ضرب السنغاليون في الحفاظ على ديمقراطيتهم الواعدة أروع الأمثلة؛ حينما لقَّنوا الائتلاف الحاكم درسًا قاسيًا واضحًا حاسمًا؛ حيث قالوا كلمتهم في الانتخابات الرئاسية لعام 2024م، “لا ردة إلى الدكتاتورية في السنغال”، ففي ردّهم على محاولات الائتلاف الحاكم الحثيثة، للبقاء في السلطة عبر وسائل وأدوات غير ديمقراطية، جاءوا برئيسهم الجديد من السجن إلى قصر الرئاسة في العاصمة داكار.
وعلى الرغم من صمودها؛ مرّت التجربة الديمقراطية السنغالية منذ نشأتها، بمنعطفات كادت فيها أن تنتكس، غير أن إرادة السنغاليين كانت أقوى من كل النزعات الدكتاتورية، التي تعتري كل جالس على مقعد السلطة، فانتصرت عليها، واجتازت كل العثرات، وها هي تتمثل في نموذج يُحتذَى، مُلهِم لكل الشعوب الإفريقية، مُنذر لكل مَن تُسوّل له نفسه من الحُكام تجاهل إرادة الشعوب.
وقد كان منعطف الانتخابات الأخير منعطفًا حادًّا، كاد أن يُدخل البلاد في دوّامة من العنف والاقتتال الأهلي، وبخاصة في ظل نمط الثقافة السياسية “المشاركة” السائد في السنغال، لولا ما تتسم به الثقافة العامة السنغالية، من إعلاء لقِيَم التسامح والتعايش وقبول الآخر.
ومع ذلك لا يزال أمام السنغاليين منعطف أخير قد يُنغّص عليهم انتصارهم؛ فالانتخابات البرلمانية والمحلية أمامها أكثر من ثلاث سنوات، والبرلمان الحالي يحظى فيه الائتلاف الحاكم المهزوم بالأغلبية، فيم يفتقر حزب الرئيس الفائز، إلى أغلبية المرور عبر بوابة البرلمان، ما لم يستقطب نوابًا من أحزاب أخرى، بما في ذلك الحزب الخاسر، ومن المعلوم أن لمثل هذا الاستقطاب ثمنًا سياسيًّا، وهو ما يفتح باب المساومات السياسية، فهل يمكن للرئيس الشاب، الوافد الجديد من خارج دولاب الدولة، قيادة ديناميات العملية السياسية الملتهبة إلى بر الأمان؟
تجيب هذه الورقة عن هذا التساؤل في المحاور التالية:
الديمقراطية في السنغال… عثرات وصمود:
على الرغم من إطلاق التعددية الحزبية الكاملة في السنغال أوائل الثمانينيات؛ إلا أن التجربة الديمقراطية السنغالية لم تُؤتِ بعض ثمارها، إلا حينما استطاعت أصوات السنغاليين انتزاع السلطة، من الحزب الحاكم “الحزب الاشتراكي” Parti Socialiste “PS”، الذي استمر في السلطة منذ الاستقلال مطلع الستينيات، حتى مطلع الألفية الثالثة، وما أن بدأت التجربة السنغالية حتى توالت العثرات، وتابع السنغاليون اجتيازها.
وأولى هذه العثرات بدأت مع أول تداول للسلطة، حينما فاز “عبد الله واد” Abdoulaye Wade بالرئاسة، لكنَّ حزبه “الحزب الديمقراطي السنغالي” Parti Démocratique Sénégalais “PDS”، لم يُحْرِز حينئذ الأغلبية في البرلمان، ومن هنا استطاع البرلمان بقيادة “الحزب الاشتراكي” -خاسر السلطة- أن يُعدّل الدستور ويُقلّص مدة ولاية الرئيس إلى (5) سنوات، وخروجًا من المأزق تم حل البرلمان، وأُجريت انتخابات برلمانية مبكرة عام 2001م، فاز بها ائتلاف “التغيير” ويقوده حزب الرئيس “واد”، وفي انتخابات عام 2007م أعيد انتخاب “واد” وحزبه وائتلافه لولاية جديدة مدتها (5) سنوات.([1])
وفي ثاني العثرات وقبل انتخابات عام 2012م عَدَّل “واد” الدستور، وأعاد ولاية الرئيس إلى (7) سنوات، تمهيدًا للترشح للرئاسة للمرة الثالثة، ومع أنه واجَه ضغوطًا كبيرة داخلية وخارجية، إلا أنه لم يستجب لها وخاض الانتخابات، وفي تلك الأثناء استقال “ماكي سال” Macky Sall رئيس الوزراء من حزب “واد”، وشكَّل مع بعض المستقيلين معه حزب “التحالف من أجل الجمهورية” Alliance pour la République “APR”، وتزعم هذا الحزب الجديد ائتلافًا من أحزاب صغيرة، وخاض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية ضد “واد” وحزبه، وفاز “سال” بالرئاسة وحزبه وائتلافه بأغلبية برلمانية، وعام 2016م قلص “سال” مدة الرئاسة مرة أخرى إلى (5) سنوات، وفي انتخابات عام 2019م أُعيد انتخاب “سال” رئيسًا لولاية ثانية، واحتفظ حزبه” وائتلافه بأغلبية برلمانية مريحة.([2])
