يصور إنهاء النيجر الفوري لاتفاق تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة الأمريكية خروجاً عما ألفته الشراكة الأمنية والعسكرية بين الطرفين، لكنه لم يكن الوحيد من نوعه منذ سيطرة المجالس العسكري في يوليو 2023، بل كان جزءاً من حزمة قرارات وإجراءات تصعيدية تجاه القوى الغربية. وتشير سياقات النيجر أن قرار الإنهاء لم يأتي من فراغ بقدر ما كونه نابعاً من دوافع متعددة ما بين رغبة النيجر في تأكيد السيادة الوطنية والاستقلال ومراوغة الضغوط الأمريكية بشأن الفترة الانتقالية، وإعادة ترتيب الشراكات العسكرية والأمنية والخلافات حول الشركاء الجدد . وتنبئ التكهنات المستقبلية بعدة انعكاسات حتمية، قد تنجم حالة تنفيذ قرار الإنهاء فعلياً منها: تهديد المصالح الأمريكية وتأثر جهود مكافحة الإرهاب وتفشي النزعة الاستقلالية.
إنهاء فوري:
تسارعت إجراءات النيجر التصعيدية ما بين الانسحابات والتهديدات والطرد وإنهاء شراكاتها العسكرية والتعاونية وعلاقاتها الثنائية مع القوى الغربية بشكل طال حلفائها التقليديين: (فرنسا، الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية)، ومثل ذلك بالنسبة للأخيرة خروجاً عن المعتاد منذ 2012، وتطورا نوعيا لمسار علاقاتهما الثنائية؛ فبرغم تماهي الموقف الأمريكي واعترافه بدرجة أو بأخرى بالسلطات الانتقالية في النيجر، إلا أن السلطات الانتقالية أنهت فورياً الشراكة العسكرية الأمنية بين الطرفين في 16 مارس 2024، وارتأت فيها أبعاد غير قانونية ومجحفة وغير مراعية لطموحات ومصالح النيجر الوطنية، ومنتهكة لقواعدها الدستورية والديمقراطية وفقاً لما أدلى به المتحدث باسم السلطات الانتقالية في النيجر “أمادو عبر الرحمن”.
توتر العلاقات واحتدام الخلافات البينية:
لم يفاجئ قرار الإنهاء ولا مضمونه الولايات المتحدة الأمريكية ولم يثير استغرابها، ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية تفهمت القرار مسبقاً وقد ألمت بمحتواه بمتابعتها الدقيقة لحيثيات الاجتماعات الثنائية بين الطرفين ومخرجاتها الكاشفة لمدى توتر العلاقات واحتدام الخلافات البينية بشأن الفترة الانتقالية والحلفاء الجدد وتأرجح المواقف؛ فقد بينت حيثيات الاجتماع المنعقد في 11 ديسمبر قلق الولايات المتحدة الأمريكية بشأن مستقبل الفترة الانتقالية وتحركات المجلس العسكري المتضاربة مع المصالح الأمريكية. وقد أكدت مخرجات الاجتماع المنعقد في 12 و13 مارس 2024 مدى تصاعد الخلافات والتوترات حد الاتهامات والتصريحات التصعيدية المتبادلة بشكل جعل الولايات المتحدة الأمريكية على علم مسبق بقرار الإنهاء؛ فعقب الإعلان مباشرة، قد علق المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، “ماثيو ميلر” أن موقف النيجر جاء بعد “مناقشات صريحة على مستويات رفيعة في نيامي، هذا الأسبوع بشأن مخاوفنا بشأن مسار المجلس العسكري”.، وصرحت نائبة المتحدث باسم البنتاغون، “سابرينا سينغ” في 18 مارس 2024 “نحن على علم بالبيان الذي صدر عن النيجر لينهي التعاون العسكري مع الولايات المتحدة، وكذلك الوجود العسكري الأميركي هناك”.
إلغاءات متتالية:
يعي المدقق لقرارات المجلس العسكري وإجراءاته التصعيدية، أن قرار الإنهاء بحق الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن فريداً من نوعه ولم يأتي بجديد بشأن توجهات المجلس العسكري تجاه القوى الغربية وردوده الانتقامية؛ فقد سبقه من قبل عدة إلغاءات متتالية ومتعاقبة مع القوى الغربية؛ ففي يوليو 2023؛ ألغى المجلس العسكري اتفاق التعاون العسكري مع فرنسا، وأنهى وجود 1500 عسكرياً فرنسياً في ديسمبر 2023، وفي ذات الشهر، أنهى المجلس اتفاقيات الشراكة الأمنية والدفاعية مع الاتحاد الأوروبي بعد تنديده باتفاق مهمة السياسة الأمنية المدنية والدفاع المشترك وسحب الموافقة الممنوحة لنشر بعثة الشراكة العسكرية في النيجر وإلغاء قانون عام 2015 بشأن تجريم تهريب المهاجرين وطرد رئيسة البعثة الألمانية “كاتيا دومينيك” مؤقتا مع أعضاء آخرين في البعثة في نهاية 2024، وإجبار بعثة بناء القدرات من منطقة الساحل بالنيجر قبل ميعاد خروجهم في شهر مايو 2024.
