يمثل اتفاق الدفاع البحري بين الصومال وتركيا، الموقع في فبراير 2024، لحظة محورية في الجغرافيا السياسية للقرن الإفريقي. وبموجب الاتفاقية التي تغطي فترة عشر سنوات، سوف تساعد تركيا في الدفاع عن الساحل الصومالي الطويل وكذلك إعادة بناء القوات البحرية الصومالية. وطبقا لوزارة الدفاع التركية فإن تركيا سوف: “تساعد الصومال على تطوير قدراته وإمكاناته لمكافحة الأنشطة غير القانونية وغير النظامية في مياهه الإقليمية”. وعلى خلفية الديناميكيات الإقليمية المتطورة والمخاوف الأمنية المتزايدة، تعكس هذه الشراكة الضرورات الاستراتيجية لكلا البلدين. وتهدف هذه المقالة إلى التعمق في الشبكة المعقدة من العوامل الجيوسياسية المحيطة بهذه الاتفاقية، وتقديم تحليل مفصل لسياقها وآثارها وتداعياتها الأوسع.
السياق العام للشراكة:
يمكن إرجاع نشأة الشراكة البحرية الصومالية التركية إلى نوفمبر 2023، عندما بدأت المناقشات بين البلدين. إن نفوذ تركيا المتزايد في قطاع الدفاع، إلى جانب طموحاتها الاستراتيجية في إفريقيا، مهد الطريق لهذا التعاون. وتعتبر تركيا نفسها مُصدرًا رئيسيًا لمنتجات الصناعة الدفاعية، وتسعى بنشاط إلى إقامة شراكات مع الدول الإفريقية لتوسيع نفوذها. وقد برز الصومال، بموقعه الاستراتيجي على طول الطرق البحرية الرئيسية وتحدياته الأمنية المستمرة، كشريك طبيعي لمساعي الأمن البحري التركية.
علاوة على ذلك، يعود تاريخ مشاركة تركيا في المشهد الأمني بالصومال إلى عام 2022 عندما أصبحت داعمًا رئيسيًا للجهود ضد حركة الشباب. وقد وضع هذا التعاون الأولي الأساس لاتفاقية الدفاع الأمن البحري، والتي تم التوقيع عليها في فبراير 2024. ويؤكد التزام تركيا بتدريب وتجهيز القوات البحرية الصومالية والمساعدة في تسيير دوريات على ساحلها البالغ طوله 3333 كيلومترًا، العمق الاستراتيجي لهذه الشراكة.
ومع ذلك فإن السؤال المطروح هنا يتعلق بأهمية هذا الاتفاق بالنسبة لتركيا وسياستها العامة تجاه القرن الإفريقي؟ وكيف ينبغي لنا أن نفهم الأمر من منظور أوسع؟
يمكن القول أن تركيا تسعى لاستغلال الفرص من أجل تعظيم مصالحها الاستراتيجية. على سبيل المثال خلال الأزمة الخليجية عام 2017، تصرفت تركيا بسرعة وحسم، فزادت من وجودها العسكري في الخليج وافتتحت قاعدة عسكرية/تدريبية في الدوحة. وقد أصبح من الواضح اليوم أن تركيا تتمتع بمكانة عسكرية راسخة في الخليج. وبالمثل عندما وقعت إثيوبيا وصوماليلاند اتفاقية تمنح أثيوبيا منفذا من أجل الوصول إلى ساحل البحر الأحمر، رأت الحكومة الفيدرالية في مقديشيو أن ذلك يمثل تهديدًا وجوديًا. وسرعان ما استجابت أنقرة للطلب الصومالي لمساعدة مقديشو. وقامت بتقييم الأزمة ووقعت اتفاقاً لزيادة تواجدها العسكري في الصومال.
ويعد هذا الاتفاق بالغ الأهمية لتركيا من زاويتين:
أولاً، سيزيد من الوجود العسكري التركي في الصومال وربما يؤدي إلى إضافة مطار صغير للطائرات العسكرية في مركز التدريب العسكري في الصومال الذي تأسس عام 2017، والذي برزت الحاجة إليه أثناء عمليات الإجلاء في السودان.
