اعداد: أسماء عادل
في خضم انشغال إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بما يحدث في منطقة الشرق الأوسط، ودراسة الخيارات حول كيفية الرد إذا تحدَّت إسرائيل تحذيرات الرئيس بايدن المتكررة من شنّ غزو عسكري لرفح دون خطة موثوقة لحماية المدنيين الفلسطينيين؛ يتعرَّض النفوذ الأمريكي للتراجع في غرب إفريقيا؛ إذ أعلن المجلس العسكري الحاكم في النيجر في 16 مارس 2024م، إلغاء “بأثر فوري” الاتفاق العسكري المُبرم في 2012م مع الولايات المتحدة، والذي يسمح بوجود عسكريين وموظفين مدنيين من وزارة الدفاع الأمريكية على أراضي النيجر.
وتطرح هذه الورقة البحثية عددًا من التساؤلات بشأن السياق المُصاحِب لإلغاء الاتفاق، وتناول مظاهر ودوافع الحضور العسكري الأمريكي في النيجر، إلى جانب معرفة تداعيات إلغاء الاتفاق العسكري بين البلدين.
أسباب إلغاء الاتفاق العسكري:
إن العقيد عبد الرحمن أمادو، المتحدث باسم المجلس الوطني لحماية الوطن (CNSP)، الهيئة العسكرية الحاكمة في النيجر، قد أعلن في بيان صحفي تلاه عبر التلفزيون الوطني مساء السبت 16مارس 2024م، أن هناك عددًا من المبررات التي دفعت النيجر لإلغاء الاتفاق العسكري مع الولايات المتحدة الأمريكية، والتي يُمكن استعراضها على النحو التالي:
1- عدم احترام البروتوكول الدبلوماسي:
لم يتم إشعار النيجر بشكل رسمي بتشكيل الوفد الأمريكي الذي زار العاصمة نيامي في 12 و13 و14 مارس 2024م، وقد تألف الوفد من وكيل وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون الإفريقية رئيسة الوفد السيدة مولي في، ومساعد وزير الخارجية للشؤون الدولية الدكتورة سيليست فالاندر، وقائد أفريكوم الجنرال مايكل إي لانغلي، ونائب مدير إدارة غرب إفريقيا في الخارجية الأمريكية. ونجد أن السلطات الحاكمة في النيجر اعترضت على أن الوفد الأمريكي لم يتَّبع البروتوكول الدبلوماسي؛ حيث لم يتم إبلاغ النيجر بتشكيل الوفد الزائر أو موعد وصوله أو جدول أعماله.
2- التدخل في الشأن الداخلي للنيجر:
أعرب الوفد الأمريكي عن اعتراضه على العلاقات التي تقيمها النيجر مع روسيا الاتحادية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأن هناك معلومات بشأن توقيع النيجر اتفاقًا سريًّا بشأن اليورانيوم مع روسيا وإيران. ولطالما اتهمت الحكومات الغربية إيران بتطوير برنامج محتمل للأسلحة النووية، وهو ما تنفيه طهران. وهناك تخوف من أن تتقارب إيران مع النيجر باعتبارها المنتج السابع لليورانيوم في العالم في عام 2022م؛ حيث يبلغ إنتاجها حوالي 2020 طنًّا، وفقًا للجمعية النووية العالمية. وقد أعلنت طهران منذ فترة طويلة أنها تريد أن يكون لديها بنية تحتية نووية مدنية أكبر بكثير على نطاق صناعي، وهو ما سيتطلب كميات كبيرة من اليورانيوم، وهو ما يقول الخبراء: إن البلاد ربما تفتقر إليه، لذا من الممكن أن يؤدي تأمين يورانيوم النيجر إلى سد هذه الفجوة.
ولذلك جاء بيان المتحدث باسم السلطة الحاكمة في النيجر، ليوضح أنه فيما يتعلق باختيار الشركاء الدبلوماسيين والإستراتيجيين والعسكريين، تأسف حكومة النيجر لرغبة الوفد الأمريكي في حرمان شعب النيجر ذي السيادة من الحق في اختيار شركائه ونوع الشراكة القادرة على مساعدتهم. وذكر أن النيجر لم تُوقّع أي اتفاق سري بشأن اليورانيوم مع روسيا وإيران، كما ندَّد “بالموقف المتعالي”، المصحوب بالتهديدات بالانتقام، من جانب رئيس الوفد الأمريكي تجاه حكومة وشعب النيجر.
3- المشاعر المُعادية للغرب:
هناك مشاعر معادية للغرب متزايدة في النيجر؛ حيث يُنظر إلى الاتفاق العسكري مع الولايات المتحدة على أنه رمز للتدخل الغربي، ولذلك قررت حكومة النيجر إلغاء الاتفاقية المبرمة مع الولايات المتحدة الأمريكية المتعلقة بوجود عسكريين أمريكيين وموظفين مدنيين في وزارة الدفاع الأمريكية على أراضي جمهورية النيجر. ويأتي هذا القرار تأكيدًا على سيادة النيجر الكاملة، ورفضًا للوجود العسكري الأمريكي الذي اعتبرته حكومة النيجر بأنه “غير قانوني”، و”ينتهك كل القواعد الدستورية والديمقراطية”، كما أنها اتفاقية مُجحفة على اعتبار أن الولايات المتحدة الأمريكية قد فرَضتها بشكل أحادي من خلال مذكرة شفوية بسيطة في 6 يوليو 2012م.
