في عام 2013, قدّر مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) في إحدى التقارير المبلغَ المنهوب من خزينة نيجيريا من الاستقلال إلى عام 1999 بــ 600 مليار دولار. وأكّد البروفيسور “فستوس إيايي” من جامعة بنين (ولاية بنيجيريا) في العام نفسه, أن تقدير الأمم المتحدة صحيح, وأن سارقي المبلغ هم النخبة النيجيرية.
وكما صرح وزير الإعلام والثقافة في هذا الأسبوع، فقد قام 55 شخصا نيجيريين بسرقة أكثر من 1.34 تريليون نايرا من خزينة البلاد خلال عامي 2006 و 2013.
كان الرئيس الحالي لنيجيريا معروفا بحرصه الشديد لمكافحة الفساد, بل في خطابه في عام 2014 وهو يعرب عن رغبته للترشح للرئاسة, قال: “هناك صلة واضحة بين مليارات نايرا خُسرت أمام الفساد وبين سوء أحوال معيشة شعبنا : فهي الموارد المعنية لتطوّر شعبنا والتي يتم تحويلها لخدمة جشع جماعة قليلة. ذلك هو الخوف من المجهول, في بلد انهارت كل من الرعاية الأسرية والاجتماعية الحكومية والتي تغذي طمع الموجودين في مكاتب للسرقة لأجيال لم تولد بعد ” .
كانت محاربة الفساد في نيجيريا مهمة صعبة, ومع ذلك فهي العنوان الرئيسي لحملة “محمد بخاري” الرئيسي مما ساهم في فوزه لرئاسة الجمهورية. فمنذ توليه للمنصب؛ لا يزال يستمر في التزامه بذلك. فقد قام بإقالة العديد من كبار المسؤولين الذين ينظر إليهم على أنهم فسدة، كما أنه جعل ضمن شروطه الأساسية لتعيين وزرائه وحكومته “طهارة اليد والسمعة” ، وأمر “لجنة الجرائم الاقتصادية والمالية” (EFCC) لإطلاق تحقيقات موسّعة شاملة في سلوك زعماء العسكر وكبار المسئولين المدنيين, مما أدى إلى اعتقالات الكثيرين. وكثّف “بخاري” جهوده بالتماس المساعدة من عدة دول عالمية من أجل وضع حد للفساد.
في أكتوبر عام 2015، ناشد “بخاري” الحكومتين البريطانية والسويسرية لدعم حكومته لضمان استرداد الأموال المسروقة, فأعطت كل من بريطانيا وسويسرا دعمها لنيجيريا. وبالإضافة إلى الخطوات السابقة، فقد سافر يوم الثلاثاء الماضي إلى دولة الإمارات العربية المتحدة, حيث تم التوقيع على اتفاقيات لها علاقة بالمساعدة القانونية المتبادلة في المسائل الجنائية والتجارية. وبموجب هذه الاتفاقات ستقوم دولة الإمارات بإعادة الأموال النيجيرية المسروقة من قبل السياسيين المتهمين حيث استثمروا بها وأودعوها في بنوك دبي وأبوظبي, والتي تقدر بحوالي 200 مليار دولار إضافة إلى تسليم السياسيين والمسئولين الفارين من العدالة للحكومة النيجيرية.
ومنذ بداية الحملة ضد الفساد, تم اعتقال كل من مستشار الأمن القومي السابق “سَمْبو دسوقي” , ووزيرة البترول في إدارة الرئيس السابق “أليسون ديزاني مادويكي” التي قبضت عليها في لندن نتيجة التحقيق البريطاني. ومع كل ما سبق، فقد أذهب “محمد بخاري” بحملته ضدّ إلى أبعد مدى منذ استئناف الحكومة المدنية في عام 1999.