ثانياً، يمكن أن يمهد هذا الاتفاق الطريق بشكل واضح لوجود تركيا في البحار المفتوحة في المنطقة، وبالتالي فعاليتها في التعامل مع التطورات في خليج عدن. علاوة على ذلك يشكل هذا الاتفاق استمراراً للعلاقات العسكرية الراسخة بين تركيا والصومال في العقد الماضي، وانعكاساً للثقة بالنفس التي اكتسبها الصومال في مواجهة حركة الشباب، مما يسمح لها اليوم بالتصرف بشكل أكثر استقلالية في السياسة الإقليمية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن تفسير الاتفاقية على أنها الخطوة الأكثر فعالية التي اتخذتها الصومال في الجغرافيا السياسية للمنطقة بعد عام 2010.
دور الأمن البحري:
يقع الأمن البحري في قلب الشراكة الصومالية التركية، نظراً لموقع الصومال الاستراتيجي وقابلية تعرضه للتهديدات البحرية. ويشكل خليج عدن والمحيط الهندي شريانين حيويين للتجارة العالمية، مما يجعل الأمن البحري ضرورة حتمية للاستقرار الإقليمي. تشكل القرصنة والصيد غير القانوني والإرهاب البحري تحديات كبيرة لأمن الصومال وتنميته الاقتصادية، مما يؤكد الحاجة الملحة لتعزيز قدراته البحرية. ولعل الخلاف البحري بين الصومال وكينيا يضفي أهمية أخرى لهذا الاتفاق.
وتهدف تركيا من خلال الاتفاقية إلى تعزيز القدرة الأمنية البحرية للصومال من خلال مجموعة من التدابير، بما في ذلك التدريب وتوفير المعدات وعمليات الدوريات المشتركة. إن الخبرة التركية في مجال الأمن البحري، إلى جانب المصالح الاستراتيجية للصومال، تخلق علاقة تكافلية تهدف إلى حماية المياه الإقليمية للصومال والمنطقة الاقتصادية الخالصة.
التداعيات الجيوسياسية:
تحمل الشراكة البحرية بين الصومال وتركيا آثارًا جيوسياسية بعيدة المدى، على المستويين الإقليمي والدولي. وعلى المستوى الإقليمي، يعيد الاتفاق تشكيل ديناميكيات القوة القائمة في القرن الإفريقي ويسلط الضوء على نفوذ تركيا المتنامي في المنطقة. ويُنظر إلى تحالف تركيا مع الصومال على أنه ثقل موازن للقوى الإقليمية الأخرى، وخاصة إثيوبيا ودول الخليج، التي لديهما مصالح خاصة في المنطقة.
وقد أكدت التطورات الجيوسياسية الأخيرة، مثل مذكرة التفاهم بين إثيوبيا وصوماليلاند في يناير 2024، على الأهمية الاستراتيجية للشراكة بين الصومال وتركيا. إن التزام تركيا بسلامة أراضي الصومال يساعد في مواجهة طموحات الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى ويعزز سيادة الصومال في مواجهة الضغوط الخارجية. وعلى أي حال فإن إثيوبيا لا يمكن أن تخاطر باستعداء تركيا. لقد شهدت العلاقات بين إثيوبيا وتركيا فترة مد كبرى في 2020-2021 عندما ساعدت تركيا إثيوبيا في معركتها ضد التيغراي من خلال توريد الطائرات بدون طيار وغيرها من المعدات العسكرية. سيكون من الصعب العودة إلى نفس الفترة مرة أخرى، ومع ذلك، فإن العلاقات العسكرية والأمنية متعددة الأبعاد بين تركيا وإثيوبيا قد وصلت إلى نقطة اللاعودة مع رسوخ الثقة المتبادلة بشأن هذه القضية.
آفاق المستقبل:
بالنظر إلى المشهد الجيوسياسي الحالي والاتفاقات الأخيرة بين إثيوبيا وصوماليلاند وتركيا والصومال، يمكن أن تتكشف عدة سيناريوهات مستقبلية على النحو التالي:
1-تزايد حدة المنافسة الإقليمية: قد تؤدي الاتفاقيات المتباينة إلى تكثيف المنافسة بين القوى الإقليمية والعالمية على النفوذ في القرن الإفريقي. وقد يؤدي هذا إلى المزيد من الاستقطاب والتحالفات الاستراتيجية داخل المنطقة، مع سعي دول مثل إثيوبيا وصوماليلاند والصومال وتركيا وغيرها إلى تعزيز مواقفها بغية حماية مصالحها الاستراتيجية.
