مقدمة:
نشرت مجلة “روزا لكسمبورج/ Rosa Luxemburg” الألمانية مقالًا للرأي بقلم “باتريك بوند”، أستاذ بجامعة جوهانسبرج بجنوب إفريقيا، مستعرضًا قراءة مطولة حول مستقبل مجموعة “بريكس”، بعد أن انضمّت إليها خمس دول جديدة كمرحلة أولى في إطار توسيع نطاق الدول المُشارِكَة في المجموعة، ومناقشات حول إعادة التفكير في مفهوم الأممية ومناهضة الإمبريالية الحديثة.
بقلم: باتريك بوند
ترجمة وتقديم: شيرين ماهر
خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وصف المُنظِّر البرازيلي “روي ماورو ماريني” العلاقة بين النخب البرازيلية والولايات المتحدة بأنها “تعاون عدائي”، وتقسيم عمل “شبه إمبريالي”.
اليوم، يمكن فَهْم دور كتلة “بريكس بلس”(1) على أنه “تعاون عدائي” مع التحالف الإمبريالي “للشراكات متعددة الأطراف” (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة واليابان) وشركاتها، مع بقاء الأخيرة في مركز السيطرة.
وبالتالي فإنَّ ما نشهده حاليًّا لا يُمثّل ظهور تعددية قطبية حقيقية، بل هو، بالأحرى، أحد أشكال الإمبريالية الفرعية التي تُعزّزها التعددية النيوليبرالية. وتتميز هذه الكوكبة بالتناقضات بين الإمبرياليين الفرعيين “المتمردين” والإمبرياليين الفرعيين “الموالين”.
وعلى الرغم من التناقضات المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين/روسيا، فإن دول مجموعة “بريكس” لا تمثل كتلة قادرة على تحدّي هيمنة الغرب على المؤسسات متعددة الأطراف، بل تمثل ساحة متناقضة ومفككة تعمل فيها القوى الإمبريالية الفرعية على تعزيز أشكال رأسمالية من الاستغلال والاستيلاء. لذلك، لايمكن العثور على الأمل الحقيقي إلا من خلال مناهضة الإمبريالية من جذورها.
ومنذ تأسيس مجموعة العشرين، في عام 2008م، عملت مجموعة “بريكس”، بشكل ثابت، كداعمة للسياسات المالية والتعددية في الغرب. أحد الأمثلة على ذلك: أعطت إعادة رسملة صندوق النقد الدولي في عام 2015م دول “بريكس” حصة تصويت أكبر، أقل قليلًا من نسبة 15% اللازمة لاستخدام حق الفيتو ضد قرارات المؤسسة والإقراض (وهي حصة كانت تقليديًّا تمتلكها الولايات المتحدة فقط). ولكن عندما ارتفعت حصة تصويت الصين في صندوق النقد الدولي بنسبة 37%، والبرازيل بنسبة 23%، والهند بنسبة 11%، وروسيا بنسبة 8%، لم يكن ذلك على حساب الغرب. ولكن كانت الدول التي خسرت أكبر الحصص هي نيجيريا وفنزويلا (41 في المائة لكل منهما)، وجنوب إفريقيا (21 في المائة).
كذلك لم يكن داخل مؤسسات “بريتون وودز” خروج أيديولوجي عن الرأسمالية المالية النيوليبرالية من جانب وفود الـ “بريكس”، فيما أوضح “شي” نفسه نهج بلاده في المنتدى الاقتصادي العالمي، قائلًا: “إن أي محاولة لوقف تدفق رأس المال والتكنولوجيا والسلع والصناعات والأشخاص بين الاقتصادات وتحويل مياه المحيط مرة أخرى إلى بحيرات وجداول معزولة هي ببساطة مهمة مستحيلة.. ويجب أن نظل ملتزمين بتوسيع آفاق حرية الاستثمار والتجارة العالمية، وتعزيز تحرير قيودهما على التجارة والاستثمار”.
