روضة علي عبد الغفار
صحفية متخصصة في الشأن الإفريقي
“ها أنا بشير فاي.. أمامكم حرًا طليقًا إلى جانب عثمان سونكو كجزء من المشروع الذي نقوم بتنفيذه اليوم”، هكذا قال “فاي” في أول مؤتمر صحفي له كمرشح إلى جانب زعيمه “سونكو” بعد إطلاق سراحهما.
وقد وقفت السنغال بين رجلين؛ أحدهما سعى للرئاسة بكل قوته، بينما ساقتها الأقدار إلى رفيقه، فها هو الرئيس الخامس للسنغال لم يلبث أن يخرج من محبسه حتى صار رئيسًا لأبرز الديمقراطيات في إفريقيا، ومن الأسر إلى القصر.. ومن خلف القضبان إلى رئاسة السنغال؛ حتمًا ستتغير أوضاع البلاد..
فماذا ينتظر الرئيس المنتخب في قصر الرئاسة؟ وهل تشهد السنغال تغييرًا جذريًا على يد الرئيس المحرر؟ وما أبرز التغييرات التي قد تحدث في منطقة غرب إفريقيا؟ هذا وأكثر تتناوله “قراءات إفريقية” في هذا التحقيق..
الشعب يريد..
ما لبث الرئيس السنغالي السابق ماكي سال بمحاولة تأجيل الانتخابات الرئاسية في فبراير الماضي، حتى قامت السنغال عن بكرة أبيها تعارض القرار، وبين محاولات إنفاذ التأجيل ومحاولات التهدئة دفع “سال” ثمنًا باهظًا.. فهذا القرار قد كلفه المخاطرة بمرشح الائتلاف الحاكم أمادو با، الذي فقد شعبية كبيرة بعد محاولة الرئاسة تأجيل الانتخابات بشكل مفاجئ، كما اضطر “سال” للإفراج عن المعتقلين السياسيين لتهدئة الشارع السنغالي، لتسير الأقدار ويكون من بينهم رئيس السنغال الجديد بشير فاي..
ورغم أن هذه الانتخابات تكتسب دلالات لافتة، كون السنغال تقع وسط منطقة مضطربة سياسيًا، وكادت أن تنجرف في سلسلة اضطرابات بسبب محاولات “سال” تأجيل الانتخابات حتى نهاية العام، إلا أنها انتهت برفض المجلس الدستوري قرار الرئيس، وتحديد موعد للاقتراع.
وتمت الانتخابات الرئاسية يوم الأحد 24 مارس وسط أجواء هادئة على المستوى الأمني، وفتحت مراكز الاقتراع أبوابها لاستقبال قرابة 7.3 ملايين ناخب مسجل، وشهدت إقبالًا واسعًا للمقترعين الشباب، وجرت الانتخابات بوجود مراقبين من الاتحاد الإفريقي ومجموعة إيكواس والاتحاد الأوروبي.
يقول الأكاديمي والباحث السنغالي المتخصص في الشأن الإفريقي، عبد الرحمن كان، أن السنغال استطاعت تنظيم انتخابات نزيهة بعد أحداث سياسية عنيفة كادت تودي بالديمقراطية السنغالية إلى الانهيار؛ وأن العزيمة الوطنية ساهمت في تحقيق الهدف المنشود المتمثّل في التصويت عبر صناديق الاقتراع بكلّ هدوء واتزان، بالإضافة إلى تقبّل الحزب الحاكم الخسارة؛ ما يؤكد حفاظ الدولة على إرثها الديمقراطي.
وأضاف “كان” لـ “قراءات إفريقية” أن العملية الانتخابية تميزت بمشاركة شعبية واسعة، إلا أنها لم تخلُ من التحديات بدءًا من الحملات الانتخابية وصولاً إلى الاقتراع، وما اعتراها من تأجيل وحوار وطني، وأن الشفافية والنزاهة كانتا في صلب المخاوف الرئيسة، وضرورة وصول جميع الأصوات للعد والفرز دون تلاعب أو تأثير خارجي.
ورغم ذلك كانت الانتخابات نموذجًا للديمقراطية الناشئة بحسب “كان”، وتعكس رغبة الشعب في التغيير وتطلعه لمستقبل أفضل وتحسينات ملموسة في مجالات الحكم والاقتصاد والعدالة الاجتماعية.
مُرشح اللحظة الأخيرة!
