مثل حضور القوى الآسيوية في الشأن الإفريقي عاملًا هامًا ومتصاعدًا من عوامل ما بات يعرف بالسباق الدولي في القارة الإفريقية؛ اتضح ذلك ربما في تكالب الهند لدعم عملية حارس الازدهار التي تقودها الولايات المتحدة جنوبي البحر الأحمر وخليج عدن، والمناورات الصينية- الروسية- الإيرانية المشتركة التي تنتهي منتصف مارس الجاري في خليج عمان وكانت معنية بضمان تحقيق “حزام أمن بحري” يشمل طرق الملاحة المارة داخل البحر الأحمر والمرتبطة بسواحل القارة الإفريقية الممتدة على مقربة منها.
يتناول المقال الأول مساعي الصين تمتين علاقاتها مع سيراليون في غرب إفريقيا عبر تكريس علاقات “الفوز للجميع” الأمر الذي سيمثل اختراقًا إضافيًا للصين وديبلوماسيتها وعلاقاتها الاقتصادية في واحد من أقاليم القارة الإفريقية الذي يعاني اضطرابًا ملحوظًا منذ سنوات: غرب إفريقيا. وركز المقال على زيارة الرئيس السيراليوني جوليوس مادا بيو للصين (27 فبراير- 2 مارس 2024) ودلالاتها.
أما المقال الثاني فقد تناول المقاربة الإيرانية لأفريقيا، وكشف المقال، دون قصد، عن عجز إيران عن إحداث اختراق حقيقي “منفرد” لحماية مصالحها “الاقتصادية” في القارة الإفريقية وحاجتها الملحة لوجود “شركاء عمل” لاسيما روسيا والصين، وذلك في ضوء عدة اعتبارات يتناولها المقال من الناحية الاقتصادية.
ويتناول المقال الثالث دور قوة آسيوية صاعدة بقوة في الشأن الإفريقي من باب دعم الولايات المتحدة والغرب في عدة ملفات، وتتمثل في الهند. ويتناول المقال مساعي نيودلهي تمتين علاقاتها العسكرية مع إثيوبيا في هذا التوقيت بالغ الأهمية عبر وضع الخطوط العريضة بالفعل لاتفاق تعاون دفاعي بين البلدين يتوع الموافقة عليه بعد الانتخابات الهندية العامة المقررة نهاية ابريل المقبل؛ الأمر الذي سيعمق انخراط الهند في الملفات الأمنية في إقليم القرن الإفريقي على وجه الخصوص، وقرب البحر الأحمر وشرق إفريقيا بشكل أشمل، وهو مسار لا يتفصل عن إسناد الهند للولايات المتحدة بدور “البديل الصيني” لإفريقيا في قطاعات البنية التحتية والزراعة والأمن والدفاع وغيرها.
الصين وسيراليون: تقوية العلاقات في إقليم مضطرب([1]):
توجه الرئيس السيراليوني جوليوس مادا بيو Julius Maada Bio لزيارة دولة هامة إلى الصين في الفترة 27 فبراير- 2 مارس 2024 بناء على دعوة الرئيس الصيني شي جينبينج مثلت الزيارة الأولى التي يقوم بها رئيس إفريقي إلى الصين في العام الجاري. وتظهر الدراسات السابقة أن تلك الزيارات المتكررة ورفيعة المستوى التي يقوم بها قادة أفارقة للصين تكون مرتبطة دومًا بعلاقات تجارية واستثمارية أكبر مع الصين. وتظهر نظرة أدق لزيارة بيو بعض الافكار الهامة بخصوص سياسات الصين في إفريقيا، وإقليم غرب إفريقيا على وجه الخصوص (الذي يشهد اضطرابات سياسية مزمنة في الأعوام الأخيرة). فقد أقامت سيراليون والصين علاقات دبلوماسية بينهما منذ 29 يوليو 1971، وفي الفترة 2009-2024 قام رؤساء سيراليون بستة زيارات للصين، وهو معدل يفوق دولًا إفريقية كثيرة. علاوة على ذلك فإنه قبل عشرة أشهر فقط توجه وزير الخارجية السيراليوني ديفيد ج. فرانسيس إلى بكين. ويظهر تكرار الزيارات رفيعة المستوى من قبل مسئولين سيراليونيين لبكين حقيقة ما تمثله الصين من شريك اولي للبلاد. وهناك عدة أسباب للتوصل على تلك الخلاصة. أولها ان الصين حتى الآن هي أكبر وجهة للصادرات السيراليونية؛ ففي العام 2021 صدرت سيراليون للصين سلعًا بقيمة 341 مليون دولار.
