اكتسبت موجة الاحتجاجات الأفريقية ضد السياسة الفرنسية زخما في السنوات الأخيرة. وعادة ما تطرح تفسيرات متعددة من قبيل التدخلات العسكرية، واستمرار استخدام الفرنك الأفريقي، وعقم سياسة مساعدات التنمية، وسياسة التأشيرات المحدودة، وما إلى ذلك. بيد أن مركزية السردية الجديدة المناهضة للنفوذ الفرنسي في أفريقيا والتي تعج بها وسائل التواصل الاجتماعي ومختلف المحافل الأفريقية تركز على العناصر الموضوعية للسياسة الفرنسية في أفريقيا التي وصفها البعض بأنها “استعمارية جديدة” . وفي هذا السياق، أصبحت العلاقات بين فرنسا وثلاث دول في منطقة الساحل ذات طابع عدائي كبير في غضون عامين (2021-2023). لقد كانت كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر جزءاً من تحالف مجموعة الخمس لمنطقة الساحل المناهض للجماعات المسلحة واستضافت قوات فرنسية وأوروبية كجزء من القتال ضد الجماعات الإرهابية. وبعد ان استولى العسكريون على السلطة قاموا بفض الشراكة الأمنية واتفاقيات الدفاع التي تربطهم بباريس، كما طلبوا رحيل القوات الفرنسية المتمركزة في بلادهم. لم يضع هذا التطور حدًا للتدخل العسكري الفرنسي في منطقة الساحل فحسب، بل أيضًا للوجود العسكري للاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة من خلال بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما). كما لم يعد هناك سفير فرنسي أو قوات فرنسية في هذه البلدان الثلاثة. وبالفعل أغلقت باريس سفارتها في نيامي في 2 يناير 2024. وقد تم تعليق المساعدة الإنمائية الرسمية الفرنسية وكذلك إصدار التأشيرات.
بعد الانفصال عن فرنسا والأوروبيين ومن ثم المنظمات الإقليمية (الإيكواس والاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا) التي طبقت العقوبات، تبحث الدول الثلاث عن تحالفات جديدة قد تشمل روسيا وإيران. لقد وجه كل من المجلس العسكري في مالي وبوركينا فاسو الأنظار إلى روسيا كشريك أمني جديد، كما فعل المجلس العسكري في النيجر ذلك في بداية عام 2024 . ومما يثير الدهشة أن طرد فرنسا من هذه الدول تم على أيدي الضباط الذين تعاونوا مع الجيش الفرنسي في الحرب ضد الجماعات المسلحة، وقد تم تدريب البعض منهم في فرنسا. ولعل السؤال الذي نطرحه هنا يتعلق بجذور علاقة الاستغلال التي ميزت السياسة الفرنسية الأفريقية منذ الاستقلال.
“فرانس/ أفريك ” والاستعمار الجديد:
حافظت فرنسا في علاقتها مع مستعمراتها الأفريقية السابقة منذ الاستقلال على شبكة كثيفة من الروابط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والثقافية التي ينطوي عليها مصطلح “فرانس أفريك- Françafrique . هذه العلاقة الخاصة، أُطلق عليها أيضًا اسم “المجمع الفرنسي الأفريقي”، و”الدولة الفرنسية الأفريقية” و”القرية الباريسية الأفريقية”. وفي غالب الأحيان توصف هذه المصطلحات بأنها نمط استعماري جديد بطبيعتها، حيث أنها مدعومة تقليديا بشبكات شخصية للغاية من الجهات الفاعلة في القطاعين العام والخاص التي تحافظ على نفوذ فرنسا وتدافع عن المصالح الفرنسية فيما تعتبره الفناء الخلفي لها في افريقيا. ومع ذلك، فمن المهم الإشارة إلى أن مصطلح فرانس أفريك يثير إشكالية في التعريف فبينما يرى فيليكس هوفويت بوانيي أنه مشتق من مجتمع فرنسي أفريقي في شكل دولة متعددة الجنسيات، متجذرة في مبادئ التضامن والأخوة والمساواة ، استخدم فرانسوا كزافييه فيرشاف فيما بعد مصطلح فرنسا الأفريقية لوصف ما اعتبره علاقة استغلالية وفاسدة اتسمت في كثير من الأحيان بالنشاط الإجرامي.
