حمدي جوارا (*)
في الثالث والعشرين من مارس استيقظ الماليُّون على مجزرة راح ضحيتها 156 شخصًا من قبيلة الفلان في قرية أوغوساغو قرب مدينة موبتي وسط البلاد، وقد اتُّهِمَتْ قبيلة الدغون بتنفيذ الهجوم، ويُعَدُّ هذا الحادث هو الأول من نوعه منذ بدايات الصراع السياسي والإثني في شمال البلاد عام ٢٠١٢م، ومن المعلوم أن مجزرة أغلهوك عام 2012م، كانت قريبة من هذا الحادث من حيث عدد الذين سقطوا من الجنود بعد مباغتتهم في معسكرهم بشمال البلاد مِن قِبَل مجموعات انفصاليَّة كانت تهدف إلى تقسيم البلاد؛ حيث وصل عدد الضحايا إلى ١٥٠ جنديًّا، وهو ما أدَّى إلى سخط طائفة من الجنود فقاموا بانقلاب عسكري في ٢ مارس عام ٢٠١٢م بعد اتهامات مؤسَّسَة الرئاسة في حينها بالتقصير في معالجة الأزمة، لكن على الرغم من ذلك فإن الحادث الأخير يختلف عن مجزرة أغلهوك حيث ضحاياه من المدنيين، وإن كان لا يمكن النظر إليه بعيدًا عما حدث من ذي قبل في الشمال.
ما هي جذور المشكلة؟ وكيف وصلت إلى هذه المرحلة؟
لفهم هذا الحادث والمشهد الحالي لا بد من تناوله من خلال ثلاثة أبعاد:
١- البعد الاجتماعي والجغرافي:
يُقصد به الطبيعة الإثنية والقبائلية للمنطقة؛ حيث ظلت هذه القبائل تتعايش مع بعضها البعض دون أي تهديد ولا مشاكل؛ فمنهم: من يمتهنون الزراعة والعمل في الحقول وحراثة الأرض، فتقتات منها وتبيع منها في الأسواق، وتحتفظ به في المخازن، وهم غالبية هذه المنطقة، ولا تقتصر هذه المهنة على قبائل الدوغون؛ ففي المنطقة قبائل البامبارا والسوننكي والصونغاي وغيرها يقومون بنفس الشيء تقريبًا.
ثم هناك بالمقابل قبيلة الفلان، وهم معروفون بمهنة الرعي؛ حيث يقومون برعي الأغنام والأبقار، وربما الإبل فهم أصحاب اللحم والحليب، وهم في الأصل من القبائل الرُّحَّل نتيجة البحث عن المراعي للماشية، هذا هو السبب في وجودهم في كثير من بلدان المنطقة في مالي وموريتانيا والسنغال والنيجر ونيجريا والكاميرون.
هذا التنوع في الأنشطة جعل هذه القبائل تحتاج لبعضها البعض في معاشهم وحياتهم، فأين إذًا تكمن المشكلة؟
في البداية نشير إلى أن هذه المشكلة متكررة في أكثر من بلد، وليست في مالي وحسب، في بوركينا فاسو تكررت عمليات قتل الفلان، وفي نيجيريا، وفي تشاد منذ شهرين تم قتل فلان هناك، وغيرها من الدول.
وذلك نتيجة أن المزارعين حين يزرعون أراضيهم وتخضرّ حقولهم، وهي في معظمها مساحات شاسعة غير محاطة بأسلاك ولا جُدُر؛ فإن الرعاة حين يمرون بمواشيهم بتلك الأماكن فهي تغزوها وتبتلع الحقل كله، وحين يسمع صاحب الحقل ذلك فإنه يدعو أقرب الناس إليه أو القبيلة كلها لمطاردة هؤلاء الرعاة ثم إذا وجدوهم يُجْهِزُونَ عليهم بسبب ذلك. مما يدفع الفلان للرد، ويتنادون فيما بينهم للثأر، وهكذا دواليك يستمر سفك الدماء.