الفساد والقضاء على بوكو حرام:
إن أكبر قضية أمام المحكمة النيجيرية حتى الآن, والتي تفرع منها عدة قضايا متعلقة بالنهب والسرقة؛ قضية “داسوقي” الموسومة لدى الإعلام بـ”بوابة داسوقي”، الذي اتُّهِم بـ”غسل الأموال وخرق الثقة العامة” ؛ إذ وجهت إليه تهمة سرقة مبالغ هائلة وُضعت لمحاربة بوكو حرام, وبفعله هذا كان يعرقل مجهودات الجيش في حربها ضد الجماعة. وأثناء الاعتقال, وُجد في بيته خمس سيارات فاخرة مضادة للرصاص وسبع بنادق هجومية.
كان “داسوقي” الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي للرئيس السابق “غودلاك جوناثان”، ليس فقط متهما باكتناز أسلحته الخاصة, بل هو متهم بسرقة أكثر من 2 مليار دولار من خزانة الجيش, الأموال التي كان من المفترض أن يشترى بها السلاح, ووزعها لأعضاء حزب الشعب الديمقراطي, وهو حزب الرئيس السابق وذلك لتمويل حملة إعادة انتخابه الفاشلة. ووفقا لأحد الجنود المقاتلين لبوكو حرام, كان هناك نقص في الموارد, وحتى أسلحتهم التي يستخدمونها خالية من الرصاص, وليس في مركباتهم الغاز, بل القادة صرحوا لهم بأنه لا يوجد وقود ولا يوجد لديهم مال لشرائه, بما يعني أنه لا يوجد أي قدرة لمحاربة الجماعة.
لقد سيطرت بوكو حرام على مساحة واسعة في شمال شرق البلاد، مما أدى إلى وفاة آلاف من المدنيين, بل وأدّى إلى فرار الجنود من ساحة القتال. وكان “دسوقي” في ذلك الوقت هو المسؤول عن شراء الأسلحة والذخائر, بل هناك وثيقة حكومية رسمية تشير إلى أن مكتبه طلب تحويل مبلغ يقدر بـ 47 مليون دولار. وهناك شواهد أخرى تفيد بأن البنك المركزي دفع كل المبلغ له نقدا، وأنه نُقل في عربات مدرعة بالليل. ومع كل التّهم الموجهة إليه, فما زال “سمبو دسوقي” مصرّا على أنه بريئ وأن كل العمليات تمّ إجراؤها بناء على طلب من الجيش, بل وأضاف محاميه بأن كل تصرّفاته كانت بموافقة من الرئيس السابق, غير أن حكومة “بخاري” تؤكد بأنه لا يمكنه الإفلات أو إطلاق سراحه بتحويل اللوم إلى غيره.
إن المتأمل في أنشطة قوات الأمن النيجيري, يدرك مدى ضعفها، وما من شك في أن هذا الضغف مرتبط بالفساد, لأن الأموال التي خصصت للأسلحة ورعاية الجنود المصابين لا تصل إلى مكانها. إلا أنه يبدو وكأن أجواء البلاد تغيرت, فهي لم تعد كالمعتاد, إذ حملت الحكومة الراهنة على عاتقها محاكمة الذين نهبوا أموال الدولة وتسعى بكل قواتها لاستردادها.
في الأشهر التسعة الماضية، اشترى الجيش أسلحة جديدة، وبمساعدة من جيوش الدول المجاورة والدول الأجنبية، تم استعادة جل الأراضي التي سيطرت عليها بوكو حرام, حتى وإن كانت الجماعة لا تزال تواصل هجماتها. وصدق الرئيس “محمد بخاري” في قوله, إذا لم تقتل نيجيريا الفسادَ، فبإمكان الفساد قتلُ نيجيريا.
وفي ديسمبر العام الماضي, منحت محكمة في أبوجا إطلاق سراح “دسوقي” بكفالة, لكن الحكومة لم تستجب للحكم فظل محبوسا دون الوصول إلى محاميه بينما ينتظر بدء ثلاث محاكمات أخرى ضده. ولعلّ هذا هو سبب التصريح الذي أصدره محاميه, إذ يرى أن الرئيس “بخاري” عاد إلى سياساته الاستبدادية القديمة من أيام حكمه العسكري في الثمانينات.
