تعرض مطعم كاباشينو وفندق إسبلانديد الواقعان على طريق كوامي انكروما في قلب العاصمة البوركينية لهجمات دموية مساء الجمعة 15 يناير 2016م. وأزهقت هذه الهجمات 30 نفسا وخلّفت عشرات المصابين من المدنيين. وقد كانت دورية لقوات الدرك قد تعرضت، في وقت النهار من اليوم نفسه خلال مهمة أمنية، لكمين في جهة تيناكوف بشمال البلاد على الحدود البوركينية-المالية، ما تسبب في مقتل رجل أمن واحد ومدني. كما جرى في ليلة اليوم نفسه اختطاف طبيب أسترالي وحرمه، نزيلَيْ منطقة جيبو الواقعة في شمال البلاد منذ 43 سنة تقريبا.
ويشير الشهود العيان إلى أن الدفعة الأولى من قوات الأمن البوركينية وصلت إلى موقع الحدث بعد ساعة تقريبا من وقوعه، وحاولت إغلاق جميع المنافذ والممرات لمحاصرة المهاجمين، ثم توالت دفعات أخرى لتعزيز قدرات التدخل، كما شاركت قوات فرنسية وأمريكية في عملية اقتحام الفندق لتحرير الرهائن المحتجزين.
وتبنت جماعة المرابطين الموالية لتنظيم قاعدة الجهاد في المغرب الإسلامي هجمات واغادوغو بعد ساعات قلائل من وقوعها عبر بعض المواقع الإلكترونية؛ مشيرة إلى أنها استهدفت ما تصفه بـ ” أخطر وكر من أوكار الجاسوسية العالمية في منطقة غرب إفريقيا”.
وأثبتت التحقيقات أن ثلاثة شبان أقدموا على الهجوم على مطعم كاباشينو وفندق إسبلانديد بأسلحة ثقيلة، وهو العدد نفسه الذي ذكره التنظيم بعد الهجوم مع الكشف عن صورهم في اليوم التّالي. كما أن التحقيقات تشير إلى احتمال قوّي لوجود متآمرين مع المهاجمين، وما زال رجال الأمن يواصلون التحريات للوصول إلى المشتبهين في التآمر لإحالتهم إلى التحقيقات.
وقد تمّ في إطار التحقيقات استجواب عشرات من النّاس، وتم إطلاق سراح أغلبهم بينما لا يزال البعض القليل تحت الاستجواب.
من وراء هذه الهجمات:
تبنت جماعة المرابطين الموالية لتنظيم قاعدة الجهاد في المغرب الإسلامي عبر بعض المواقع على شبكة الانترنت هذه الهجمات رسميا، غير أنّ بعض السياسيين وعددا كبيرا من المواطنين يشيرون بأصابع الاتهام إلى رموز النظام المخلوع، إذ يرون أنّ الأمر قد لا يعدو مجرد تواطئ بين هؤلاء الرموز وشرذمة من قوى الشّر لزعزعة الأمن والاستقرار، لاسيما أنّ النظام المخلوع كان وسيطا إقليميا في كثير من النزاعات في المنطقة وارتبط خلالها بعناصر من الجماعات المسلحة.
لكن هذه الاتهامات تظل جوفاء حتى تُدعم بأدلة ملموسة بعيدة عن مزايدات السياسيين واستغلالهم الكوارث والمصائب لرفع سقف شعبيتهم.
إدانة داخلية وخارجية للهجمات:
أجمعت كل القوى السياسية داخل البلد على إدانة هذه الهجمات واصفة إياها بجبانة وإجرامية وغير إنسانية، كما ناشدت جميع المواطنين والمقيمين على التعاون التام مع رجال الأمن لإحباط المخططات الإرهابية والإبلاغ عن الأشخاص المشبوهين والمشككين فيهم. كما أكدت القوى الأساسية على ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية والتلاحم من أجل مواجهة هذه التحديات الأمنية.
أثارت هذه الهجمات الهمجية استهجانا كبيرا في الأوساط الشعبية التي استنكرتها وأدانتها بأشكال مختلفة، ودعت الحكومة إلى اتخاذ كافة التدابير اللازمة لحماية المواطنين والمقيمين من هذه أمثال هذه الأعمال التخريبية؛ مؤكدة على ضرورة ترسيخ وتعزيز ثقافة التعاون بين الشعب ورجال الأمن لتحقيق الأمن والاستقرار.