لذلك فإن الفلان يُستهدَفُون في غرب إفريقيا، وهذا هو السبب الرئيس في تلك الظاهرة التي لا يكاد يفهمها إلا مَن يسكن في تلك المنطقة.
وقبائل الدغون تشكو من هذه المشكلة منذ ٤ سنوات، وهي تستغيث بالسلطات لكن دون جدوى، وبسبب عجز الدولة سعت لمنع وقوع ذلك من خلال الاستعانة بالصيادين العاديين التقليديين الذين يستهدفون الحيوانات فقط، ثم قاموا بتنظيم أنفسهم، وحملوا بعد ذلك السلاح لكي يدافعوا عن أنفسهم وعن حقولهم، وهذا يقودونا الى البُعد الثاني.
٢- البعد الدولي والإقليمي:
لسنا بصدد تحميل الأبعاد الإقليمية والدولية ما حدث في مالي أو يحدث هناك، لكننا نؤكد أن الإرهاب خطر عابر للقارات والدول والأوطان؛ وقد بدأ توافد الجماعات المسلحة على مالي مع أحداث العشرية السوداء في الجزائر، ومع تصاعد القمع والقبضة الأمنية اتجه الكثير من المسلحين إلى جنوب البلاد بمحاذاة الشريط الحدودي مع مالي، وبعضهم استقر به الحال في صحراء مالي، لذا نجد أن معظم الجماعات التي تنتمي للقاعدة أمراؤها جزائريون كزعيم حركة المرابطون المدعو أبو مصعب عبد الودود ممن عجزوا عن مواجهة النظام الجزائري فتسللوا إلى مالي منذ ما يقرب من ٢٠ سنة، واتخذوا من أراضي مالي قواعد لهم، وحتى الجماعات المسلحة التي تنتمي لنفس الفكر في موريتانيا، وطردت من قبل الجيش تسللت إلى مالي، وهنا التقى كل هؤلاء مع مَن استقبلهم من الماليين الأصليين، وأنشأوا تحالفات على مرّ الأيام، مما جعل القاعدة تدفع بأتباعها من الشرق والغرب إلى هذه المنطقة.
يُضَاف إلى ذلك الجماعات الإرهابية التي تسعى لتقسيم مالي، ممن وفدوا من ليبيا بعد القذافي، والذين عاشوا حياتهم في ليبيا، وحين ساءت الأحوال عادوا إلى وطنهم الأم “مالي”، وحين رأوا ضعف الدولة قاموا بالمطالبة بما يسمى استقلال شمال مالي او استقلال “أزواد”.
تحالفت هذه المجموعات، وقامت بطرد القوات الحكومة من الأقاليم الشمالية الكبرى؛ ليستقر الأمر لتنظيم القاعدة في النهاية، ويسيطر على مدينتي تومبكتو وغاوو. ومنذ ذلك الوقت سعت هذه الجماعات لإدخال الفلان في هذه المعركة مستغلين العامل الديني، وبدعوى أنهم أقرب إليهم من الآخرين؛ رغم أن باقي القبائل كلها مسلمة، وقد أقامت قبيلة الصونغاي مملكة إسلامية عريقة ومشهودة في التاريخ، لكن هذه الجهود فشلت في حينها، ولم ينجحوا في جرّ الفلان إلى صفوفهم أو معاركهم.
٣- البعد الداخلي العنصري:
بعد أن تضييق الخناق على القاعدة وأخواتها انسحبت هذه الجماعات إلى وسط مالي، وكان زعيم جبهة ماسينا آمادو كوفا قد أسَّس جبهة في هذه الأثناء، وهو رجل فلاني لَسِن يجيد العربية بطلاقة وابن إمام لقرية كوفا وسط مالي، وقد بدأ حياته الدعوية مع جماعة التبليغ؛ حيث تواجد فيها مع إياد أغالي زعيم أنصار الدين الذي يقود تحالفهم الجديد الذي يضم كافة الجماعات المسلحة في الشمال والوسط والمعروف بـ “تنظيم أنصار الإسلام والمسلمين”، والذي أُعْلِنَ عنه في ٢٠١٧م.