محاربة الفساد.. انتقادات وثناءات
من الاتهامات التي وجهت إلى حكومة “بخاري”، أن كثيرا من الذين قبض عليهم أو أحيل للتحقيق هم من المسيحيين من المناطق التي صوتت لحزب “جوناثان” دون “بخاري”. لكن الأمر غير صحيح الإطلاق, لأن الواقع ينفي ذلك، فهناك مسلمون متهمون ومعتقلون من الشمال (بما في ذلك “سمبو دسوقي” مستشار الأمن القومي السابق والمقرب من الرئيس “بخاري” نفسه).
ومن المعتقلين المسجونين في الأسابيع الأخيرة, وزير الدعاية القومية في حزب الشعب الديمقراطي “أوليسا ميتوي” بتهم المشاركة في نهب أموال الجيش. وقد أدى سجنه إلى دعوة “آيك إكويري مادو” نائب رئيس مجلس الشيوخ الحكومةَ إلى احترام سيادة القانون وألا تدوس على حقوق المواطنين بدعوى أنه يكافح الفساد, معربا عن قلقه من ألا تنحدر البلاد إلى الحكم الاستبدادي، مضيفا إلى أن احتجاز “أوليسا ميتوي” كان محاولة من الحكومة لإسكات المعارضة، وبالتالي فالاحتجاز “غير صحية للديمقراطية”.
كما أن هناك أوامر من المحكمة العليا في أبوجا للقبض على زعيم ميليشيا منطقة النيجر-دلتا الغنية بالنفط المعروف بـ “تومبولو” بتهمة الفساد، وهو من حلفاء “جوناثان” السياسيين الأسوء سمعة . ونتيجة لصدور الأوامر بأيام, قام مسلحون بمهاجمة أنابيب النفط والغاز الموجودة في المنطقة, تحذيرا للحكومة من اعتقال زعيمهم, وهذا الهجوم تسبب في إغلاق اثنين من أربعة مصافي نفط البلاد.
هذا, ونال جهود “محمد بخاري” إعجاب الكثيرين, فأثنى عليه غالبية المواطنين والسياسيين الوطنيين, وخاصة في جهوده لإصلاح مكررات النفط التي تعطلت منذ فترة الرئيس السابق, إضافة إلى استرداده للأموال المنهوبة من المعتقلين. وتجدر الإشارة أيضا إلى أن “جون كيري” أشاد يوم أمس بمجهودات “بخاري” للقضاء على الفساد, وذلك في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا, حيث قال: ” تم الإبلاغ عن أن أكثر من 50 شخصا، بينهم مسؤولون حكوميون سرقوا أكثر من 9 مليارات دولار في نيجيريا..” ، “الفساد يكلف الاقتصاد العالمي أكثر من تريليون دولار سنويا، ويعقد الأمن والأولوية الدبلوماسية والاجتماعية “.
إن مكافحة الفساد في نيجيريا يجب أن تكون مسئولية الجميع, فمثلا, إن ثلث المبلغ الذي نهبه 55 شخصا فقط، يكفي لبناء 635،18 كيلومترا من الطرق, وعدد 36 من أرقى المستشفيات الحديثة في الدولة، وعدد 183 مدارس, وتعليم 3974 أطفال من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الجامعية على حساب 25.24 مليون لكل طفل, وبناء 20,062 وحدات من منازل ذوات غرفتين.
وبموجب كل سبق, فهل ننصح الحكومة بأن ترعوي عن مهمّتها, بحجة أنها منحازة, فينجوا اللصوص بفعلتهم, خاصة وأن الذين يلومون الحكومة الحالية هم أفراد الحكومة السابقة المتهمين؟!
فما على الجميع كمواطنين أن يشاركوا في الحرب على الفساد, لأن الهزيمة فيها ليست خيارا إذا ما كنا نريد للدولة البقاء والتقدم والتطور.