بينما تمثل بلجيكا ثاني أهم وجهة لصادرات سيراليون بقيمة (161 مليون دولار) وهي تقل عن نصف الموجهة للصين، مما يجعل سيراليون واحدة من الدول الإفريقية القليلة التي تملك فائضًا تجاريًا مع الصين. ووفقًا للإدارة العامة للجمارك General Administration of Customs (GAC) في الصين فإن سيراليون حققت في العام 2023 مكسبًا قيمته 1.65 دولارًا مقابل كل دولار استوردته من الصين. مع ملاحظة اكتساب سيراليون أهمية كبيرة لدى الصين لصادراتها من المواد الخام مثل التيتانيوم والحديد وخام الألومنيوم ثم الأخشاب والماس.
وفي المقابل تمثل الصين لسيراليون أكبر مصدر للاستثمار الخارجي المباشر. وعلى سبيل المثال فقد استثمرت الصين في العام 2021 قرابة 106 مليون دولار في سيراليون مقارنة باستثمارات المملكة المتحدة التي لامست 66 مليون دولار والولايات المتحدة التي لم تتجاوز 1 مليون دولار. بأي حال فإن الاستثمارات الصينية، كما بقية الاستثمارات الخارجية في سيراليون، ركزت حتى الآن بقوة على قطاع تعدين العديد من المعادن ومعالجة خام الحديد.
كما كان إقراض الصين لبكين في مجال تنمية البنية الأساسية ومساعدات لقطاعات أخرى مثل الرعاية الصحية، والتعليم والزراعة، مجالًا رئيسًا للتعاون من وجهة نظر سيراليون. وعلى سبيل المثال فإن طريق الصداقة الصينية- السيراليونية السريع لا يزال الطريق السريع الحديث الوحيد في سيراليون ولا يزال يلعب دورًا حيويًا في ربط العاصمة فريتاون بالمراكز الحضرية الأخرى داخل سيراليون. غير أن هذا التعاون لم يمض بالسلاسة المتوقعة، إذ اعترته عدة عقبات. وعلى سبيل المثال فقد تم إلغاء مشروع إنشاء مطار جديد في العام 2018 من قبل الحكومة السيراليونية الحالية استجابة لمخاوف أثارها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي من مستويات استدامة ديون سيراليون. غير أنه ثمة مشروعات أخرى تم الإعلان عنها بتمويل صيني من أبرزها إقامة جسر جديد إلى المطار الحالي -وفق مذكرة تفاهم وقعتها فريتاون وبكين نهاية العام 2023- ويتوقع اكتماله بحلول العام 2027.
وأولت الصين أهمية كبيرة لسيراليون في ضوء كون الأخيرة رئيسًا للجنة العشرة التابعة للاتحاد الإفريقي لإصلاح مجلس الأمن بالأمم المتحدة منذ تكوينها في العام 2005. ونظرًا لكون الصين واحدة من الدول الخمس دائمة العضوية في المجلس فإن سيراليون قامت على نحو مستمر بالتشاور مع الصين نيابة عن القارة الإفريقية من أجل تقوية دعم الصين لموقف الاتحاد الإفريقي إزاء إصلاح المجلس.
لكن ما الذي يثير اهتمام الصين بسيراليون؟ بداية رغم أن الأخيرة دولة صغيرة لكنها غنية بالموارد المعدنية. واتخذت الصين خطوات عديدة لتنويع مواردها من المعادن الرئيسة وواردات الطاقة من أجل تعزيز مرونتها الاقتصادية وامنها الطاقوي. وسعت الصين بشكل واضح لتحسين علاقاتها مع سيراليون في الفترة 2019-2023 فيما كانت بكين تحاول خفض اعتمادها على صادرات خام الحديد الأسترالية. وذلك إلى جانب اعتبارات تاريخية وسياسية مماثلة لاهتمام سيراليون بالصين.