وفي السنوات الأخيرة، تزايدت قوى الطرد المركزي للاقتصاد العالمي، بشكل كبير، وضعفت وحدة كتلة “بريكس” بشكل متزايد. وحتى السمة المميزة لاقتصادات مجموعة “بريكس”، المتمثلة في ارتفاع حصة الناتج المحلي الإجمالي للتجارة بين دول المجموعة، فضلًا عن التجارة الدولية، انعكست بوتيرة سريعة، بعد الذروة التي بلغتها في عام 2008م، ثم انخفضت بعد ذلك بشكل مطرد حتى انهيار عام 2020م تزامنًا مع تفشي جائحة كورونا. بالإضافة إلى ذلك، ساهمت الانتخابات في كل من الهند والبرازيل -والتي فاز بها القومي الهندوسي اليميني “ناريندرا مودي” في عام 2014م، واليميني “جايير بولسونارو” في عام 2018م– في خلق المزيد من الانقسامات داخل الكتلة.
وأصبح منعطف الانقسام السياسي واضحًا في عام 2022م، عندما اقترح نائب الرئيس البرازيلي القائد العسكري “هاميلتون موراو” غزوًا مضادًّا ردًّا على الغزو الروسي لأوكرانيا، قائلاً: “إذا تخلى الغرب ببساطة عن أوكرانيا، فإن مولدوفا هي التالية، ومِن ثَم دول البلطيق، تمامًا كما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي في عهد ألمانيا/ هتلر”. وقد وبَّخه “بولسونارو” على ذلك؛ لأنه سبق أن أكَّد للرئيس بوتين، قبل أسبوع واحد فقط من هذه التصريحات، تضامن بلاده مع روسيا خلال زيارته لموسكو.
لقد مُنيَت قمة مجموعة “بريكس” الأخيرة في جوهانسبرج بخيبة أمل كبيرة؛ حيث إن التحدي الذي طال انتظاره للتخلص من هيمنة الدولار الأمريكي لم يُسْفِر عن شيء؛ بسبب رفض القوى المحافظة داخل الكتلة. وعلى الرغم من ذلك، يجب أن يُنسَب الفضل إلى قادة دول الـ”بريكس” في إطلاق مبادرة توسيع التحالف، بشكل غير متوقع؛ من خلال دعوة الأرجنتين ومصر وإثيوبيا وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة للانضمام. ومن المتوقع أن تتم دعوة المزيد من الأعضاء الجدد في أكتوبر 2024م، عندما يستضيف بوتين القمة المقبلة.
لقد كتب “برانكو ميلانوفيتش”، أحد أبرز خبراء الاقتصاد الديمقراطيين الاجتماعيين على مستوى العالم، واحدًا من أكثر التعليقات التي تبعث على الأمل بشأن قمة “بريكس” في جوهانسبرج على مدونته، قائلاً: “لا ينبغي لنا أن نتجاهل حقيقة رغبة المزيد من البلدان في الانضمام إلى مجموعة “بريكس” أو الاستخفاف بها. إن رفض المجموعة الانخراط في تجارة عالمية جديدة أو حروب بالوكالة أو حروب فعلية يمكن أن يجعل مثل هذه الحروب أقل احتمالية. ومن الممكن أن تساعد القوة الاقتصادية للمجموعة في الحد من بعض الاختلالات الاقتصادية الأكثر وضوحًا بين البلدان الغنية والفقيرة ومتوسطة الدخل في جميع أنحاء العالم”.
وبنظرة أكثر عمقًا إلى الحقائق، كان من الممكن أن يكون هذا البيان عكس ذلك، على النحو التالي: نظرًا لحقيقة أن الكتلة لا تملك شيئًا جوهريًّا على الإطلاق لتُظهره، على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية (خاصة فيما يتعلق بالجغرافيا السياسية).