ديناميات الإنهاء:
لم يكن قرار الإنهاء عبثياً ولم يأتي من فراغ، بل حفزته العديد من الاعتبارات والدوافع، يمكن تقديرها على النحو التالي:
1-تأكيد سيادة النيجر واستقلاله، يفهم من حيثيات القرار ومخرجات الاجتماعات الأخيرة حالة من التصعيد من قبل السلطات النيجرية محمومة بنبرة السيادة الوطنية وحماية الاستقلال ورافضة لسياسات الإملاءات والشروط من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، بشأن القرار، أعلنت النيجر إنهاء الاتفاق باعتباره أحادي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية لا يتعدى مذكرة شفوية بسيطة منذ 2012، لا تراعي أي اعتبارات لسيادة النيجر واستقلاله ولا مصالحه القومية، وتخدم فقط المصالح الأمريكية، وفقاً للاتفاقية، يشير المتحدث باسم السلطات الانتقالية في النيجر” أن بلاده ليست على علم بعدد الأفراد المدنيين والعسكريين الأمريكيين الموجودين على أراضيها أو كمية المعدات المنتشرة. ولا يحق لها طلب مساعدة الجيش الأمريكي ضد الجماعات المسلحة”.
2-إعادة ترتيب الشراكات الأمنية والعسكرية، لا يمكن فهم قرار الإنهاء بعيداً عما تبدي السلطات الانتقالية من توجهات راغبة في إعادة مراجعة شراكاتها العسكرية والأمنية وتنقيح نصوصها وتعديلها على نحو يعيد الترتيبات والشروط من جديد، ويؤكد سيادة واستقلالية ومصالح النيجر واحترام سيادتها المستعادة في يوليو 2023، هو ما تبدى فعلياً بإرسال وزارة الخارجية والتعاون لدولة النيجر في 22 ديسمبر 2023 كتاب رسمي إلى البعثات الدبلوماسية المعتمدة في النيجر، وخاصة الولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا، يفيد بقيام النيجر بمراجعة الاتفاقات الأمنية والعسكرية الموقعة.
3-الخلافات حول الشركاء، بصورة رئيسة، أكدت السلطات الانتقالية أن قرارها بشأن إنهاء اتفاق التعاون العسكري رداً على محاولات الولايات المتحدة الأمريكية في التدخل في شئون النيجر واختيار شركائها العسكريين والأمنيين والدبلوماسيين بعيداً عن شركائها الجدد: (إيران وروسيا) تطويعاً لمصالحها دون مصالح النيجر؛ فقد أشار تصريح المتحدث باسم السلطات الانتقالية في النيجر قائلاً: “النيجر تأسف لنية الوفد الأمريكي حرمان شعب النيجر صاحب السيادة من حق اختيار شركائه وأنواع الشراكات القادرة على مساعدته حقًا في مكافحة الإرهاب”. بل اتجهت أوساط أكاديمية متعددة إلى الربط بين قرار إنهاء الاتفاق وبين اتهام المسئولين الأمريكيين النيجر بعقد اتفاق يسمح لإيران بالوصول إلى احتياطاتها من اليورانيوم.
4-مراوغة الضغوط الأمريكية، تدرك السلطات الانتقالية في النيجر السياسة المصلحية للولايات المتحدة والمشروطة منذ يوليو 2023، وتعي مدى تأرجحها في توصيف موقفها تجاه المجلس العسكري وشرعيته؛ فرغم إبداء الولايات المتحدة الأمريكية تفهم عزل الرئيس السابق “محمد بازوم” وسيطرة المجلس العسكري واعتباره سلطة انتقالية، إلا أنها في أكتوبر، وصفت التحرّك العسكري انقلاباً، وسنت قوانين علقت 442 مليون دولار من المساعدات الاقتصادية، ورهنت تعاونها واستئناف مساعدتها في ديسمبر2023 بشروط معينة منها تسريع الفترة الانتقالية. بل أعربت عن قلقها بشأن مستقبل الفترة الانتقالية في الاجتماع الأخير في 12 و13 مارس 2024 مما يعني بقاء الموقف الأمريكي متأرجحاً واحتمالية تغيره بما يخدم المصالح الأمريكية، ومن ثم تشير الأدبيات السياسية إلى أن قرار الإنهاء مجرد أداة من قبل المجلس العسكري وورقة ضغط لمراوغة الضغوط الأمريكية وضبط إيقاع تحركاتها وتناغمها مع مصالح المجلس العسكري وسيطرته على السلطة وتمديد الفترة الانتقالية.