وتسعى إدارة الرئيس “بيو” للعمل من أجل وضع سيراليون ضمن قائمة المقاصد الاستثمارية العالمية الرئيسة مع التأكيد على تمتعها بحالة أمن واستقرار سياسي. وأطلت إدارة بيو سلسلة من الإصلاحات الرئيسة لتحسين بيئة العمل في سيراليون بما في ذلك وضع آلية مرنة وسريعة لتسجيل الأعمال والخدمات من منفذ واحد للمستثمرين في “مكتب الاستثمار القومي”. بأي حال فإن زيارة بيو لبكين تظهر شهية الصين لانخراط قوي في القارة الإفريقية -من البنية الأساسية إلى التجارة والاستثمار وكذلك العلاقات الدولية، فيما لا يوجد عائق كبير تفرضه التحديات الاقتصادية الداخلية في الصين أمام هذا الانخراط. كما تشير الزيارة إلى أن هناك عدد كبير من الدول الإفريقية، بما فيها سيراليون، تحاول بنشاط واضح تنويع انخراطها مع الصين. فهل ينجح الطرفان؟
إيران تستضيف قمة التجارة الإيرانية الإفريقية الثانية في أبريل([2]):
أعلن المدير العام لقسم إفريقيا بهيئة دعم التجارة الإيرانية محمد صادق غاندزاده M. S. Ghanadzadah قبيل منتصف مارس الجاري عزم بلاده عقد قمة التجارة الإيرانية الإفريقية في 26-29 أبريل المقبل في العاصمة طهران. وجاء إعلانه في حضور إحدى الاجتماعات مع ممثلين من وزارة الصناعة والتعدين والتجارة الإيرانية. وجاءت الخطوة لتجدد الاهتمام الإيراني بإفريقيا. وطوال الأربعون عامًا الماضية سعت إيران جاهدة لتقوية علاقاتها مع القارة الإفريقية بفضل ما تعتبره أوجه تشابه سياسي وثقافي رغم العقوبات (الغربية المفروضة عليها)، وهو ما تجلى حسب تصريحات غاندزاده.
وقد شهدت العلاقات الإيرانية الإفريقية في مجال التجارة ارتفاعًا ملحوظًا في الفترة مارس 2005- مارس 2007 (وفق التقويم الإيراني) قبل تراجعها في العام المالي المنتهي في مارس 2008 بسبب الأزمة الاقتصادية وتعاظم العقوبات على إيران.، وظلت مستويات التجارة الإيرانية- الإفريقية عند حدود 1.2 بليون دولار، لكن طهران تتوقع مع تحسن طرق النقل مع القارة الإفريقية راهنًا (رغم أزمة البحر الأحمر الجارية) وصول حجم التجارة مع إفريقيا إلى 10 بليون دولار “في الأعوام الثلاثة المقبلة”.
وفي الواقع فقد اتخذت خطوات جيدة لاستغلال قدرة إفريقيا التي يمكن أن تكون سوقًا ملائمة للسلع الإيرانية. وفي العام الماضي بدأت طهران ما سمته بالإجراءات الحكومية الثلاثة عشر لتطوير العلاقات مع القارة الإفريقية والتوجيه بزيارات مكثفة للقارة واستضافة طهران نحو 60 وفدًا تجاريًا إفريقيا في العام 2021-2022. وحسب المسئولون الإيرانيون فإن هذه الإجراءات أسفرت عن نمو نسبته 100% في تجارة إيران مع إفريقيا من 650 مليون دولار في العام 2022 لتتجاوز ذلك في العام 2023. كما شهدت الصادرات التقنية والخدمات الهندسية الإيرانية لدول القارة زيادة بنسبة 700% في الفترة نفسها. وحسب إحصاءات الصادرات الإيرانية الرسمية فإن التجارة السنوية بين إيران وإفريقيا وصلت في العام الماضي إلى 2.55 مليون طن بقيمة 1.3 بليون دولار إذ صدرت إيران منتجات زنة 2.45 مليون طن بقيمة 1.183 بليون دولار إلى 49 دولة إفريقية في العام الماضي مما مثل تراجعًا نسبته 1% واستوردت من القارة سلعًا زنة 92898 طنًا بقيمة 95.316 مليون طن من 23 دولة أفريقية فيما يشير إلى ارتفاع نسبته 59% مقارنة بالعام الذي سبقه (2022).
انطلاقة هندية في إفريقيا- اتفاق دفاعي مع إثيوبيا في مراحله الأخيرة([3]):
وصلت الهند وإثيوبيا إلى المراحل النهائية لتوقيع اتفاق تعاون دفاعي سيشهد دور جديد لنيودلهي في مساعدة إثيوبيا عبر التدريب العسكري وتوفير “خطوط ائتمان” لتعزيز دفاعاتها. وأكد ذلك ديميكي أتنافو D. Atnafu، سفير إثيوبيا في نيودلهي، لوسائل إعلام هندية على هامش مؤتمر نظمته Observer Research Foundation (وهو مركز تفكير هندي بارز يعمل منذ العام 1990 بشكل موسع ويحظى بقائمة شركاء من عدد من كبريات الشركات الدولية العاملة في الهند في قطاعات البترول والاتصالات والتكنولوجيا وغيرها) متوقعًا إنجاز ذلك الاتفاق بعد الانتخابات العامة في الهند (المقررة في أبريل المقبل)؛ وفيما سيمثل الاتفاق المرتقب حدثًا جديدًا (في العلاقات بين الهند وإثيوبيا) فإن البلدين لهما تاريخ ممتد من التعاون في مجال الدفاع منذ خمسينيات القرن الماضي.