لقد كان الوجود المهيمن لباريس في إمبراطوريتها الأفريقية السابقة يرتكز على عدة ركائز: الركيزة الاقتصادية والنقدية، مع منطقة الفرنك في مركزها؛ وجود خبراء فرنسيين على أعلى مستوى في الدول الإفريقية؛ ركيزة لغوية وثقافية، تدعمها الفرنكوفونية، وسياسة نشطة للتعاون الثقافي، وشبكة من المعاهد الفرنسية في جميع أنحاء القارة؛ ووجود القوات الفرنسية المتمركزة في قواعد عسكرية مختلفة في جميع أنحاء القارة، إلى جانب شبكة من المستشارين العسكريين الفرنسيين المنتدبين للجيوش الأفريقية في أدوار استشارية عليا.
ركائز استغلال فرنسا لأفريقيا:
كانت استراتيجية ديجول للحفاظ على مكانة فرنسا كقوة عالمية في عصر ما بعد الاستعمار تتألف من أربع ركائز: تطوير رادع نووي مستقل؛ واحتفاظ فرنسا بمقعدها الدائم في مجلس الأمن الدولي؛ ووضع فرنسا إلى جانب ألمانيا في قلب مشروع بناء أوروبا الجديدة؛ والحفاظ على مجال النفوذ في أفريقيا. وهذه الركيزة الأخيرة هي التي أرست الأساس للعلاقة الخاصة التي سعت فرنسا إلى إقامتها مع مستعمراتها السابقة في أفريقيا، والتي امتدت فيما بعد لتشمل مستعمرات بلجيكا السابقة. وهكذا أصبحت أفريقيا الناطقة بالفرنسية الساحة المفضلة لاستعراض القوة الفرنسية في الخارج، مع وجود مستعمرات فرنسا السابقة في غرب ووسط أفريقيا في مركز مجال النفوذ هذا. وبعد الاستقلال، سعى ديغول إلى تقديم فرنسا كأفضل صديق لإفريقيا، وعهد إلى صديقه ومستشاره الخاص للشؤون الإفريقية، جاك فوكار، بمهمة رعاية علاقة فرنسا مع الدول الناطقة بالفرنسية المستقلة حديثًا والحفاظ على مكانة فرنسا في إفريقيا. ولتحقيق ذلك، استخدم فوكار أساليب مختلفة، بعضها كان مشكوكًا في شرعيته، مثل تنصيب وإعادة تعيين زعماء أفارقة كانوا من أصدقاء فرنسا، من أجل الحفاظ على اعتماد المستعمرات السابقة على فرنسا. علاوة على ذلك كانت هناك مجموعة كثيفة من الروابط الرسمية التي شملت العلاقات الاقتصادية الوثيقة، والحفاظ على منطقة العملة المشتركة، والمساعدات، واتفاقيات المساعدة الدفاعية والعسكرية، والروابط السياسية والثقافية التي جسدتها الرابطة الفرانكفونية.
كانت هذه الروابط الرسمية مصحوبة بشبكة من الروابط العائلية شبه الرسمية وغير الرسمية، حيث كان في مركزها جاك فوكار، الذي كان على اتصال منتظم مع العديد من قادة الدول الأفريقية المستقلة حديثًا. عمل فوكار بعد ذلك أيضًا كمستشار للرئيسين جورج بومبيدو وجاك شيراك. وهكذا لعب دورًا رئيسيًا في تحديد شروط العلاقة الفرنسية الأفريقية الخاصة وظل شخصية رئيسية في السياسة الفرنسية تجاه أفريقيا حتى وفاته في عام 1993.