اتخذ زعيم الجبهة آمادو كوفا خطابين في استقطاب الشباب إلى جبهته؛ خطاب إسلامي هدفه إعادة أمجاد الفلان، وماضيهم الإسلامي في المنطقة، ودورهم في الجهاد ونشر الإسلام. وخطاب قومي موجّه للفلان الآخرين الذين ليس لديهم قناعة بفكر الجماعات المسلحة، عبر نشر بيانات أن الحكومة لا تعتني بالفلان وتُقصيهم ولا تقدم لهم خدمات، وأن نصرتهم له سيوفّر لهم ما يريدون.
واستهدف بهذا الخطاب كل الفلانيين في الخارج، واستدعاهم لتحقيق الحلم الفلاني، وهو الحصول على منطقة آمنة، وربما منطقة أرضية يديرون فيها شؤونهم الخاصة وسط مالي، ثم قام بالدعاية وتوجيه رسائل للعالم العربي أن الأزمة دينية، وأن الفلان مسلمون يريدون أن يعيشوا حياتهم الدينية، بينما الآخرون إما متهمين بالوثنية أو العمالة لفرنسا.
وكلا الطرحين وجدا رواجًا في العالم العربي وبعض البلدان الإسلامية، وهو الأسلوب الذي اتخذه انفصاليو مالي في الشمال، وروّجوا له كثيرًا في البلدان العربية حينها، بمعنى الشمال مسلم والجنوب كفار.
ما العلاقة التي تربط هذه الأحداث مع مجزرة أوغوساغو؟
هذه الرؤية البانورامية لما حدث ويحدث تكشف شيئًا من خيوط الأزمة؛ فقد ساءت الأحوال منذ سنوات في مالي، ولم ينفع وجود القوات الأممية وقوات الساحل في حلّ الأزمة الأمنية؛ للأسف، رغم توفر كل الوسائل المساعدة للتغلُّب على كافة المشاكل.
وكما ذكرنا من قبل؛ فإن قبائل الدوغون مزارعون، والفلان رعاة، وبسبب النزاعات بينهما قامت قبائل الدغون بإنشاء ميليشيا مسلحة سموا بـ”دانا أما سونغو”، وهي مجموعة من الصيادين يقومون بدوريات على القرى والمدن لحمايتها بسبب عجز الدولة عن مواجهة الإرهابيين، وقد اعترفت الحكومة بهم في بدايتها، وخاصة بعد الاعتداءات المتعددة.
قامت هذه المليشيا بتصدير خطاب قومي مفاده حماية الناس وحماية القبيلة، وأن الفلان أعداؤنا؛ لأنهم يأوون الإرهابيين، هذا الاتهام نتاج استقرار بعض الإرهابيين الذين قاموا بتنفيذ هجمات أو سرقة المواشي في مناطق الفلان أو قيام أفراد من الفلان بإيوائهم، ومن ثَمَّ تصاعدت حدة العداء والصراع بين قبيلتي الدغون والفلان، وهما القبيلتان اللتان عُرِفَتا في الماضي بحسن التفاهم والجوار.
هل تتهم الفلان بالإرهاب؟
لا يمكن اتهام الفلان جميعًا بالإرهاب، ولا يمكن أن يقبل به منطق ولا عقل، الفلان جزء من نسيج هذه المنطقة ليس في مالي فقط، لكن دول المنطقة جميعًا، ينبغي أن يكون ذلك واضحًا، وليس كل الفلان يمارسون الرعي؛ فكثير منهم أصبحوا تجارًا وموظفين، وقد وصل بعضهم إلى أعلى هرم في السلطة كالرئيس السنغالي الحالي ورئيس غامبيا وغيرهم، ثم إن التعليم الذي عرف به الفلان في المنطقة هو تعليم تقليدي قديم، وما يزال الكثير منهم متمسكين بهذه الطريقة على مذهب الإمام مالك، وهو ما يتناقض مع فكر الجماعات المسلحة التي تحارب هذه الطريقة التقليدية؛ باعتبارها من البدع وفيها خرافات. لذا نؤكد أن التعميم دائمًا يُوقِع في الأخطاء.