تعد هذه الانتخابات التاسعة منذ استقلال السنغال، تفادى فيها “سال” الترشح لتكون الأولى التي لا يترشح فيها الرئيس الممسك بمقاليد الحكم، لكنه دفع بمرشحه “أمادو با” إلى قائمة المرشحين، وهو رئيس الحكومة السابق والرجل المقرب من الرئيس سال.
وكان من بين المتنافسين الآخرين رئيس بلدية دكار السابق خليفة سال، ورائدة الأعمال التي تحولت إلى سياسية أنتا باباكار أنغوم، وهي السيدة الوحيدة التي ترشحت، والسياسي المخضرم إدريسا سيك، الذي احتل المركز الثاني في الانتخابات الرئاسية لعام 2019م.
وجاء مرشح اللحظة الأخيرة بشير فاي، مرشح حزب باستيف المعارض الذي خرج من السجن قبل انتهاء الحملة الانتخابية بعشرة أيام فقط، إثر عفو عام أصدره الرئيس “سال” لتهدئة المشهد السياسي بالتزامن مع انتهاء ولايته.
لكن المفاجأة الكبرى تمثلت بحسم السباق من الجولة الأولى بنسبة تتجاوز 54% من الأصوات لصالح “فاي”، لينال أغلبية مطلقة، وهذا ما سهّل على المعارضة إعلان الفوز وإقرار الائتلاف الحاكم بالخسارة.
يعتقد عبد الرحمن كان أن نتائج الانتخابات تشير إلى تحول كبير في المشهد السياسي السنغالي، وأن التفوق الواضح لـ “فاي” على منافسه “أمادو با” ممثل الحزب الحاكم، يعكس رغبة الناخبين في التغيير السياسي والاقتصادي، والخروج من الإدارات السياسية الكلاسيكية التي تعاقبت الحكم في السنغال.
ويرى الأكاديمي السنغالي أن نجاح “فاي” في الانتخابات يمثل بداية عهد جديد قد يحمل تحولات عميقة في السنغال، لكن هذه التحولات تتطلب إدارة دقيقة ومتوازنة للتطلعات المحلية والضغوط الدولية، والعمل على تنفيذ الإصلاحات الموعودة، كما تتطلب مهارات دبلوماسية للتوفيق بين مصالح الأطراف الداخلية والحفاظ على علاقات خارجية مستقرة ومثمرة، وخاصة مع القوى التقليدية مثل فرنسا.
الرئيس المُحرر..
ينتمي الرئيس “فاي” إلى الشباب، فهو من أصغر المرشحين للرئاسيات في بلاده، وعمره لا يتجاوز 44 سنة، منها واحدة قضاها وراء القضبان في سجن “كاب مانوال” بالعاصمة السنغالية داكار، ومن خلف القضبان خرج إلى ميدان الرئاسة..
فقد ولد “فاي” بمنطقة أمبور غرب السنغال، بقرية ندياجانياو الزراعية، وحصل على الثانوية العامة (الباكالوريا) عام 2000م، ثم درس في جامعة الشيخ آنتا جوب؛ أحد كبرى الجامعات السنغالية والتي نال منها شهادة الماجستير في القانون، ثم انتمى إلى المدرسة الوطنية للإدارة التي تخرج منها مفتشًا في الضرائب عام 2007م، ومن هناك انفتحت للرجل بوابة السياسة وبدأت علاقته مع رفيق دربه عثمان سونكو.
وفي أبريل 2023، نال “فاي” حكمًا بالسجن بتهمة ازدراء المحكمة وإهانة القضاء، ليدخل السجن مع نخبة من قيادات حزب باستيف، ذلك الحزب الذي انتمى إليه عام 2014م ليترقى تدريجيًا ويكون أحد صانعي القرار الأساسيين والذراع القوية لرئيسه عثمان سونكو.
ويتلاقى الخطاب السياسي لـ “فاي” مع الأوساط الشبابية السنغالية، وخصوصا التذمر المتصاعد تجاه سيطرة فرنسا، إذ أعلن في حملته عن برنامج إصلاح نقدي من شأنه إنهاء سيطرة الفرنك الإفريقي ذي الأصول الفرنسية، وإقامة عملة سنغالية خاصة إذا لم تتمكن دول غرب إفريقيا من إصدار عملة موحدة. وعلى المستوى الداخلي، أشار إلى أن المشاريع ذات الأولوية في عهده ستكون المصالحة الوطنية وإعادة بناء المؤسسات، بالإضافة إلى تخفيض كبير في تكاليف المعيشة.