4- تعليق المساعدات الأمريكية لحكومة النيجر:
أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية في أكتوبر 2023م عن تعليق جميع المساعدات الأمريكية لحكومة النيجر، فقد اعتبرت الولايات المتحدة أن النيجر قد شهدت انقلابًا عسكريًّا في ضوء إطاحة المجلس العسكري الحاكم في النيجر بالرئيس محمد بازوم في نهاية 2023م. وكانت الولايات المتحدة قد أوقفت بتاريخ 5 أغسطس بعض برامج المساعدات الخارجية المقدمة لحكومة النيجر بشكل مؤقت، وهي برامج يبلغ مجموعها حوالي 200 مليون دولار. وباتت تلك المساعدات هي الأخرى معلقة الآن بموجب المادة 7008 من قانون المخصصات السنوية لوزارة الخارجية الأمريكية.
كما قررت الولايات المتحدة الأمريكية تعليق جميع المساعدات المُقدَّمة إلى النيجر من خلال مؤسسة (The Millennium Corporation Challenge) التي تُعرف بأنها وكالة أمريكية تابعة للكونجرس الأمريكي، تُقدّم مساعدات خارجية للبلدان الفقيرة الملتزمة بالمعايير الديمقراطية. وفيما يتعلق بالمساعدات الإنسانية والغذائية والصحية لا تخضع للعقوبات؛ حيث ستواصل الولايات المتحدة الأمريكية تقديمها لشعب النيجر.
آفاق الحضور العسكري بين النيجر والولايات المتحدة:
نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية قد عملت على تعزيز حضورها العسكري في غرب إفريقيا، وهو ما يمكن ملاحظته في حالة النيجر؛ إذ حرصت الولايات المتحدة على تعزيز التعاون العسكري مع النيجر، لا سيما في مجال مكافحة الإرهاب، مع الأخذ في الاعتبار الموقع الجغرافي للنيجر؛ حيث تشترك في الحدود مع سبع دول: الجزائر من الشمال (951 كم)، ليبيا من الشمال الشرقي (342 كم)، تشاد من الشرق (1196 كم)، بنين من الجنوب الغربي (277 كم)، بوركينا فاسو إلى الغرب. من الجنوب (622 كم)، مالي من الغرب (838 كم)، نيجيريا من الجنوب (1608 كم). وتوجد مجموعات مسلحة نشطة في هذه المناطق، لا سيما جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، وتنظيم الدولة الإسلامية في غرب إفريقيا، وجماعة بوكو حرام، وتُشكّل مثل هذه الجماعات الإرهابية تهديدات خطيرة للقوى الإقليمية والمصالح الغربية، ونتيجة لذلك، قامت الولايات المتحدة مرة أخرى بتوسيع وجودها العسكري في المنطقة بشكل إستراتيجي.
ويحاول هذا الجزء من الورقة البحثية استعراض مظاهر ودوافع الحضور العسكري الأمريكي في النيجر، إلى جانب معرفة تداعيات إلغاء الاتفاق العسكري بين النيجر والولايات المتحدة الأمريكية.
أولًا: استعراض مظاهر الحضور العسكري الأمريكي في النيجر:
تركز التعاون العسكري بين البلدين في البداية على مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، وقد توسَّع التعاون ليشمل مجالات أخرى مثل التدريب العسكري، وتقديم المساعدات العسكرية، وتبادل المعلومات الاستخبارية، ويمكن تناول أهم مجالات التعاون العسكري، وذلك على النحو التالي:
مكافحة الإرهاب: الولايات المتحدة تدعم النيجر في مكافحة الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل، وتقدم الولايات المتحدة المساعدات العسكرية والتدريب للقوات النيجرية، كما تستخدم الولايات المتحدة طائرات بدون طيار من قاعدة 201 الجوية في النيجر لمراقبة أنشطة الجماعات الإرهابية.
التدريب العسكري: تقدّم الولايات المتحدة التدريب للقوات النيجرية في مجالات مختلفة مثل مكافحة الإرهاب، وحفظ السلام، والأمن الداخلي.
تبادل المعلومات الاستخبارية: تتبادل الولايات المتحدة والنيجر المعلومات الاستخبارية لمكافحة الإرهاب والجرائم المنظّمة.
تقديم المساعدات العسكرية: تقدّم الولايات المتحدة المساعدات العسكرية للنيجر من خلال برامج مثل تمويل التعاون الأمني(FMS) ، ومبادرة مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل (G5 Sahel).