وتعززت تلك الصلات في العام 2023 عندما اتفق رئيسا وزراء البلدين الهندي نارندرا مودي والإثيوبي آبي أحمد على تعميق العلاقات وتوسيع التعاون الثنائي، بما في ذلك في مجال الدفاع في اجتماع خلال قمة “بريكس” في جوهانسبرج. وسبق ذلك التقارب التطور الذي تم في أكتوبر 2022 إذ شارك وزير الدفاع الإثيوبي أبراهام بيلاي في “الحوار الدفاعي الهندي- الإفريقي” India-Africa Defence Dialogue الذي عقد على هامش ديف-اكسبو DefExpo في مدينة غاندينجار Ghandinagar. وخلال الزيارة عقد بيلاي أيضًا اجتماعًا مع نظيره الهندي Rajnath Singh ناقشا خلاله التعاون الثنائي بين بلديهما.
ويمثل ذلك جانبًا من اندفاعة الهند القوية في مجال التعاون الدفاعي مع إفريقيا بعد سنوات معدودة من نجاح نيودلهي في جذب عدد من الدول الإفريقية لشراء نظم دفاع جوي وأسلحة صغيرة وتكنولوجيا مضادة للدرونز وغيرها. وكما ورد في وقت سابق فإن الهند وفرت خطًا ائتمانيًا a line of credit يلامس نحو 14 بليون دولار لنحو 42 دولة من دول الاتحاد الإفريقي وتتطلع لزيادة مخصصاتها لدعم القدرات الدفاعية للدول الإفريقية، إلى جانب القطاعات التقليدية مثل السكك الحديدية والموانئ والطرق. وكانت الهند قد لعبت في الخمسينيات دورًا محوريًا في تأسيس أكاديمية هرر العسكرية Harar Military Academy في إثيوبيا إذ طلب الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي وقتها من الهند مساعدته في تأسيس الأكاديمية بعد زيارته لأكاديمية الدفاع الوطني في مدينة خاداكواسلا Khadakwasla بولاية بوني Pune الهندية في العام 1956. كما أرسلت الهند فريقًا عسكريًا للتدريب لإثيوبية مكونًا من تسعة عسكريين في العام 2009 إلى اكاديمية هايلوم أرايا العسكرية Major General Hayelom Araya Military Academy في مدينة هوليتا بإثيوبيا وفق اتفاق مدته ثلاثة أعوام بين البلدين.
وقالت مصادر في المؤسسة العسكرية أن التعاون الهندي مع إثيوبيا سيتعلق ببرامج تدريب متعددة وسيساعد على تقديم خط ائتمان لبناء القدرات (الإثيوبية)، أخذًا في الاعتبار حقيقة أن الهند ليست وحدها في درب التركيز على إفريقيا، إذ تركز الصين أيضًا على تعميق تعاونها الدفاعي مع إفريقيا. ووفقًا لمركز التنمية العالمية Global development Centre في جامعة بوسطن فإن الصين وقعت علنًا في الفترة ما بين العام 2000 و2020 نحو 27 اتفاقًا لتقديم قروض مع ثمانية دول إفريقية بقيمة 3.5 بليون دولار للإنفاق في مجال الدفاع.
وقال أتنافو في سياق مناقشة عقدها مركز تفكير Observer Research Foundation أن نيودلهي وأديس أبابا تعملان سويًا على وضع اتفاق للعمل معًا لإنجاز واجهة مدفوعات موحدة Unified Payments Interface (UPI). وفي نوفمبر 2023 خلال انعقاد لجنة التجارة المشتركة بين الهند وإثيوبيا (السادسة) India-Ethiopia Joint Trade Committee في أديس أبابا دعت الهند إلى تعاون بين واجهة المدفوعات الموحدة (الهندية) ونظام المدفوعات الوطنية الإثيوبية المعروف باسم إثسويتش EthSwitch.
…………………………………………………
[1] Rosie Wigmore, President Bio’s Visit Charts a More Holistic Path for China-Sierra Leone Relations, The Diplomat, March 8, 2024 https://thediplomat.com/2024/03/president-bios-visit-charts-a-more-holistic-path-for-china-sierra-leone-relations/
[2] Tehran to host 2nd Iran-Africa trade summit in April, Tehran Times, April 10, 2024 https://www.tehrantimes.com/news/495980/Tehran-to-host-2nd-Iran-Africa-trade-summit-in-April
[3] Keshav Padmanabhan, India’s Africa push — defence pact with Ethiopia in final stages, The Print, March 13, 2024 https://theprint.in/world/indias-africa-push-defence-pact-with-ethiopia-in-final-stages/1998983/