تعثر انتخابات 2024م … وحالة من اللا يقين:
شهدت ولاية “سال” الثانية أحداثًا خطيرة، عكّرت صفو الديمقراطية السنغالية؛ ففي الوقت الذي أخفق “سال” وحكوماته وحزبه في مواجهة بعض التحديات الاقتصادية، اشتد ساعد المعارضة لدرجة أنها في الانتخابات المحلية، التي أُحريت في يناير عام 2022م، اقتنصت الفوز في أهم مدينتين سنغاليتين؛ وهما: العاصمة السنغالية “داكار”، وفاز بها المعارض “بارتيليمي دياس” Barthélémy Dias، وعاصمة إقليم كازامانس “زيجينيشور”، وفاز بها المعارض “عثمان سونكو” Ousmane Sonko([3])، وهو ما أقلق النظام الحاكم، فشدَّد قبضته الأمنية وضيّق على المعارضة، واستخدم الأدوات المؤسسية، ومنها: حظر الاحتجاجات، وحل الأحزاب، وتلفيق الاتهامات للمعارضين البارزين؛ للنَّيْل من شعبيتهم، واستبعادهم من المنافسة.([4])
“ماكي سال” … ونزعات الدكتاتورية:
وعلى نهج سلفه؛ حاول “سال” التشبث بالسلطة، ولاحت في الأفق مؤشرات تنذر بإمكانية ترشحه لولاية ثالثة، وعلى الفور ثارت ثائرة السنغاليين، ووصل الأمر إلى خروج مظاهرات واحتجاجات، وحدوث احتكاكات بين المعارضين وقوات الشرطة، قُتل وأصيب فيها كثيرون، واعتُقِل على إثرها معارضون بارزون، فاضطر “سال” إلى العدول عن فكرة ترشحه لولاية ثالثة، وصرّح لأول مرة بنيته عدم الترشح.
لكن حزب “سال” الحاكم واجَه مشكلة كبيرة، تتمثل في عدم وجود بديل قويّ يمكنه ضمان الفوز في الانتخابات الرئاسية، فوقع اختياره على رئيس الوزراء “أحمدو با” Amadou Ba، وراح يمهّد له الطريق عبر حظر المنافس الأقوى، وهو حزب “الوطنيون الأفارقة السنغاليون من أجل العمل والأخلاق والأخوة” “باستيف” Patriotes Africains du Sénégal pour le Travail, l’éthique et la Fraternité “PASTEF”، واتهام مؤسسه القيادي المعارض “سونكو” بالدعوة الى التمرد والتآمر ضد الدولة، وتُهَم جنائية أخرى ملفّقة، وتم توقيفه والحكم بإدانته، فاضطر “سونكو” إلى الدفع بالأمين العام لحزبه، وهو صديقه السياسي الشاب “بشيرو ديوماي فاي” Bassero Diomay Faye، لخوض الانتخابات الرئاسية، فتم اعتقاله هو الآخر بتُهَم مُسيَّسة، وبهذا استطاع نظام “سال” عبر المجلس الدستوري، استبعاد “سونكو” من السباق الرئاسي، لكنه لم يتمكن من استبعاد “بشيرو”.([5])
ونظرًا لعدم ثقته في قدرة مرشحه على حسم نتيجة الانتخابات؛ لجأ “سال” وحزبه وائتلافه الحاكم، إلى تأجيل الانتخابات لأطول فترة ممكنة، وتمديد ولاية “سال” الرئاسية عبر البرلمان، تحت ستار إجراء حوار وطني تعزيزًا للقيم الديمقراطية؛ إلا أن هذه الحيلة لم تنطلِ لا على المعارضة السياسية، ولا على الجماهير، وخرجت احتجاجات ومظاهرات، وحدثت احتكاكات مع قوات الأمن، خلَّفت قتلى ومصابين ومعتقلين، ما اضطر معه المجلس الدستوري إلى إلغاء قانون تأجيل الانتخابات، وإلزام “سال” بإجراء الانتخابات في أقرب وقت ممكن، فحاول “سال” المراوغة فرفضت المعارضة محاولاته، ما جعل المجلس الدستوري يحدد موعدًا إلزاميًّا، لإجراء الانتخابات قبل انتهاء ولاية سال”، وهو 24 مارس 2024م([6]).