وخرجت جماهير من جماعات مختلفة في مسيرات ضخمة للتنديد بهذه الهجمات والتعبير عن رفضها التام للاستسلام لثقافة الكراهية والعنف والتهديد؛ إذ أكدّت بأن هذه الأعمال التخريبية لن تزيد الشعب البوركيني إلاّ تماسكا وتضامنا ووحدة وأنّه سيثبت لمرتكبي هذه الأعمال وأعوانهم أنّه شعب لا يُقهر بالتهديد والإرهاب والعنف.
وأعلنت الحكومة حداد ثلاثة أيام على خلفية هذه الهجمات كما نظمت حفل تأبين يوم 25 يناير 2016 تعاطفا مع القتلى الثلاثين والمصابين في ساحة الشعب في وسط واغادوغو، بحضور رئيس الدولة والوزراء وشخصيات بوركينية وأجنبية وجماهير عريضة من الشعب.
وعلى الصعيد الإقليمي، استنكرت الدول المجاوِرة ودول المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا هذه الهجمات وأدانتها بشدة، كما دعت إلى ضرورة تعزيز التعاون الاستخباراتي والأمني بين دول المنطقة لمحاصرة الجماعات المسلحة ورصد تحركاتها لتفادي هذه الهجمات المتصاعدة.
وتضامنا مع الشعب البوركيني، فقد وصل رئيس الوزراء المالي، موديبو كيتا، إلى العاصمة البوركينينة يوم الأحد 17 يناير 2016، وزار موقعي الهجمات برفقة رئيس الوزراء البوركيني بول كابا تيبا، كما وصل كل من الرئيس البينيني يايي بوني والرئيس التشادي إدريس ديابي إلى موقعي الحدث بصحبة الرئيس روك مارك كريسيان كابوري يوم الاثنين 18 يناير ويوم الخميس 21 يناير 2016 على التوالي. وقد عبر هؤلاء القادة والزعماء عن وقوفهم مع الشعب البوركيني في محنته ومساندتهم له؛ وتلقى كذلك رئيس الدولة اتصالات ورسائل تضمان ومواساة من كثير من رؤساء الدول والحكومات.
موقف الهيئات والمنظمات الإسلامية:
وعلى المستوى الإسلامي، فقد أصدر اتحاد الجمعيات الإسلامية في بوركينا فاسو بيانا رسميا ندّد فيه بهذه الهجمات المسلّحة وأدانها بكل وضوح، مبيّنا أنّ هذه الأعمال لا تمت إلى الإسلام وتعاليمه السمحة بصلة، وعليه فإنّ الاتحاد يرفض كلّ أشكال العنف بصورة قاطعة لا لبس فيها.
ودعا الاتّحاد كذلك في بيانه إلى التضرع إلى الله عزّ وجلّ في الصلوات بأنّ يمنّ على بوركينا فاسو الأمن والاستقرار، كما دعا إلى الحفاظ على وحدة الصف والتضامن بين أبناء البلد من دون تمييز يذكر من أجل الوقوف مع المتضررين من هذه الهجمات وتقديم الدّعم اللائق لهم. وأشاد البيان كذلك بجهود وتضحيات ومهنية رجال الأمن والدّفاع في التعامل مع الحدث.
أما الشخصيات الإسلامية من دعاة وأئمة، فقد سلطوا الضوء على هذه الهجمات في خطبهم في الجمعة التي تلت جمعة الحدث، واستنكروا استهداف المدنيين الآمنين والمسالمين بهذه الصورة البشعة، مع البيان بأنّ الإسلام برئ من هذه الممارسات الهمجية، كما شدّوا انتباه الحكومة في الوقت نفسه إلى أنّ موضوعا بهذه الحساسية يتطلب الكثير من الحكمة والروية في التعاطي معه.
تأثير الهجمات على علاقة المسلمين بأتباع الأديان الأخرى:
نظرا إلى أنّ ما يُعرف الآن بـ “الإرهاب” صار لصيقا بالإسلام والمسلمين بهتانا وزورا بسبب تضليل وتأليب الإعلام الغربي المتعمد، بالإضافة إلى أنّ مرتكبي هذه الأعمال التجريبية يرفعون راية الإسلام ويعلنون انتسباهم إليه، فقد ترسخ في أذهان كثير من النّاس، مثقفيهم وعامتهم، أنّ هذه الأعمال التخريبية جزء من ثقافة المسلمين.