انعكاسات مؤكدة:
تنبئ التكهنات المستقبلية بعدة انعكاسات حتمية ومؤكدة وفورية، قد تنجم حالة تنفيذ قرار الإنهاء فعلياً، يمكن استعراضها على النحو التالي:
1-تهديد المصالح الأمريكية، لعل القارئ لمضمون اتفاق التعاون العسكري، يدرك أن انهياره وإنهاءه فعلياً يمثل تهديدا مباشراً للمصالح الأمريكية على كافة أصعدتها: الأمنية والعسكرية والسياسية؛ فالاتفاق يمنح الولايات المتحدة الأمريكية وجوداً عسكرياً بقوام يزيد عن 1000 جندياً في قلب الساحل والغرب الأفريقي، ويمنحها قاعدة “اغاديز”- أحد أهم القواعد العسكرية الأمريكية في القارة الأفريقية، ويمكنها من إطلاق طائرات مقاتلة ومسيرة والقيام بعمليات المراقبة والاستخبارات وتنظيم المناوراتٍ العسكرية السنوية “فلينتلوك” مع مختلف الجيوش الأفريقية، من ثم قرار الإنهاء يعني فقدان الولايات المتحدة الأمريكية تلك المزايا ويهدد قدرتها على حماية مصالحها في الغرب الأفريقي لصالح غريمها التقليدي “روسيا”.
2-تأثر عمليات مكافحة الإرهاب، يدرك المتابع أن إنهاء النيجر شراكاته مع القوى الغربية وخاصة فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية يعني انقضاء تمركز 2500 جندي أمريكي وفرنسي وغياب الدعم التقني واللوجستي، وإحداث فراغ أمني وتقليل عمليات المراقبة والتحذير النشط، الأمر يتسع بلا شك ويحتدم عقب الخروج المحتم للولايات المتحدة الأمريكية؛ فتنفيذ قرار الإنهاء فعلياً يعني فقدان الولايات المتحدة الأمريكية أحد أكبر قواعد الطائرات المسيرة والحيوية لمراقبة الجماعات المسلّحة، وينذر ذلك حتماً بتمدد واستفحال الجماعات المسلحة بما في ذلك القاعدة وتنظيم الدولة.
3-تفشي النزعة الاستقلالية، من شأن قرار الاتفاق العسكري مع الولايات المتحدة الأمريكية وفي حالة استيعاب النيجر تداعياته بمساعدة شركائها الجدد الروسي أن يؤدى إلى تفشي وانتشار ظاهرة الاستقلالية في غرب أفريقيا باعتبارها شعارات جذابة وحديثة ترفعها قادة عدد من دول الغرب الأفريقي وخاصة المحكومة من قبل المجالس العسكرية منذ 2020؛ حيث ترفع تلك الدول شعارات الاستقلال والسيادة الوطنية والتخلص من أعباء التبعية الاستعمارية، وترغب في تجديد شراكاتها العسكرية والأمنية على نحو متوازن وخال من الشروط والإملاءات الغربية، ويعني ذلك دخولها تحت عباءة النفوذ الروسي وشراكاته الجذابة والداعمة للمجالس العسكرية، ويرجح ذلك عقد النيجر اتفاق تعاون عسكري في 5 ديسمبر 2023 وهو نفس يوم إنهاء شراكات التعاون الأمني والعسكري مع الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يتأكد أيضاَ بتشديد رئيس المجلس العسكري الحاكم في النيجر في 18 مارس 2024 على التعاون مع روسيا وهو ثالث يوم عقب قرار إنهاء الشراكة مع الولايات المتحدة.
في الختام، يبدو أنه من المبكر جداً الحديث عن أي تكهنات مستقبلية حول جدية المجلس العسكري في النيجر على تنفيذ قرار إنهاء الاتفاق فعلياً أم لا. ويبدو ذلك جلياً عند قراءة مضامين قرار الإنهاء والمسكوت عنه في القرار؛ فقد وصف القرار الوجود العسكري الأمريكي بأنه غير قانوني وغير عادل ومجحف. لكنه بعكس القرارات الأخرى، لم يشير بصورة أو بأخرى إلى انسحاب القوات العسكرية الأمريكية وفق ما حدث مع الجانب الفرنسي، ولم يطالب بتسريع الانسحاب الاضطراري وفق ما جرى مع الاتحاد الأوروبي. وحتى الآن يمكن القول أن قرار الإنهاء الفوري يعد ورقة تساوم وضغط من قبل المجلس العسكري تجاه برجماتية الموقف الأمريكي وتأرجحه ما بين الاعتراف بشرعية المجلس العسكري والمطالبة بتسريع الفترة الانتقالية، ويتفق ذلك مع الموقف الأمريكي غير الراغب في الخروج من النيجر باعتباره منطقة نفوذ أمريكية، ويلحظ ذلك في تصريح .المتحدثة باسم وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون”، سابرينا سينج في 18 مارس 2024. ” إنه ليس هناك إطار زمني لأي انسحاب للقوات الأمريكية من النيجر”.