الركيزة السياسية:
عندما أصبح ديجول رئيسا في عام 1958، عهد صديقه إلى جاك فوكار بمهمة تأمين أفريقيا لفرنسا. وكان هذا يعني حماية مناطق نفوذها من التدخل الخارجي، سواء من الاتحاد السوفييتي، أو الولايات المتحدة، أو منافستها الاستعمارية التقليدية بريطانيا. تم إنشاء “خلية أفريقية” في قصر الإليزيه، حيث حافظ فوكار على اتصالات هاتفية منتظمة مع الرؤساء الأفارقة، الذين دعاهم أيضًا إلى منزله عندما زاروا فرنسا. كان لديه خط مباشر مع ديغول، الذي كان يجتمع به يوميا لإبقائه على اطلاع بالشؤون الأفريقية. وبهذه الطريقة، أصبحت أفريقيا بمثابة “مجال احتياطي” رئاسي في ظل الجمهورية الخامسة، حيث لعبت خلية أفريقيا في قصر الإليزيه، وليس وزارة الخارجية، الدور المركزي في السياسة الأفريقية. وكانت هذه إحدى السمات المميزة للعلاقة الفرنسية الأفريقية الخاصة.
استمرت هذه الروابط الخاصة في عهد الرؤساء اللاحقين، لأنها كانت مدعومة من قبل الهياكل المؤسسية في قلب الدولة الفرنسية، مما جعلها محصنة إلى حد كبير ضد تقلبات السياسة الأفريقية وأولويات السياسة الخارجية الفرنسية الأوسع. وقد ارتكزت هذه الروابط على خطاب سياسي يعبر عن فكرة معينة عن فرنسا ودورها في العالم، والذي ترجع جذوره إلى المشروع الاستعماري للجمهورية الثالثة .وقد أعاد الجنرال ديجول صياغته بعد الحرب العالمية الثانية.
تعد مؤتمرات القمة الفرنسية الأفريقية السنوية، التي تأسست عام 1973 بمبادرة من رئيس النيجر هاماني ديوري، والتي جمعت الفرنسيين مع العديد من زعماء أفريقيا الفرنكوفونية بمثابة احتفال سنوي بعلاقتهم الخاصة . في ظاهر الأمر، كان شكل هذه القمم هو اجتماع قمة دولي. ومع ذلك، في الممارسة العملية، كانت هذه الاجتماعات أشبه تقليديًا بتجمع عائلي أكثر من اجتماع قمة رسمي، لأسباب ليس أقلها إنه لم يكن هناك جدول أعمال منشور ولم يصدروا بيانًا نهائيًا. عُقدت مؤتمرات القمة في البداية سنويًا، بالتناوب بين فرنسا وعاصمة أفريقية، لكنها أصبحت نصف سنوية منذ عام 1988 حتى أصبح ساركوزي رئيسًا في عام 2007. وعقدت قمة فرنسية-إفريقية واحدة فقط خلال رئاسة ساركوزي، في نيس عام 2010، وشارك فيها 52 رئيسًا من جميع أنحاء أفريقيا ولم تكن هناك قمة فرنسية أفريقية، أو أي اجتماع يحمل هذا الاسم، خلال رئاسة هولاند. وبدلا من ذلك، استضاف الرئيس هولاند قمة السلام والأمن في أفريقيا في قصر الإليزيه في ديسمبر 2013، والتي دُعيت إليها 53 دولة أفريقية. وقد عُقد اجتماع القمة هذا على خلفية عملية سيرفال الفرنسية، التي انطلقت في مالي في يناير 2013 لمنع المتمردين المسلحين من الوصول إلى العاصمة باماكو. ومنذ ذلك الحين، تنظم فرنسا المنتدى الدولي السنوي حول السلام والأمن، والذي ينعقد في داكار في نوفمبر أو ديسمبر من كل عام (عُقد المنتدى الأول في ديسمبر 2014)، ويُدعى إليه رؤساء الدول والحكومات الأفريقية والشركاء الدوليون ومنظمات المجتمع المدني والجهات الفاعلة المتعددة المشاركة في قضايا السلام والأمن في أفريقيا.