“بشيرو” … بشير ونذير:
قبيل الانتخابات حاول “سال” أن يتجمّل، لينقذ مرشحه وحزبه وائتلافه الحاكم، فأصدر قانونًا بالعفو عن المتهمين المحتملين، الذين ارتكبوا جرائم في سبيل حماية النظام، وعن المعتقلين السياسيين من المعارضة، وعلى إثر ذلك أُفرج عن المعارضين الأبرز، وفي مقدمتهم “سونكو” ومرشحه “بشيرو”، لكن ذلك لم يمحُ من ذاكرة السنغاليين ما عانوه من انتهاكات تحت حكم نظام “سال”، وفي أبلغ رد على تلك الانتهاكات وهذه المراوغات، صوَّت السنغاليون لصالح مرشح المعارضة الأبرز، السياسي الشاب “بشيرو فاي” الخارج لتوّه من السجن، على الرغم من أنه يُعدّ وافدًا جديدًا على مؤسسات العمل السياسي في الدولة.([7])
ويُعدّ التصويت لصالح “بشيرو”، وفوزه من الجولة الأولى، وبفارق كبير عن مرشح النظام الحاكم، من زاوية أولى بمثابة بشير خير، ينبئ بأن إرادة السنغاليين لا تزال قوية، وبأنهم عازمون على حماية ديمقراطيتهم، ومن زاوية ثانية بمثابة نذير شؤم لكل الأنظمة، التي تنتهج أساليب ووسائل وأدوات ملتوية، للتحايل على القيم الديمقراطية، يحذرهم بأن الشعوب أصبحت أكثر وعيًا وكشفًا للحقائق، ويؤكد على أنه يمكن للشعوب إذا أرادت، أن تنزع السلطة من الأنظمة الدكتاتورية، أو تجبرها على الاستجابة لمطالبها.
كلمة السر… الثقافة السياسية “المشاركة”:
في معرض تفسير مخرجات العملية السياسية، التي جرت مؤخرًا في السنغال، وانتهت بهذه النتائج المذهلة لانتخابات عام 2024م الرئاسية، يمكن القول بأن ما حدث يرجع لكون الثقافة السياسية في السنغال، تندرج ضمن نمط “الثقافة السياسية المشاركة” Participant Political Culture؛ وذلك بأن الديمقراطية في السنغال تُعدّ من التجارب الحديثة، وأن الأطراف فيها يتمتعون بدرجة عالية من التفاعل مع مدخلات ومخرجات النظام، وأن المواطن يدرك أن له دورًا سياسيًّا إيجابيًّا، وتلك هي المعايير التي يتطلبها “جابريل ألموند” و”سيدني فيربا” لتصنيف الثقافة السياسية ضمن هذا النمط.([8])
وفي مثل هذا النمط من الثقافات السياسية، تتحلى النخب السياسية، وكذلك الشعوب، بقَدْر كبير من القدرة على تحمُّل الأثمان، وتقديم التضحيات، والمبادرة، والمثابرة، وقوة الإرادة، والتمسك بالقِيَم، والتصميم على الفعل، وهو ما تنبئ به القراءة المتأنية لديناميات ما جرى في السنغال، وعلى الرغم من التعددية الإثنية الشديدة، ساعدت السمات السائدة في المجتمع السنغالي، مثل التسامح والتعايش وقبول الآخر، على إحباط محاولات النظام الحاكم الحثيثة، لبثّ الفُرقة بين مكوّنات المجتمع، وبخاصة بين القوى السياسية الفاعلة، بل إن ذلك زادها إصرارًا على إمضاء إرادتها، وإحداث التغيير المنشود.
منعطف أخير ينتظر “بشيرو”:
نظرًا لعدم تزامن الانتخابات العامة، الرئاسية والبرلمانية والمحلية في السنغال، بسبب التغيير المتكرر لمدة ولاية الرئيس، يتعرض النظام السياسي السنغالي لمأزق كبير، كلما حدث تداول للسلطة، مثلما حدث قبل ذلك في أعقاب انتخابات عام 2000م الرئاسية، حينما فاز “عبد الله واد” بالرئاسة، وهو من خارج “الحزب الاشتراكي” الحاكم، الذي كان يسيطر آنذاك على البرلمان، ما ألجأ “واد” إلى حل البرلمان، وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة.
