لم يبقَ للجنوب إفريقيين سوى أقل من ثلاثة أسابيع لإجراء الانتخابات العامة في البلاد؛ حيث سيتوجّهون إلى صناديق الاقتراع في 8 مايو 2019م لانتخاب الجمعية الوطنية الجديدة والمجالس التشريعية المحلية في كل المقاطعات/ الأقاليم، واختيار رئيس الحزب الفائز بالأغلبية البرلمانية رئيسًا للبلاد.
وسيقود الرئيس الحالي “سيريل رامافوسا” حزب “المؤتمر الوطني الإفريقي” الحاكم في هذه الانتخابات؛ للحفاظ على أغلبية الحزب، وتأمين الولاية الرئاسية الكاملة لنفسه كرئيس للبلاد؛ لأنه تولّى الرئاسة الحالية بعد استقالة سلفه “جاكوب زوما” من منصبه في 14 فبراير 2018م، بينما لا يمكن لـ”زوما” الترشح لفترة ولاية ثالثة؛ لأنّ الحدّ الأقصى بحسب دستور البلاد ولايتان بخمس سنوات لكلٍّ منها.
وعلى الرغم من أهمية هذه الانتخابات، فإنّ ما يميزها ليس لأنها ستكون الانتخابات السادسة منذ نهاية الأبارتايد (الفصل العنصري) في عام 1994م، وأنها ستحدِّد مَن سيصبح الرئيس القادم لجنوب إفريقيا، ولكن لأنَّ مسألة الأرض تربعتْ على المشهد السياسي، وهي أولى الموضوعات التي يناقشها رؤساء الأحزاب في حملاتهم الانتخابية.
وفي حين وجدت القضايا الاقتصادية أيضًا طريقها إلى حوارات المرشحين؛ حيث بلغت البطالة في البلاد حوالي 28 في المئة، وتجاوزت بطالة الشباب 50 في المئة في بعض المناطق، فإن فضائح الفساد لا تزال تهدِّد بتمزيق المنافسات القديمة داخل حزب “نيلسون مانديلا” الحاكم الذي شوَّهته مزاعم الكسب غير المشروع بعد 25 عامًا من وجوده في السلطة؛ الأمر الذي أجبر الحزب على إزاحة الرئيس السابق “زوما” من منصبه في العام الماضي.
الأغلبية البرلمانية ورئاسة البلاد
لقد توقَّع “ساي مامابولي” – رئيس اللجنة الانتخابية في جنوب إفريقيا (IEC)- أن يخوض 48 حزبًا سياسيًّا انتخابات 8 مايو، ما يعني زيادة بـ 19 حزبًا مقارنة بعدد الأحزاب التي خاضت انتخابات 2014م.
ويتصدر قائمة رؤساء الأحزاب -الذين سيحظون برئاسة البلاد في حال فوز حزبهم بالأغلبية البرلمانية- كل من: الرئيس الحالي “رامافوسا” من “المؤتمر الوطني الإفريقي” (ANC)؛ المعارض “امّوسي مايمان” من حزب “التحالف الديمقراطي” (DC)؛ المعارض الشهير المثير للجدل “جوليس ماليما” من حزب “المقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية” (EFF)، و “مانغوسوثو بوتيليزي” من “حزب الحرية انكاثا” (IFP)، ورؤساء أحزاب آخرين.
ففي عام 2018م، فاز رجل الأعمال ورئيس البلاد “سيريل رامافوسا” على منافسه الزعيمة والرئيسة السابقة للاتحاد الإفريقي “نكوسازانا دلاميني-زوما” برئاسة حزب “المؤتمر الوطني الإفريقي” لمدة خمس سنوات. ومع أنّ “رامافوسا” تعهَّد عند استلامه للسلطة بمعالجة الفساد الذي قوَّض ظهر عهد سلفه “زوما”، إلا أنّ مزاعم جديدة ظهرتْ مؤخرًا حول التعفن الأخلاقي في قلب الحزب الحاكم، ما أدت إلى سلسلة من الإقالات تحت إدارته.
ومما يثير شك الناس في “رامافوسا” أن قائمة المرشحين المنتمين لحزب “المؤتمر الوطني الإفريقي” في هذه الانتخابات لمناصب مختلفة تشمل شخصيات متَّهمة بالرشوة وتحويل أموال العامة إلى جيوبهم. وسيعطي هذا أحزاب المعارضة فرصًا ثمينة للانتقادات وكسب الأصوات، حتى وإن كان استطلاع حديث توقَّع فوز “المؤتمر الوطني الإفريقي” بأكثر من نصف المقاعد في البرلمان.