وبسبب هذه الأحكام المسبقة والصورة النمطية التي رسمها الإعلام الغربي عن الإسلام والمسلمين، فقد أخذ بعض المواطنين، بعد الأحداث، ينظرون بعين الشك والرّيب إلى بعض المسلمين لسبب التزامهم بمظاهر دينية شكلية كإعفاء اللحية وقصر السروال والثّوب والنقاب، وهي مظاهر يلتزم بها أيضا في الغالب معظم المنتمين إلى الحركات المسلّحة المنتسبة إلى الإسلام، فتنتج عن ذلك إسقاطات وتعميمات خاطئة.
وقد تحدّث شهود عيان عن تعرض عدد من الملتزمين بالمظهر الإسلامي ، رجالا ونساء، لمضايقات على أيدي بعض الغوغاء بسبب اللحية أو قصر السروال أو النّقاب، كما ارتفعت الأصوات المنادية إلى حظر النقاب على طول البلاد وعرضها؛ لكن العقلاء والحكماء من الشعب ظلّوا يدعون إلى ضبط النّفس والتؤدة وعدم تعريض النسيج الاجتماع وأمن البلاد للتمزق والتدهور بتصرفات صبيانية.
حتى الآن ليس هناك تغيّرٌ ملموس في علاقة المسلمين مع غيرهم من أتباع الأديان الأخرى، فهي علاقة قائمة على التعايش السلمي منذ زمن بعيد. والتصورات الخاطئة المشار إليها سابقا لا تنفرد بها طائفة دون أخرى، إذ تجد من المنتسبين إلى الإسلام من لا يفقه من الإسلام شيئا، فيلتقط ما يُلصق بهذا الدّين الحنيف من تهم رخيصة على أنها حقائق، وكذلك تجد من غير المسلمين من يسلّم بها على أنّها بديهيات.
سياسات الرئيس الجديد تجاه هذه الهجمات وهل ستنعكس على المسلمين؟
وقعت هذه الهجمات بعد يومين فقط من تشكيل أولى حكومة في ظل رئاسة الرئيس الجديد وقبل مباشرة الوزراء لمهامهم، فأصبحت بذلك أشبه ما يكون بصفعة إنذار، كما غيّرت فجأة من اهتمامات وألويات الحكومة الجديدة؛ إذ طفر ملف الأمن إلى سلّم الأولويات. وقد وجّه الرئيس الجديد في هذا الصّدد بالتعجيل في تكوين (الوكالة الوطنية للاستخبارات (، التي كانت من خطط الحكومة الانتقالية. وستكون هذه الوكالة مختصة في رصد المعلومات الاستخباراتية ومعالجتها بأحدث طرق ووسائل في هذا المجال، وبديلة لـ (جهاز المخابرات) الذي كان يشرف عليه قائد الانقلاب الفاشل الجنرال زيلبير جينجيري في عهد نظام الرّئيس المخلوع، بليز كومباوري.
كما تعمل حاليا وزارة إدارة الأراضي واللامركزية والأمن الداخلي بالتنسيق مع الأطراف المعنية على رسم الخطوات والإجراءات الأمنية الاستباقية لمواجهة هذه الأعمال التخريبية. ومن المبكر جدا الحديث عن انعكاسات هذه السياسات الأمنية المترقبة على المسلمين؛ لأنّها لا تزال تنسج وراء الكواليس ولم يتم رفع الستار عنها بعد.
سياسات الجمعيات الإسلامية لمعالجة آثار الهجوم:
تعمل الجمعيات الإسلامية وفي مقدّمتها اتحاد الجمعيات الإسلامية في البلاد على تصحيح المفاهيم الخاطئة التي انتشرت عن الإسلام والمسلمين بتكثيف البرامج التوعية حول تعاليم الإسلام ومبادئه العظيمة وتوجيه المسلمين إلى الاجتناب عن التعامل مع المشتبهين، والحذر من الوقوع في شباك أصحاب النوايا االسيئة، كما لجأ الاتحاد إلى سياسة التضامن بزيارة مصابي الهجمات في المستشفيات وتقديم مساعدات مادية وعينية لهم لرفع معنوياتهم.