إنشاء قواعد عسكرية أمريكية في النيجر: عملت الولايات المتحدة على إنشاء قواعد عسكرية لمواجهة الإرهاب المتزايد في المنطقة، فقد أنشأت قاعدة 201 الجوية التي تقع في مدينة أغاديز، وهي أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في إفريقيا، تضم طائرات بدون طيار من طراز MQ-9 Reaper، وطائرات نقل C-17، وطائرات هليكوبتر، بالإضافة إلى قاعدة نيامي الجوية التي تقع في العاصمة نيامي، وتستخدم لدعم العمليات العسكرية الأمريكية في النيجر ومنطقة الساحل.
ثانيًا: أهداف الحضور العسكري الأمريكي في النيجر
إن الحضور العسكري الأمريكي في النيجر يهدف إلى تحقيق عدد من الأهداف، والتي يمكن ذكرها على النحو التالي:
احتواء التنظيمات الإرهابية في غرب إفريقيا: تسعى الولايات المتحدة إلى مساعدة حكومة النيجر في مكافحة الجماعات الإرهابية النشطة في المنطقة.
تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة: تعتقد الولايات المتحدة أن وجودها العسكري في النيجر سيساعد في تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، مما سيعود بالنفع على الدول المجاورة.
حماية مصالح الولايات المتحدة: تهدف الولايات المتحدة إلى حماية مصالحها في المنطقة، مثل الوصول إلى الموارد الطبيعية والطرق التجارية.
استعراض القوة العسكرية: تلعب القواعد العسكرية الأمريكية الموجودة في النيجر دورًا في الحفاظ على مكانتها كقوة عسكرية عظمى في مواجهة الإرهاب؛ حيث تستخدمها الولايات المتحدة كاستعراض للقوة في المنطقة ورادع ضد تعدي القوى الكبرى الأخرى. وامتدادًا لذلك، تُعد الطائرات بدون طيار أدوات لجمع المعلومات الاستخبارية والعمليات الهجومية ضد الجماعات الإرهابية.
ثالثًا: تداعيات إلغاء الاتفاق العسكري
يمكن ذكر بشكل مبدئي أبرز التداعيات المترتبة على إلغاء الاتفاق العسكري بين الولايات المتحدة الأمريكية والنيجر، وذلك على النحو التالي:
إضعاف جهود مكافحة الإرهاب: قد يؤدي إلغاء الاتفاق إلى إضعاف جهود مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل؛ حيث كانت الولايات المتحدة تلعب دورًا رئيسيًّا في هذا المجال، وهو ما سيُشكّل فرصة للتنظيمات الإرهابية النشطة في غرب إفريقيا لشن المزيد من الهجمات الإرهابية. وهو ما سيشكل انتكاسة لجهود إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لمحاربة التنظيمات الإرهابية. كما ستتحمل الولايات المتحدة الأمريكية خسارة مادية تتمثل في النفقات التي استثمرتها في بناء القواعد العسكرية، لا سيما قاعدة 201 الجوية التي تقع في مدينة أغاديز؛ حيث تُقدر تكاليف إنشائها بـ 110 ملايين دولار. كما أنه من الممكن أيضًا أن يؤدي ذلك إلى انسحاب أكثر من 600 جندي أمريكي ما زالوا متمركزين في النيجر.
إضعاف قدرات جيش النيجر: قد يؤدي إلغاء الاتفاق إلى إضعاف قدرات جيش النيجر، خاصةً في مجال الاستخبارات والمراقبة والطائرات بدون طيار.
تنامى النفوذ الروسي: قد يؤدي إلغاء الاتفاق إلى تغيير ميزان القوى في المنطقة، خاصةً مع تنامي النفوذ الروسي في النيجر. وتتخوف الولايات المتحدة الأمريكية من توسُّع روسيا في إفريقيا، فقد أدى صعود الانقلابات المناهضة لفرنسا في غرب إفريقيا إلى النظر إلى روسيا على أنها تملأ الفراغ الأمني الذي خلّفته الجيوش الفرنسية المنسحبة. فقد أصبحت النيجر، إلى جانب مالي وبوركينا فاسو المجاورتين -اللتين يقودهما المجلس العسكري أيضًا – على نحو متزايد على علاقة وثيقة مع روسيا، التي بذلت جهودًا متضافرة في السنوات الأخيرة لتوسيع نفوذها في المنطقة، وخاصةً عبر الشركات الأمنية. وفي ديسمبر 2023م، أعلنت روسيا والنيجر أنهما وقّعتا اتفاقيات أمنية جديدة، لمنع انتشار التهديدات الإرهابية ومحاربة الإرهاب المتنامي في القارة. ومن المحتمل أن تدرس روسيا بناء قواعد عسكرية في غرب إفريقيا.
وفى الختام، يمكن القول: إن إلغاء الاتفاق العسكري بين الولايات المتحدة الأمريكية والنيجر، يُمثل “ضربة كبيرة” للمصالح الأمريكية في غرب إفريقيا، كما سيؤدي انسحابها إلى تقليل قدرة الولايات المتحدة على مكافحة الإرهاب في المنطقة، وسيكون له تأثير سلبي على صورتها كقوة عظمى.