ويوجد لحزب “المؤتمر الوطني الإفريقي” حاليًا 249 مقعدًا من بين 400 مقعد، ويأمل “رامافوسا” مواصلة الفوز بأغلبية برلمانية، مما سيمكّنه من الفوز بفترة رئاسية مدتها خمس سنوات.
من جانب آخر، ظهر الزعيم “امّوسي مايمان” البالغ 38 عامًا في الساحة السياسية في عام 2011م أثناء محاولته الفاشلة لرئاسة بلدية “جوهانسبرج”، ومنذ ذلك الحين وضع أمام عينيه هدفًا أكبر، وهو قيادة حزبه “التحالف الديمقراطي” إلى الفوز بالأغلبية بالبرلمان في الانتخابات القادمة، وبالتالي رئاسة جنوب إفريقيا.
ومن بين الموضوعات الرئيسية لـ “مايمان” هذا العام: مناصرة التنوع (جمع السود والبيض) داخل حزبه، والحفاظ على السلطة في مقاطعة “غاوتينغ” التي يتربع عليها حزبه، وخلق الوظائف للشباب، إضافة إلى التزامه بتخليص البلاد من الفساد.
أمّا “جوليوس سيلو ماليما” -يبلغ من العمر 38 عامًا-، فهو عضو في البرلمان وأكثر الزعماء المعارضين إثارة للجدل بسبب مواقفه وتصريحاته النارية. وقد أسَّس حزب “المقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية” (EFF) في يوليو 2013م، وشغل سابقًا منصب رئيس رابطة شباب حزب “المؤتمر الوطني الإفريقي” من 2008 إلى 2012م.
وقد نجح “ماليما” بعد تأسيس حزبه بوضع الحركة في خريطة الأحزاب التي لا يمكن تجاهلها في جنوب إفريقيا. بل جعلَه عَظْمًا معلّقا في رئة زعماء “المؤتمر الوطني الإفريقي” الذين لم يظنوا يومًا أنّ حزب الشاب “ماليما” سيشكل لهم تحدِّيًا في المستقبل.
ففي عام 2016م فاز “المقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية” (EFF) بـأكثر من 8٪ من الأصوات في الانتخابات المحلية، ويحافظ الحزب حاليًا على 25 مقعدًا في البرلمان، ويأمل تحقيق تقدم كبير في الانتخابات العامة لعام 2019م من خلال الاستفادة من الإحباط بين ملايين الشباب والفقراء بجنوب إفريقيا.
ورأى “حزب الحرية انكاثا” (IFP) الذي يقوده “مانغوسوثو بوثيليز” انخفاضًا في الدعم منذ عام 2004م بسبب الخلافات الداخلية للحزب. وكسب الحزب دعمًا ملحوظًا في الانتخابات البلدية عام 2016م في معقله بـ “كوازولو ناتال”. وسيقود “بوثيليز” حزبه في الانتخابات القادمة للمرة الأخيرة كرئيس للحزب، حيث أعلن في يناير 2019م أنه لن يسعى لإعادة انتخابه لفترة ولاية أخرى.
انتخابات جنوب إفريقيا ومسألة الأرض
لا تزال ثلاثة أرباع الأراضي الزراعية في جنوب إفريقيا بأيدي “المجتمع الأبيض”، بعد مرور ربع قرن من سقوط النظام العنصري الأبيض. هذا بالرغم من أن البيض يمثلون 8% فقط من سكان البلاد البالغ عددهم 55 مليون نسمة.
ولم يكن إصلاح الأراضي الهادف إلى تصحيح أوجه عدم المساواة الموروثة صعبًا على الرئيس “سيريل رامافوسا” فقط لإحياء الدعم الباهت لحزبه، بل كانت القضية على رأس برامج زعماء الأحزاب السياسية الآخرين؛ بمن فيهم زعيم المعارضة “جوليوس ماليما”. كما أنها بالغة الأهمية للجنوب إفريقيين السود، ومصدر قلقٍ للمزارعين البيض؛ لأنهم من كبار مُلَّاك الأراضي في البلاد.
وقد حذّر “ماليما” حكومة “المؤتمر الوطني الإفريقي” من أن فقراء وشباب جنوب إفريقيا يشعرون بأن سياسات البلاد قد تخلَّتْ عنهم بعد الأبارتهايد منذ عام 1994م. وكان الموقف الرسمي لحزب “ماليما” حول مسألة الأرض: أن يحدث الإصلاح بشكل جذري مع إعادة توزيع الأراضي وتغيير دستور البلاد للسماح بمصادرة الأراضي دون تعويض في بعض الحالات.