وإلى جانب هذه اللقاءات، هناك أيضا القمم الفرانكوفونية التي أنشأها الرئيس ميتران في عام 1986 والتي تعقد عادة كل عامين. وتعود أصول الحركة الفرانكفونية إلى عدد خاص من مجلة إسبريت (1962)، الذي ساهم فيه مجموعة من المثقفين والسياسيين، من بينهم الرئيس السنغالي ليوبولد سنغور. وهكذا لعب القادة الأفارقة دوراً رئيسياً في إطلاق الحركة الفرانكفونية وما زالوا يفعلون ذلك: ثلاثة من أمنائها العامين الأربعة (بطرس بطرس غالي، عبده ضيوف، لويز موشيكيوابو) كانوا أفارقة، وما يقرب من نصف الدول الأعضاء في المنظمة تقع في أفريقيا، كما أن هناك أكثر من 96 مليون ناطق بالفرنسية في القارة. وأخيرا، فإن الزيارات الرئاسية الفرنسية المنتظمة إلى أفريقيا، والزيارات التي يقوم بها الرؤساء الأفارقة إلى باريس تساعد في الحفاظ على هذه العلاقة الخاصة. وحتى يومنا هذا، كانت الزيارات الخارجية الأولى التي يقوم بها الرؤساء الفرنسيون إلى أفريقيا هي إلى بلدان في المنطقة الفرنكوفونية: وهكذا، ذهب الرئيس ساركوزي إلى السنغال والجابون في يوليو 2007، بعد شهرين من انتخابه؛ وكانت أول زيارة قام بها هولاند إلى أفريقيا كرئيس هي أيضاً زيارة إلى السنغال في أكتوبر 2010، قبل أن يتوجه إلى القمة الفرنكوفونية في كينشاسا؛ وكانت أول زيارة رسمية لماكرون خارج أوروبا إلى مالي في مايو 2017. .
الركيزة الاقتصادية:
تقع منطقة الفرنك الأفريقي في قلب الرابطة الفرنسية الأفريقية. ومثل الجوانب الأخرى للعلاقة ، تعود جذورها إلى الفترة الاستعمارية. فقد تم إنشاء منطقة الفرنك في نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث تم ربط عملة فرنسا المتروبولية بالعملة المستخدمة في مستعمرات فرنسا في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بسعر ثابت. لم يتغير سعر الصرف هذا من عام 1948 إلى عام 1994، عندما تم تخفيض قيمته فجأة بنحو 50%. ولم تتغير الترتيبات النقدية نفسها مع الاستقلال؛ و على الرغم من أن الفرنك الأفريقي قد تم ربطه باليورو منذ عام 1999 بسعر ثابت فإنه لايزال مضمونا من قبل الخزانة الفرنسية. وتتألف منطقة الفرنك في الواقع من منطقتين نقديتين، الأولى هي : الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا، المستمد من خبرة الاتحاد الاستعماري لأفريقيا الغربية الفرنسية، وهو يضم ثمانية أعضاء (بنين، بوركينا فاسو، كوت ديفوار، غينيا بيساو- المستعمرة البرتغالية السابقة التي انضمت عام 1997]- ومالي والنيجر والسنغال وتوغو). أما المجموعة الثانية فهي المجموعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا، المستمدة من خبرة العه الاستعماري في اتحاد أفريقيا الاستوائية الفرنسية، الذي يضم ستة أعضاء هم: الكاميرون، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وتشاد، وجمهورية الكونغو، وغينيا الاستوائية – مستعمرة إسبانية سابقة انضمت عام 1985- والجابون. وقد كان المقر الرئيسي للبنك المركزي في كلا المنطقتين في باريس حتى أواخر السبعينيات، وتم إصدار الفرنك الأفريقي من قبل البنك المركزي للأقاليم الفرنسية فيما وراء البحار قبل أن يتم نقله إلى بنكين مركزيين إقليميين، يقع مقرهما الرئيسي في كل من داكار وياوندي، وبمقدورهما في النهاية حق إصدار العملة.