وخلافًا لمطالب بوتين، فشلت مجموعة “بريكس” في إنشاء “آليات بديلة يمكن الاعتماد عليها لتسوية المدفوعات الدولية”، أو تقديم “عملة احتياطية دولية تعتمد على عملات بريكس”. وجاء الاختبار الأول لتحالف “بريكس بلس” بعد حوالي ستة أسابيع تزامنًا مع هجوم حماس على المستوطنات والجنود. ورد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعقاب جماعي غير مسبوق للفلسطينيين؛ حيث قُتل ما يقدر بنحو 30 ألف شخص -معظمهم من النساء والأطفال–، علاوة على تشريد قرابة مليوني شخص من مدينة غزة في الأسابيع الستة التالية.
الأدوية والمال والحرب والمناخ.. تناقضات الـ”بريكس”:
تُعَدّ جائحة كورونا مثالًا آخر على التناقضات التي تشوب تشكيل مجموعة “بريكس”. ففي اجتماع منظمة التجارة العالمية الذي انعقد في 17 يونيو 2022م؛ رفضت القوى الإمبريالية، بشكل قاطع، الرؤية التي طرحها كل من رئيسي الهند وجنوب إفريقيا لرفع حماية براءات الاختراع للقاحات والأدوية المضادة لفيروس كورونا، إلا أن الدول الإمبريالية التي خدم قادتها شركات الأدوية الكبرى: البريطانيون، والألمان، والسويسريون، والنرويجيون؛ وبدعم من وراء الكواليس من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والفرنسيين والكنديين واليابانيين، افترضوا جديًا أن القوتين الإمبراطوريتين، الهند وجنوب إفريقيا، سوف تعزّزان وجودهما مرة أخرى.
وقد حال هذا دون التقدم الذي تم إحرازه في عام 2001م تزامنًا مع تعليق حماية براءات اختراع أدوية الإيدز (مما أدى إلى توافر العقاقير الطبية على نطاق واسع في غضون بضع سنوات، وزيادة متوسط العمر المتوقع في جنوب إفريقيا من 54 إلى 66 عامًا خلال الفترة بين عامي 2005 و2019م). وعلى الرغم من ذلك، لم تكن المشكلة تنحصر فقط في أصحاب براءات الاختراع الغربيين؛ ففي النهاية، كان لدى دولتين من مجموعة “بريكس” -الصين وروسيا- براءات اختراع للقاحات فيروس كورونا، وهو ما لم يدعمه “رامافوزا” و”مودي” بأي حال من الأحوال. ولو تم بالفعل إقرار التنازل عن حماية براءات الاختراع، لكانوا قد تكبّدوا خسائر فادحة؛ على الرغم من أن كلا البلدين يجب أن يُنسَب إليهما الفضل في تزويد الدول الحليفة الأكثر فقرًا بجرعات من لقاحات كورونا ذات التكلفة المخفضة أو المجانية.
كذلك أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى ظهور تناقضات جديدة. وفي الوقت نفسه، ربما يكون بوتين هو الطرف الأكثر عُرضة للخطر في الاقتصاد متعدد الأطراف. ففي يونيو 2022م، أبدى شكواه أمام منتدى بريكس الاقتصادي بشأن العقوبات الصارمة المتزايدة. وينطبق الشيء نفسه على تجميد أكثر من 300 مليار دولار أمريكي من أصول الدولة الروسية التي كانت في البنوك الغربية، بالإضافة إلى ما لا يقل عن 300 مليار دولار أمريكي أخرى من الأصول المُودعة في الخارج مِن قِبَل العشرات من الأوليغارشيين الموالين لـ”بوتين”(2). ونتيجة لذلك، هدّد بوتين بإعادة ضبط تدفقاته التجارية وعلاقاته الاقتصادية الخارجية وتركيزها على “شركاء دوليين موثوقين”، وكان يقصد، في المقام الأول، دول الـ”بريكس”. لكن الدعوات المطالِبة بإلغاء الدولرة وإصدار عملة احتياطية دولية تعتمد على عملات مجموعة “بريكس” لم تُسْفر عن نتائج ملموسة.