وكما قال ماليما لـ”وكالة فرانس برس” في مقابلة معه بمقر قيادة حزبه في جوهانسبرغ: “لقد جاء (حزبنا) EFF في الوقت المناسب كي يجمّع كل هذه الطاقة (الشبابية) في حزب واحد للمطالبة بالكفاح الاقتصادي.. قال حزب EFF: “لشعبنا الطريقة الأكثر عملية لاستعادة الأراضي هي احتلال الأرض غير المأهولة للضغط على الدولة، وقد نجحتْ. الآن بدأتْ الدولة وأصحاب الأراضي يقولون: “ربما يجب علينا القيام بشيء””.
ولقوّة المتابعة التي يحظى بها حزب “المقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية”، وحِدَّة خطابات “ماليما” والذي لقي موقفه قبولاً واسعًا لدى السود وخاصة الشباب، فقد اضطرّ الرئيس “رامافوسا” أيضًا إلى تبنّي هذا الموقف.
أما حزب “التحالف الديمقراطي” (DA) بقيادة “مايمان”؛ فإن بيانه الانتخابي يشير إلى أن موقفه هو أن تكون الأرض أداة قوية للتنمية الاقتصادية للأفراد والمجتمعات، وتسهم في تسهيل الأعمال التجارية الصغيرة.
“إن برنامج الإصلاح الزراعي الحالي مليء بالفساد، وتحويل ميزانية إصلاح الأراضي إلى النُّخَب، والافتقار إلى الإرادة السياسية، والافتقار إلى التدريب والقدرات.. وقد أثبت كل ذلك أنه توجد عوائق خطيرة أمام إصلاح الأراضي ذي مغزى”؛ كما صرح البيان.
وتتخوّف مختلف اتحادات ومجموعات التعدين من دفع ثمن إعادة توزيع ضخمة لأراضي البلاد وردّها إلى الأغلبية السوداء في البلاد، خصوصًا وأنّ مناجم جنوب إفريقيا كانت منذ فترة طويلة ركيزة رئسية في اقتصاد البلاد، لكن هذه المناجم شهدت انخفاضًا بطيئًا منذ سنوات لانخفاض أسعار السلع وارتفاع تكاليف الإنتاج.
بل وصرَّح رؤساء الشركات متعدِّدَة الجنسيات في البلاد عن وجهات نظرهم وحدَّدوا شروطهم بشكل واضح، وهي أن المستثمرين سيهربون من البلاد، ولن يساهموا في إنعاش الاقتصاد إذا كانت ملكية أراضي التعدين غير مضمونة لهم. وهذا ما أجبر الرئيس “رامافوسا” على تهدئة القطاع.
“على المستثمرين ألا يخافوا؛ لأنّ ممتلكاتهم لن تُؤْخَذ منهم”، وأضاف “رامافوسا” في مناسبة أخرى أنّ إصلاح الأراضي يهدف إلى “إصلاح (…) الخطيئة الأصلية التي ارتُكِبَتْ ضد السود في جنوب إفريقيا أثناء الاستعمار والفصل العنصري”.
ولكن، هل تؤدي قضية إصلاح الأرض إلى عنف في البلاد؟
يجيب “جوليوس ماليما” بأن المزارعين البيض يريدون التخلي عن الأرض أيضًا؛ لأن كلاً من السود والبيض بدأوا يناقشون الأمر فيما بينهم، ويبحثون مع بعضهم البعض كيفية حل المشكلة بطريقة عادلة قبل انفجار الأوضاع.
“ستُقَسَّم الأرض (فيما بين السود والبيض)، ولكن يجب أن تكون (الأرض) أولاً مملوكة للدولة، ثم إعادة تخصيصها لنا جميعًا؛ سود وبيض”؛ هكذا قال “ماليما”.
ويرى بعض الخبراء في صناعة التعدين أنّ أغراضًا سياسية وراء التهديد والتخويف مِن قِبَل بعض الشركات تجاه إصلاح الأراضي، واستعادة ما سُلِبَ من السود في البلاد؛ لأنه لا توجد في خطة الإصلاح والنقاشات حوله ما يشير إلى إيجاد طوفان من القرارات ضد البيض بشكل عام أو مصادرة ممتلكات شركات التعدين بشكل خاص.