ظلت المبادئ التي تعمل بموجبها منطقة الفرنك دون تغيير بشكل أساسي منذ إنشائها حتى عام 2020 (التمثيل الفرنسي في مجالس إدارة البنوك واشتراط أن يحتفظ كل بنك مركزي إقليمي بأغلبية احتياطياته من النقد الأجنبي في حساب تشغيلي لدى الخزانة الفرنسية في باريس -كان الرقم 100% في عام 1960، وانخفض إلى 65% في عام 1972 (. ولا شك ان ذلك ترتيب يعمل لصالح فرنسا إلى حد كبير. إن ضمان الخزانة الفرنسية يجعل دول منطقة الفرنك تعتمد بشكل كبير على فرنسا، حيث لا يمكن تغيير سعر الصرف إلا بعد التشاور مع باريس والقرار بالإجماع من جميع الأعضاء داخل كل منطقة نقدية؛ وهذا يعني أن باريس هي التي تحدد في الواقع قيمة الفرنك الأفريقي. وإذا كان الاستقلال السياسي يتضمن عادة السيادة النقدية، فإن هذه لم تكن الحال بالنسبة لدول منطقة الفرنك.
في الواقع، في يناير 1994، قررت فرنسا خفض قيمة العملة دون استشارة الزعماء الأفارقة، ظاهريًا لخفض سعر المنتجات الأولية لمنطقة الفرنك في السوق العالمية وبالتالي تعزيز الصادرات من منطقة الفرنك الأفريقي. ومع ذلك، فقد خفض ذلك أيضًا بنسبة 50٪ التكلفة التي تتحملها الخزانة الفرنسية لتخفيف عبء الديون ودعم الميزانية لدول منطقة الفرنك، ويعني أيضًا أنها أصبحت أكثر جاذبية للاستثمار بالنسبة الشركات الفرنسية. وقد استفادت الشركات الفرنسية استفادة كاملة من هذا. على سبيل المثال، تتمتع مجموعة بولوريه الفرنسية للخدمات اللوجستية والاتصالات والطاقة بمكانة مهيمنة في مجال سوق النقل والاتصالات في العديد من بلدان غرب ووسط أفريقيا؛ وهي تدير 17 ميناء في أفريقيا، معظمها في أفريقيا الناطقة بالفرنسية. باختصار، تعمل منطقة الفرنك كوسيلة لاستمرار النفوذ الفرنسي من خلال حماية المصالح الاقتصادية لباريس من حيث الوصول إلى الموارد الطبيعية وحماية أسواق السلع المصنعة الفرنسية. على سبيل المثال، تعد الكونغو برازافيل والجابون من الموردين المهمين للنفط، كما كانت النيجر تعد مورداً مهماً لليورانيوم إلى فرنسا، التي تولد 75% من احتياجاتها من الكهرباء من الطاقة النووية.
ركيزة مساعدات التنمية:
تعتبر مساعدات التنمية وسيلة أخرى تحافظ بها فرنسا على نفوذها في أفريقيا. ومن الملاحظ أنه بعد الاستقلال مباشرة، ذهبت كل المساعدات الفرنسية تقريبًا إلى أفريقيا الفرنسية جنوب الصحراء الكبرى. وكانت وزارة التعاون، التي أنشئت عند الاستقلال خلفا لوزارة ما وراء البحار الفرنسية (الوزارة الاستعمارية السابقة، التي أعيدت تسميتها في عام 1946)، تدير غالبية هذه المساعدات ولذلك أطلق عليها البعض بحق وزارة أفريقيا الفرنكوفونية. والواقع أن أكثر من نصف ميزانية مساعدات التنمية الفرنسية تذهب إلى أفريقيا حتى يومنا هذا، مع تخصيص أغلبها لأفريقيا الناطقة بالفرنسية. ومع ذلك، فإن برنامج المساعدات الفرنسي يتسم بالغموض الشديد، مع وجود مجموعة من الإدارات الحكومية المختلفة التي تقدم المساعدة لأفريقيا الناطقة بالفرنسية: وقد شملت هذه الدوائر وزارة التعاون (إلى أن تم إلغاؤها ودمجها مع وزارة الخارجية في عام 1997)، ووزارة المالية والخزانة ووزارة التربية والتعليم ووزارة الدفاع. ونتيجة لذلك، ظلت الأرقام الحقيقية للمساعدات الفرنسية لغزا لسنوات. ومن المثير للاستغراب أن معظم ما تزعم فرنسا تقديمه على أنه “مساعدات”، هو في الواقع أموال مصدرها الأفارقة أنفسهم.