لماذا تم الاعتداء على أوغوساغو؟
لم يتم تحقيق بعدُ في الحادث ، رغم وصول العديد من المراقبين الأمميين للتحقيق، لكن ما يتردد من بعض المصادر أن أحد قادة الفلانيين الذين يدعون للتسلح وقتل الدوغون كان موجودًا في القرية في منطقة الفلان – القرية لها حيان، حي خاص بالفلان، وحي به غالبية من الدوغون- ويبدو أن معلومات تسربت للميليشيات أن ثمة إرهابيين في منطقة الفلان وعلى رأسهم سيكو باري، وقد كان الصيادون يسعون للقبض عليه، وهناك كانت الفرصة مواتية للانقضاض فجاؤوا مباغتين الفلان في الصباح، وقتلوا من قتلوا، وكان من بينهم هذا الرجل الذي ذكرنا.
ويبدو أنه كانت هناك مقاومة من جهة الفلان، لكن لم ينجحوا في صدّ الهجمات.
يؤكد هذا الاستنتاج وجود بعض الأشخاص ممن شاركوا في المجزرة في مستشفى مدينة سان وموبتي لتلّقي العلاج، مما يشير إلى وقوع اشتباكات أثناء الهجوم، وقد تم توقيف هؤلاء المصابين للتحقيق معهم.
ماذا عن دور الحكومة المالية؟
الحكومة أدانت الجريمة والعالم كله أدانها، ولا ننسى أنه قبل مجزرة أوغوساغو والتي راح ضحيتها ١٦٠ شخصًا كان قد سبقتها مجزرة أخرى ضد الجيش؛ حيث تمت مباغتتهم في قاعدتهم من الجماعات المسلحة، وقد سقط ما يقرب من ٥٠ جنديًّا.
بمعنى تم مقتل أكثر من ٢٠٠ شخص في أقل من ١٠ أيام في تلك المنطقة. ولا شك أن الحكومة تتحمل المسئولية الكبرى، فلا تكفي الإدانات والذهاب لمواساة القرية وأهاليها بقدر ما يجب أن تتخذ كافة التدابير الواجبة لعدم تكرار مثل هذه الأحداث التي يقع الأبرياء فيها ضحايا لحرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
وقد تمت إقالة رئيس الأركان ومسؤول الأمن القومي، واستبدالهما بأشخاص آخرين، وتقديم خطاب لاذع لهم بحيث لا تتكرر هذه الأحداث بين أبناء الوطن الواحد والمنطقة الواحدة، والتي تحالفت وتعايشت منذ قرون.
هل ميليشيا الدغون هي التي قامت بالمجزرة؟
لا يمكن تأكيد ذلك، لكن من خلال كل المعطيات هناك مؤشرات أنها متورطة، وإن كانت ميليشيا “دانا أما سونغو” التابعة للدوغون نفت عبر متحدثها الرسمي مشاركتها في الحادث، ورفضت أيضًا موقف الحكومة من إلغائها، وإيقاف أنشطتها، واعتبرت أن ذلك اتهام لها بالجريمة دون أيّ تحقيق مسبق، وذكرت أنها لن تترك السلاح ما لم تقم الحكومة بنزع سلاح الجميع دون تمييز؛ بحيث يتم إرسال الجنود مع كافة المعدات الممكنة كي تستطيع الدفاع عن المدن والقرى وكافة الموافق التي يملكونها والتي يقوم بحمايتها “صيادو الدونصو”؛ كما يسمون.
أخيرًا:
أعتقد أن هذا الحدث جَلَل، والموقف ليس في صالح الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا، وكل تأخير في العمل لحماية المدنيين سيعرِّض البلد للخطر، وفي غضون ذلك كله وأثنائه هناك مشاكل داخلية أخرى تحتاج إلى حل لها؛ فأعتقد أن عقارب الساعة ليست في صالح المسؤولين.
ونترحم في النهاية على الأبرياء، آملين أن يتغمدهم الله في رحمته، ويسكنهم فسيح جنانه، هذا والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
(*) باحث من مالي– مقيم في فرنسا