ويواجه الرئيس “بشيرو” الفائز هذه المرة نفس المأزق؛ فهو لا ينتمي إلى الحزب الحاكم “التحالف من أجل الجمهورية” صاحب الأغلبية في البرلمان، ومِن ثَم فليس أمامه إلا خيارات ثلاث: أولها أن يصطدم مع حزب وائتلاف الأغلبية، فيلجأ إلى حل البرلمان، وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة، وثانيها أن يجمع كل أصوات حزبه، مع أصوات باقي الأحزاب الموالية له، لتشكيل تحالف برلماني، وهو وإن كان لا يحقق له أغلبية خاصة أو مريحة، إلا أنه يُحقّق أغلبية مطلقة، لكنها ستكون بفارق صوت واحد، وستكون مكلفة سياسيًّا، لكنها ستُمكّنه من تسيير الأمور بدرجة مقبولة، وثالثها أنه بالإضافة لأصوات الأحزاب الموالية له، يستقطب أصواتًا من داخل ائتلاف الأغلبية الحالي، لتحقيق أغلبية مريحة، وهو أمر لا شك سيزيد من الكلفة سياسية.
نظرة مستقبلية:
في ضوء المخرجات التي أسفرت عنها ديناميات العملية السياسية، التي جرت مؤخرًا في السنغال، وبالنظر إلى سمات وسلوك كل أطرافها، قبل وأثناء وبعد ظهور نتيجة الانتخابات، يمكننا القول بأن الرئيس “بشيرو” سيتمكن من اجتياز مأزق الانسداد السياسي المحتمل، عبر تشكيل تحالف برلماني، يضم أصوات الأحزاب الموالية له، وأصواتًا من داخل الائتلاف صاحب الأغلبية الحالي، وأنه لن يجد صعوبة كبيرة في تشكيل مثل هذا التحالف، ولن يضطر إلى تحمُّل أثمان سياسية باهظة، وأن ذلك سوف يتم سريعًا وبصورة سلسة.
…………………………………
([1]) د. سعيد ندا، النظم الانتخابية وتأثيرها على التعددية الحزبية في إفريقيا (لندن: مركز أبحاث جنوب الصحراء، 2023) ص ص 195-205.
([3]) Diadie Ba, “Senegal’s ruling party loses key cities in local elections”, on Reuters Website, Last Visit at 25 Feb. 2024, at 1:10 pm, at link:
https://www.reuters.com/world/africa/senegals-ruling-party-loses-key-cities-local-elections-2022-01-24/
– Euro News, “Senegal elects mayors with eyes on 2024 presidential election Access to the comments”, on Euro News Website, Last Visit at 25 Feb. 2024, at 1:15 pm, at link:
https://www.euronews.com/2022/01/23/us-senegal-elections
– Marième Soumaré, “Senegal: Oppositionist Ousmane Sonko celebrates his election victory in Ziguinchor”, on The Africa Report Website, Last Visit at 25 Feb. 2024, at 1:20 pm, at link:
https://www.theafricareport.com/169945/senegal-oppositionist-ousmane-sonko-celebrates-his-election-victory-in-ziguinchor/
– Voa News, “Senegal Votes for Mayors in Litmus Test for President”, on Voa News Website, Last Visit at 25 Feb. 2024, at 1:25 pm, at link:
https://www.voanews.com/a/senegal-votes-for-mayors-in-litmus-test-for-president-/6408787.html
– Africa News, Senegal: Opposition coalition led by Ousmane Sonko launched ahead of local polls”, on Africa News Website, Last Visit at 25 Feb. 2024, at 1:30 pm, at link:
https://www.africanews.com/2021/09/03/senegal-opposition-coalition-led-by-ousmane-sonko-launched-for-local-elections/
([4]) د. سعيد ندا، “الفرص تتضاءل: مأزق طموحات “ماكي سال” الرئاسية” (لندن: مركز أبحاث جنوب الصحراء، ورقة تحليلية، أكتوبر 2022م)، منشورة على موقع قراءات إفريقية، تحققت آخر زيارة بتاريخ 29 مارس 2024م الساعة 1:00 م، على الرابط:
https://qiraatafrican.com/4343/
([5]) محمد عبد الحكيم، “الطريق إلي قصر الرئاسة بدكار .. ماراثون رئاسي ساخن في السنغال”، على موقع 24 أفرو نيوز، تحققت آخر زيارة بتاريخ 29 مارس 2024م الساعة 1:05 م، على الرابط: https://tinyurl.com/2cdj93yk
([8]) Gabriel A. Almond, Sidney Verba. The Civic Culture: Political Attitudes and Democracy in Five Nations (Princeton, New Jersey: Princeton University Press,
– Harry Eckstein, “A Culturalist Theory of Political Change”, in The American Political Science Review (Washington, D.C.: American Political Science Association, Vol. 82, No. 3, September 1988), pp. 789-804.
– Roland P. Formisano, “The Concept of Political Culture”, In The Journal of Interdisciplinary History (Cambridge: The MIT Press, Vol. 31, No. 3, Winter 2001), pp. 393-424.