وآثارها في الحوكمة الحضرية في إفريقيا([3]) :
تتزايد أهمية المدن الإفريقية كفواعل اقتصادية وسياسية واجتماعية. وفيما ظل تصور إفريقيا كقارة ريفية سائدًا على نحو مألوف فإنه من المقدر أن يبلغ عدد سكان القارة في المناطق الحضرية بحلول العام 2050م حوالي 900 مليون نسمة، وهو ما يعني تزايد هذه الفئة ثلاثة أضعاف.
كما أن أسرع عشرة مدن في العالم نموًّا تقع جميعها في إفريقيا، وسرعان ما سيكون سكان الحضر في إفريقيا أكثر من نصف إجمالي عدد سكانها. ويُتوقع أن يقع الجزء الأكبر من هذا النمو في “إفريقيا جنوب الصحراء”، بينما يتمتع شمال إفريقيا بغلبة حصة سكان الحضر، وتصل حصة سكان الحضر في إفريقيا جنوب الصحراء في العام 2021 إلى 42%.
ويتم النمو السريع للمدن في الغالب على نحو غير مخطَّط له، فيما تعاني المدن في سبيل توفير بنية أساسية وخدمات ملائمة لسكانها. وبينما يُعدّ سكان المدن، في المتوسط، أكثر ثراءً من أفارقة الريف فإن أغلبية سكان المدن يعيشون في ظروف بائسة فيما تسمى بالتجمعات غير الرسمية informal settlements. كما أن قدرة المدن على التعامل مع هذه التحديات تعتمد بالأساس على أداء الحوكمة الحضرية/ الحضرية.
وتشير الحكومة الحضرية Urban Governance إلى أبنية وعمليات يصل خلالها الفاعلون الرسميون وغير الرسميين إلى قرارات حول تخطيط وتمويل وإدارة المدن، وسبل تطبيق هذه القرارات. وتتعلق الحوكمة الحضرية بفاعلين متعددين وقياسات متعددة.
وإلى جانب الفاعلين في المحليات؛ فإن فاعلين مثل المنظمات غير الحكومية والقادة التقليديين والقطاع الخاص والمانحين الدوليين والحكومات الوطنية أو الوطنية الفرعية؛ منخرطون في إدارة المدن بالتشاور مع المواطنين.
كما أن إصلاحات اللامركزية تُعدّ جزءًا من عملية سياسية لتحديد (أو إعادة تحديد) الأبنية المشار لها في الحوكمة الحضرية، والتفاوض بشأنها. وبشكل عام فإن اللامركزية تهدف إلى نقل الكفاءات والموارد من الحكومة المركزية إلى مستويات حكومية وطنية فرعية محددة حسب الأقاليم المختلفة (داخل الدولة)، بما في ذلك المدن والبلديات.
وتحدد سياسات اللامركزية كيفية تعاون الفاعلين على مستويات الحوكمة المختلفة (الوطنية، والإقليمية، والمحلية)، وتقديمهم القواعد والإجراءات المنظمة للعلاقات الإدارية والسياسية والمالية بين هذه المستويات.
ومن هنا، فإن سياسات اللامركزية تكتسب أهميةً قصوى للحوكمة الحضرية؛ لأنها تحدد البيئة المؤسساتية التي تتم فيها الحوكمة الحضرية نفسها. ولا تحدد تلك الحوكمة كفاءات الفاعلين في البلديات فحسب؛ لكنها تحدد مستوى قدرتهم على الاجتهاد في نطاقات مختلفة.
على أيّ حال فإن اللامركزية ليست عملية ثابتة أو خطية، لكنّها عملية مستمرة، ومحل خلاف يلعب فيها الفاعلون من البلديات أدوارًا مهمة في التفاوض حول وصولهم للسلطة وللموارد.
وتُميز المنافسة عمليات الحوكمة وإقامة الأبنية للمدن التي تخضع لهذه الحوكمة، مما يجعل اللامركزية عملية سياسية على نحوٍ لا لبس فيه.
……………………………………………………………………………..
[1] Maxwell Akalaare Adombila, Chocolate prices to keep rising as west Africa’s cocoa crisis deepens, Independent, April 7, 2024 https://www.independent.co.uk/arts-entertainment/photography/chocolate-cocoa-west-africa-b2520143.html
[2] James Anyanzwa, Why firms are struggling to raise fresh capital in Africa, The East African, April 7, 2024 https://www.msn.com/en-xl/africa/other/why-firms-are-struggling-to-raise-fresh-capital-in-africa/ar-BB1lcTgV
[3] Gutheil, Lena, Decentralization and Its Effects on Urban Governance in Africa, IFRI Studies, IFRI, April 14 2024 https://www.ifri.org/en/publications/etudes-de-lifri/decentralization-and-its-effects-urban-governance-africa