تفسير ذلك هو أن الخزانة الفرنسية تقوم بتوزيع رأس المال الناتج عن الفوائد التي تدفعها على ودائع العملات الخاصة بدول منطقة الفرنك إلى البنوك المركزية في مناطق الفرنك، ولكنها تقوم بعد ذلك بإدراج هذه الفائدة في أموال مساعدات التنمية الفرنسية الممنوحة للدول الأفريقية. وقد غذت هذه الممارسات التصور القائل بأن المساعدات الفرنسية يتم تخصيصها بهدف الحفاظ على اعتماد البلدان المتلقية على فرنسا واستدامة شبكات فرنسا الأفريقية، وليس لصالح شعوب البلدان المتلقية. وحتى اليوم، نادرًا ما تذهب المساعدات الفرنسية إلى أفقر فئات المجتمع الأشد حاجة. على سبيل المثال، في عام 2016، تلقت البلدان الأقل نموا 19% فقط من المساعدات الثنائية الفرنسية، مقارنة بـ 79% تذهب إلى البلدان المتوسطة الدخل. كما وخصصت فرنسا 14% فقط من مساعداتها للدول السبعة عشر ذات الأولوية. مما لا شك فيه أن الشركات الفرنسية تستفيد من المساعدات التي يتم توجيهها إلى البلدان المتوسطة الدخل أكثر مما تحصل عليه من المساعدات المقدمة إلى البلدان الأكثر فقرا، حيث يوجد عدد أقل من فرص الأعمال. لكن هذه ليست الفائدة الوحيدة التي تجنيها فرنسا من هذه العلاقة حيث تعزز العلاقات الاقتصادية الوثيقة مع دول منطقة الفرنك النفوذ الاقتصادي الفرنسي والمصداقية الدولية في وقت يتعرض فيه موقعها ونفوذها في أفريقيا لضغوط متزايدة من الصين والدول الصاعدة لأخرى.
الركيزة الثقافية:
وبعيدًا عن الاقتصاد والسياسة، كانت القوة الناعمة في العلاقة الفرنسية الإفريقية عبارة عن خبراء تقنيين، ومتطوعي مساعدات، وإداريين، ومدرسين في المراحل الابتدائية والثانوية والجامعية. وفي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كان العديد من هؤلاء المتعاونين، كما كان يُطلق عليهم، مسؤولين استعماريين سابقين أو مدرسين بقوا بعد الاستقلال لشغل مناصب في الحكومة وأنظمة التعليم في الدول المستقلة حديثًا والتي كانت تفتقر إلى الموظفين المؤهلين المدربين محليًا. ولكن بحلول الثمانينيات، كان هناك جيل جديد من المتعاونين يتطوعون للعمل في أفريقيا. وكان بعض هؤلاء شبابًا فرنسيين تطوعوا للعمل في الخارج لفترة من أجل المساهمة في تنمية مستعمرات فرنسا السابقة؛ وكان العديد منهم من الشباب الذين، استبدلوا أداء الخدمة العسكرية لمدة عام، بالعمل في الخارج لفترة أطول في مشاريع مدنية، أو ما يسمى بالخدمة المدنية. وفي كلتا الحالتين، كان النظام هو الذي شجع أعداداً كبيرة من الشباب الفرنسي وأسرهم على قضاء عدة سنوات في بعض الأحيان في دولة أفريقية ناطقة بالفرنسية، وبالتالي خلق شبكات من الاتصالات الشخصية التي استمرت لفترة أطول بكثير من فترة التعاون. وبحلول نهاية القرن العشرين، كانت معظم الأحياء، حتى في الأجزاء النائية من فرنسا، لديها اتصال مع الأشخاص الذين أمضوا بعض الوقت في العمل في أفريقيا. وفي الوقت نفسه، كانت أعداد متزايدة من الأفارقة تهاجر إلى فرنسا. إن القبول الواسع النطاق لفكرة الرابطة الخاصة بين فرنسا وأفريقيا، وخاصة أفريقيا الناطقة بالفرنسية، وعدم وجود انتقادات علنية لهذه العلاقة على مدى السنوات الثلاثين الأولى أو نحو ذلك بعد الاستقلال، لا يمكن فهمه دون تقدير كلا الطرفين سياسة التعاون وكيفية عملها وأهمية زيادة الهجرة الأفريقية إلى فرنسا. أدى هذا إلى إنشاء شبكة كثيفة من الروابط بين فرنسا وأفريقيا التي امتدت إلى عمق المجتمع الفرنسي.