2-التحالفات المتباينة: يمكن أن تؤدي الشراكات إلى تشكيل تحالفات متباينة داخل القرن الإفريقي، حيث تصطف البلدان على أساس مصالحها وأهدافها الجيوسياسية. وقد يؤدي ذلك إلى ظهور تكتلات أو تحالفات، مما يزيد من تعقيد الديناميكيات الإقليمية. ومن الملاحظ أن مفهوم التحالف الدولي بعيدا عن خبرة دول الشمال العالمي يعد أحد ملامح ظهور الجنوب في عالم يتجه اكثر صوب تعدد الأقطاب.
3-تصعيد التوترات: قد تؤدي الاتفاقيات إلى تفاقم التوترات القائمة بين الدول المتجاورة، لا سيما إذا اعتبرت أنها تهدد السيادة أو السلامة الإقليمية. وقد يتصاعد هذا إلى نزاعات دبلوماسية أو حتى صراعات عسكرية إذا لم تتم إدارتها بعناية. ولا يخفى أن التناقض الحاد في المصالح الوطنية بين الأطراف الفاعلة قد يفضي إلى تدعيم نمط الحرب بالوكالة في المنطقة.
4-فرص التنمية الاقتصادية: على الجانب الآخر، يمكن للاتفاقيات أن تمهد الطريق لزيادة التنمية الاقتصادية والتعاون في المنطقة. فمشاركة تركيا في الأمن البحري للصومال، على سبيل المثال، يمكن أن تخلق بيئة أكثر استقرارا للأنشطة الاقتصادية مثل التجارة والاستثمار من خلال محاربة القرصنة والقضاء على مهددات الأمن البحري.
5-الاستقرار الإقليمي: في نهاية المطاف، سيكون لنجاح أو فشل هذه الاتفاقيات آثار كبيرة على الاستقرار الإقليمي. وإذا تمت إدارتها بفعالية، فمن الممكن أن تساهم في تحقيق السلام والأمن في القرن الإفريقي من خلال معالجة التحديات الأمنية القائمة منذ فترة طويلة وتعزيز التنمية الاقتصادية. ومع ذلك، إذا أسيئت إدارتها أو استغلالها لتحقيق مصالح ضيقة، فإنها يمكن أن تؤدي إلى تفاقم عدم الاستقرار والصراع.
وعلى أية حال، لا يزال المسار المستقبلي للاتفاقيات بين إثيوبيا وصوماليلاند وتركيا والصومال غير مؤكد، ولكن من المرجح أن تشكل الديناميكيات الإقليمية في القرن الإفريقي لسنوات قادمة. وسيكون من الضروري لجميع أصحاب المصلحة أن ينخرطوا في حوار وتعاون بناءين لضمان مساهمة هذه الشراكات بشكل إيجابي في تحقيق السلام والأمن والازدهار في المنطقة.
وختاما، يمكن القول أن الشراكة البحرية بين الصومال وتركيا تمثل علامة بارزة في الجغرافيا السياسية للقرن الإفريقي. ومن خلال تعزيز قدرات الأمن البحري للصومال، تهدف تركيا إلى تعزيز وجودها الاستراتيجي في المنطقة وتعزيز أهدافها الجيوسياسية الأوسع. ومن الواضح أن الوجود التركي لا تخطئه العين في جميع أنحاء القرن الإفريقي بطريقة متعددة الأبعاد. ولعل تركيا هي الدولة الوحيدة التي أنشأت مدارس في جميع أنحاء المنطقة، وتحديدًا في جيبوتي وهرجيسا ومقديشو وهرار وميكيلي وأديس أبابا. ومع ذلك، فإن الشراكة تحمل أيضاً مخاطر وتحديات، بما في ذلك التوترات المحتملة مع الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى والحاجة إلى جهود مستدامة لبناء القدرات. وللمضي قدمًا، من الضروري لكل من الصومال وتركيا التعامل مع هذه التعقيدات بحكمة والتأكد من أن الشراكة تساهم في الاستقرار الإقليمي والتنمية الاقتصادية. ومن خلال القيام بذلك، يمكن للبلدين تسخير الإمكانات الكاملة لتعاونهما وتمهيد الطريق لمستقبل أكثر أمانًا وازدهارًا في القرن الإفريقي.