في حديثه مع “قراءات إفريقية” أشار الأكاديمي والباحث في الشأن الإفريقي، د. محمد بشير جوب، إلى أن الرئيس المنتخب فاي يمثل مشروع حزب المواطنين “باستيف”، والحزب له موقف واضح فيما يخص علاقة السنغال مع فرنسا، حيث يعتبر الحزب أن العلاقات مع فرنسا منذ عقود طويلة ليست متزنة وتحتاج إلى مراجعة.
وأكد “جوب” أن علاقات البلدين في ظل الرئيس الجديد ستشهد تقلبات نسبية وخاصة في المجال الاقتصادي؛ نظرًا للسيطرة المفرطة لفرنسا على الاقتصاد السنغالي، وأن هذا التغيير سيكون على مراحل مختلفة وفق أولويات الحكومة القادمة.
ويرى “جوب” أن اختيار السنغاليين لأحد أبرز مرشحي المعارضة يشير إلى رغبة حقيقة لتحقيق التغيير الذي كان يحلم به الشعب لعقود طويلة، كما يشكل رسالة واضحة إلى النخبة السياسية مفادها العزيمة والإصرار في ردع القيادة السياسية بأسلوب سلمي ومدني متى ما انحرفت عن القيادة الجادة.
وأضاف أن حالة المواطنين السنغاليين في السنوات الأخيرة وصلت إلى درجة اليأس من السلطة الحاكمة؛ التي لم تكن أولويتها احتياجات الشعب الأساسية، فعانى الشعب من أوضاع اقتصادية مزرية وقرر التغيير في أول جولة للانتخابات.
ماذا ينتظر الرئيس؟
رغم سرعة الوصول إلى قصر الرئاسة إلا أن “فاي” تنتظره تحديات حاسمة وقضايا شائكة في أروقة القصر، أبرزها تعزيز ثقة الشباب الذين كانت أصواتهم سببًا لوصوله للمنصب، وتعد البطالة من أكثر القضايا إلحاحًا حيث وصلت لنحو 19.5% العام الماضي، وهي الدافع وراء ارتفاع معدلات الهجرة غير النظامية باتجاه أوروبا.
كما يعد التضخم مشكلة رئيسية تؤدي إلى تآكل القدرة الشرائية للسكان، وسيكون على الرئيس المنتخب وضع خارطة طريق للخروج من المعدلات مرتفعة التي أدت إلى خفض معدلات الاستهلاك.
ويأتي النفط والغاز من أبرز أوراق الرئيس المنتخب، وقد سبق للبنك الدولي أن اعتبرهما رافعة الاقتصاد، فبحسب تقديرات رسمية تقترب البلاد من تحقيق قدرة إنتاجية بنحو 100 ألف برميل نفط يوميًا، وحوالي 2.5 مليون طن من الغاز سنويًا، لكن بحسب الرئيس المنتخب فهي سيف ذو حدين طالما أن العقود لا تلعب لصالح الدولة.
من جهته يعتقد د. محمد بشير جوب أن من أبرز التحديات أمام الرئيس الجديد هو الإرث الثقيل الذي تركته الحكومات السابقة المتعاقبة، حيث يتطلع الشعب السنغالي إلى حلول عاجلة للوضع الاقتصادي المذري ليتمكن المواطن العادي من توفير حاجياته الأساسية.
وأضاف “جوب” أن الدولة عانت في السنوات الأخيرة من خلل كبير داخل المؤسسات وتحتاج إلى استدراك فوري لإصلاح مؤسساتها، وأن ما شهده المجتمع السنغالي في الآونة الأخيرة من أزمات تستدعي مصالحة عاجلة بين شرائح المجتمع وللرئيس دور كبير في تحقيق ذلك.
خارج ملعب فرنسا..
يبرز التساؤل الأهم وهو هل تخرج السنغال هي الأخرى من عباءة فرنسا بعد اكتساح المعارضة؟ حيث تعد السنغال مع تشاد آخر ما تبقى لفرنسا من نفوذ مباشر في غرب إفريقيا، وتحتفظ باريس بوجود عسكري محدود بنحو 500 جندي في السنغال.
لم يدلي فاي بخطاب عدائي تجاه فرنسا، لكنه أعلن عزمه بإحداث تغيير في الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، ونيته للتخلص من الفرنك الإفريقي بعملة محلية، وهذا ليس في مصلحة باريس على الأغلب.