الركيزة العسكرية:
تعود سمعة فرنسا باعتبارها “دركي أفريقيا” إلى الستينيات. إنها سمعة ترجع جذورها إلى حقيقة أن فرنسا احتفظت – ولا تزال تحتفظ – بالعديد من القواعد العسكرية في أفريقيا بعد الاستقلال، وأنها وقعت، عند الاستقلال أو بعد فترة وجيزة، اتفاقيات دفاع ومساعدات عسكرية مع معظم مستعمراتها السابقة في أفريقيا الناطقة بالفرنسية، وربما قبل كل شيء، إلى تاريخ تدخلها العسكري في أفريقيا. ويعكس هذا الوجود والنشاط العسكري في أفريقيا الدور المركزي الذي تلعبه القارة في إبراز القوة الفرنسية في الخارج وفي الحفاظ على صورة فرنسا كقوة عظمى على المسرح العالمي.
تعود فكرة الارتباط الوثيق بين الدفاع عن فرنسا المتروبولية وأفريقيا الناطقة بالفرنسية إلى إنشاء الرابطة التي تأسست في عام 1958وتضم فرنسا ومستعمراتها الفرنسية السابقة، ومعظمها في أفريقيا. وبموجب دستور الرابطة ظلت بعض المجالات الرئيسية مثل الدفاع والشؤون الخارجية والسياسة النقدية تحت السيطرة الفرنسية، مما يعني أن أي تهديد لدولة عضو في الرابطة يعتبر أيضًا تهديدًا لباريس. سرعان ما ثبت أن عمر الرابطة قصير الأمد، حيث نالت الدول الناطقة بالفرنسية جنوب الصحراء الكبرى استقلالها في عام 1960 (باستثناء غينيا، التي حصلت على استقلالها في عام 1958). ومع ذلك، فإن السابقة المتمثلة في الارتباط الوثيق بين الدفاع عن فرنسا وأفريقيا الناطقة بالفرنسية قد تحققت وتم تجسيدها من خلال التوقيع على اتفاقيات الدفاع والمساعدة العسكرية.
وكان هناك نوعان من الاتفاقيات: اتفاقيات الدفاع، والتي بموجبها يمكن للدول الأفريقية أن تطلب الدعم العسكري الفرنسي لمواجهة التهديدات الخارجية (تنص البنود السرية أيضًا على التدخل الفرنسي في حالة وجود تهديدات داخلية للنظام)، واتفاقيات المساعدة العسكرية، التي تعهدت فرنسا بموجبها بتزويد الدول الأفريقية بالتكنولوجيا ومستشارون وتدريب ضباط في المدارس العسكرية الفرنسية، ويمكن للجنود الفرنسيين الخدمة في جيوش الدول الأفريقية، كما منحت فرنسا الحقوق الحصرية لتزويد الجيوش الوطنية بالمعدات العسكرية. كان الغرض من هذه الاتفاقيات هو الحفاظ على نفوذ فرنسا في حدودها التقليدية، حيث تم توقيع اتفاقيات أيضًا مع بوروندي ورواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية (زائير سابقًا). والأهم من ذلك، أنها منحت فرنسا امتياز الوصول إلى مناطق ذات أهمية استراتيجية من حيث المواد الخام، مثل النفط واليورانيوم والمعادن الأخرى.
وبنفس أهمية الاتفاقيات العسكرية والقوات الفرنسية المتمركزة بشكل دائم في القواعد العسكرية، كان استعداد لاستخدامها: يسرد البعض أكثر من 50 تدخلًا عسكريًا فرنسيًا في إفريقيا بين عامي 1960 و2008. وقد أدت هذه التدخلات عدداً من الوظائف: إخماد التمردات الداخلية (على سبيل المثال في الكاميرون وموريتانيا والكونغو وتشاد في الستينيات وفي عدة مناسبات بعد ذلك؛ أو تقديم الدعم للقادة الأفارقة الذين كانوا أصدقاء لفرنسا (مثل الجابون، 1964)؛ أو لاستعادة النظام (الكونغو، الجابون، 1960)؛ أو الدفاع عن السلامة الإقليمية لدولة صديقة ذات أهمية استراتيجية (تشاد، التدخلات المتكررة منذ أواخر الستينيات فصاعدًا). كما كانت التدخلات الفرنسية بمثابة تحذير للقوى الخارجية الأخرى من التدخل في شؤون مستعمرات فرنسا المسبقة، وللزعماء الأفارقة أنفسهم بأنهم لا ينبغي لهم أن يبحثوا عن حلفاء آخرين.
ومع ذلك، لم يقتصر النشاط العسكري الفرنسي على استخدام القوات النظامية. كان يعمل تحت الغطاء وخارج المعايير القانونية للجيش والشرطة الفرنسية بعض المرتزقة. ولعل أشهر هؤلاء كان بوب دينارد، الذي شارك في سلسلة من الانقلابات ومحاولات الانقلاب، لا سيما في بنين (1977)، وجزر القمر (4 عمليات، 1978-1995). من خلال العمل في الظل، تم التغاضي عن أفعاله بشكل غير رسمي – على سبيل المثال، عندما كان يناضل لمنع انتشار الشيوعية في أفريقيا – ولكن كان من الممكن دائمًا إنكار ذلك رسميًا إذا سارت الأمور على نحو خاطئ.
في الختام، كانت علاقة فرنسا بإفريقيا راسخة بعمق في استراتيجيتها في مرحلة ما بعد الاستعمار، مع التركيز على الحفاظ على النفوذ والقوة في المنطقة. وكانت رؤية ديجول، التي تجسدت في أربع ركائز استراتيجية، بما في ذلك الحفاظ على النفوذ في أفريقيا، بمثابة الأساس لعلاقة فرنسا الخاصة مع مستعمراتها السابقة. وقد تمت تنمية هذه العلاقة والحفاظ عليها من خلال وسائل مختلفة، بما في ذلك العلاقات الاقتصادية، واتفاقيات الدفاع، والتدخلات السياسية، والتي غالباً ما أشرفت عليها شخصيات مؤثرة مثل جاك فوكار. إن الدور المهيمن الذي تقوم به مؤسسة الرئاسة وممارسة السياسة الأفريقية خلف أبواب مغلقة في الإليزيه أسهم في فشل السياسة الأفريقية الجديدة التي أعلنها الرئيس ماكرون في عام 2017. وإذا كانت الأبوية إرثاً من الماضي الاستعماري البعيد، فإن هذه الثقافة لا تزال حية إلى حد كبير، وهي ليست مشكلة أجيال فقط، على عكس ما قد يعتقده المرء لأول وهلة. وهكذا، تتضح هذه النزعة الاستعلائية في مناسبتين:
الأولى: خطاب الرئيس ساركوزي بداكار حينما قال أن “الرجل الأفريقي لم يدخل التاريخ بما فيه الكفاية وأن العصر الذهبي الذي تتأسف عليه أفريقيا لن يعود؛ لأنه ببساطة لم يوجد…”.
الثانية: من خلال مضاعفة الأخطاء الدبلوماسية للرئيس ماكرون (بوركينا فاسو، جمهورية الكونغو الديمقراطية، جزر القمر). وعليه فإن السياسة الإفريقية يجب أن تتخلص من أبوية ثقافية معينة تضر بصورة فرنسا.
وعلى الرغم من الديناميكيات العالمية المتطورة والدعوات لإنهاء الاستعمار، واصلت فرنسا إعطاء الأولوية لمصالحها في أفريقيا، وتشكيل المشهد السياسي والاقتصادي في المنطقة. ومع ذلك، وبينما يتحرك العالم نحو تحقيق قدر أكبر من المساواة وتقرير المصير للدول الأفريقية، فإن مستقبل علاقة فرنسا مع أفريقيا قد يواجه تحديات ويتطلب إعادة تقييم من أجل التكيف مع الحقائق المتغيرة وتعزيز الشراكات ذات المنفعة المتبادلة.