ففي أول خطاب له بعد فوزه التاريخي سعى “فاي” إلى تطمين شركاء بلاده بأنها ستبقى الحليف الآمن والموثوق به، قائلًا: “أود أن أقول للمجتمع الدولي ولشركائنا إن السنغال ستحتفظ بمكانتها دائمًا، وستظل البلد الصديق والحليف الآمن والموثوق لأي شريك سينخرط معنا في تعاون شريف ومثمر للطرفين”.
وأضاف أنه يعتزم العمل من أجل إحداث تغييرات داخل الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إكواس”، قائلًا: “أطلق نداء لإخواننا الأفارقة للعمل معًا من أجل تعزيز المكاسب التي تم تحقيقها في عملية التكامل في الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، مع تغيير بعض الأساليب والاستراتيجيات والأولويات”.
يتوقع الأكاديمي المتخصص في الشؤون الأمنية والاستراتيجية، إدريس آيات، أن يحدث تغييرًا جذريًا في السنغال؛ حيث عاشت السنغال 40 عامًا تقريبا من الحكم الاشتراكي، وحوالي 24 عامًا من الحكم الليبرالي، وكان التفكير الاقتصادي منذ الاستقلال حتى الوقت الراهن يعتمد على الرأسمالية والتركيز على نمو الناتج المحلي الاجمالي دون تنمية، فتدخل عائدات الدولة في جيوب أقلية، بينما تعاني الأغلبية من فقر مدقع.
وأردف “آيات” أن هذا التفكير يعارضه فاي وسونكو، باعتبار توجهاتهما، حيث يريدان الانحياز نحو التنمية، وأن يكون المستفيد هو الشريحة الأكبر من الشعب بدلًا من استفادة فئة معينة من عائدات الدولة.
أما فيما يتعلق بالأسس الدستورية والمؤسساتية أشار “آيات” في حديثه لـ “قراءات إفريقية” أن فاي وسونكو يريدان أيضًا إعادة مؤسسات الدولة لما يتماشى مع التقاليد السنغالية، فقد بدأ سونكو، عندما كان رئيسًا للبلدية ثم عضوًا في البرلمان، بتغيير أسماء بعض الشوارع التي تحمل معالم فرنسية.
وعليه يتوقع “آيات” أن يكون هناك تغيير داخل المؤسسات؛ سواء البنى التحتية الاقتصادية التي ترتكز على شركات غربية وخاصة الفرنسية، أو الأشياء الأكثر رمزية مثل أسماء الشوارع وبعض المواد والقوانين التي تتسم بصبغة غربية أكثير منها أفريقانية.
وعن أبرز التغييرات الإقليمية التي من المتوقع أن تحدث في منطقة غرب إفريقيا بعد فوز المعارضة في السنغال، أكد “آيات” أن التغيير الأول سيكون في مجموعة غرب إفريقيا “إيكواس”، حيث يؤمن فاي بجدوى مجموعة إيكواس إيمانًا جازمًا، لذا سيحاول إقناع دول التحالف الثلاثي الذي انسحب من إيكواس، وهي النيجر وبوركينا فاسو ومالي، بالعودة إلى المجموعة.
وأضاف أن التغيير الثاني هو أن السنغال ستكون منخرطة أكثر في مكافحة الإرهاب بالتعاون مع جيرانها خاصة دولة مالي، فقد وعد سونكو في خطاب شهير له بإرسال جنود من السنغال لمساعدة مالي في مكافحة الإرهاب، وهذا ما يؤمن به “فاي” أيضًا؛ بأن محاربة الإرهاب لا يجب أن تُترك لقوى خارجية وإنما تكون بتكاتف دول الجوار.
وقال الأكاديمي المتخصص في الشؤون الأمنية أنه ستتم محاولات للاندماج والتعاون في المجال الاقتصادي بين دول غرب إفريقيا، بحيث تكون هناك اتفاقيات اقتصادية وجمركية لتخفيف الأعباء الاقتصادية، لأن فاي وزعيمه سونكو يعتقدان بالتكامل الإفريقي والتداخل الإقليمي.
وختامًا.. فإن حفاظ السنغال على استمرار النهج الديمقراطي وسط الاضطرابات الداخلية والإقليمية هو انجاز كبير تزخر به إفريقيا كافة، لكن يبقى التحدي قائمًا أمام المعارضة التي ناضلت لسنوات وقد أتتها الفرصة الواعدة.. فهل نرى الوعود السياسية التي صدحت في الميدان حقيقة أم تتبدل الخطابات داخل أروقة القصر؟