ولم يتم اتباع أيّ من هذه الأساليب بجدية في جوهانسبرج. وقد واجهت مبادرتان ماليتان دوليتان نفس المصير على مدار السنوات الثماني الماضية -على وجه التحديد آلية ترتيبات الاحتياطي (RCA) التي لم تدخل طور التنفيذ قط، والتي كان المقصود منها حماية الدول الأعضاء باعتبارها مؤسسة ائتمانية بديلة لصندوق النقد الدولي بمبلغ 100 مليار دولار من البلدان الخمسة بالعملات الصعبة، فضلًا عن وكالة تصنيف بريكس. وتنظر مجموعة “بريكس” إلى اليسار فيما يتصل بالقضايا المتعلقة بالتمويل العالمي، ثم تتحول إلى اليمين.
وخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان صندوق النقد الدولي يحظى بدعم مالي كبير. ويمكن ملاحظة النمط ذاته، بصورة أكثر حدة، في القرار الذي اتخذه بنك التنمية الجديد لمجموعة “بريكس”، البديل المفترض للبنك الدولي، في مارس 2022م بتجميد المحفظة الاستثمارية الروسية؛ لأنها لولا ذلك لخسرت تصنيفها الائتماني الغربي عند (AA+). ورغم ذلك، تم تخفيض توقعات الأرباح سريعًا مِن قِبل وكالة التصنيف الائتماني فيتش؛ حيث تمتلك روسيا 19% من بنك الـ”بريكس”، وحرمتها مما يقرب من 7% من أقساط قروضها المستحقة.
ولكن من المفارقات أن بوتين تمكّن من الالتزام بالقواعد المالية الدولية لفترة طويلة (حتى التخلُّف عن سداد أول 100 مليار دولار، والذي ألقت موسكو باللوم فيه على استبعادها من نظام الدفع الغربي). وفي عام 2022م، قام بتغيير شروط الدفع لصادرات النفط والغاز الروسية، والتي تم تحويلها الآن إلى الروبل، من أجل تعزيز العملة الروسية. وفيما يتعلق الأمر بسداد الديون الخارجية الروسية، كان بوتين عضوًا إمبرياليًّا مخلصًا، على الرغم من دوره باعتباره عضوًا إمبرياليًّا متمردًا في الغزو الوحشي لأوكرانيا ذات التوجهات الغربية.
وفي الوقت الذي قامت فيه واشنطن ولندن وبرلين وغيرها من الأنظمة الغربية بضخ مليارات الدولارات في صورة مساعدات أسلحة لأوكرانيا في ضوء الحرب في أوكرانيا حتى تتمكّن من منع المزيد من عمليات الضم الروسية أو شنّ هجوم لاستعادة الأراضي المفقودة، هددت الحكومة الروسية باستخدام أسلحة نووية. وهذا مجرد واحد من سيناريوهين محتملين، فربما يتمكن الغرب، جنبًا إلى جنب مع مجموعة “بريكس بلس”، من دفع البشرية إلى حافة الانقراض؛ أما السيناريو الآخر فيتمثل في كارثة المناخ.
وبشكل ملموس، يعني تعاون مجموعة “بريكس”، على سبيل المثال، أن سفينة التنقيب الأكثر أهمية لبوتين اكتشفت احتياطيات من النفط والغاز تُقدر بنحو 500 مليار برميل قبالة سواحل القارة القطبية الجنوبية من قاعدتها في كيب تاون. لذا، إذا استمرت روسيا فعليًّا في استكشاف هذه الموارد الأحفورية، واستغلالها -بغض النظر عن المحادثات حول معاهدة دولية جديدة لأنتاركتيكا، والتي من المرجح أن يوليها بوتين قدرًا ضئيلًا من الأهمية والتي تقودها ألمانيا-؛ فإن النتيجة ستكون مثل هذه المعاهدة؛ إذ يمكن أن تتسبب “قنبلة ثاني أكسيد الكربون” العملاقة في انقراض جزء كبير من الحياة على الأرض خلال العقود المقبلة. وليس هناك طريقة أفضل لتعزيز الأجندة الروسية من تشكيل تحالف جديد للطاقة الأحفورية مع الدول الأربع الأخرى في مجموعة “بريكس”، وهي محاولة يائسة أخرى من جانب بوتين للعثور على شركاء اقتصاديين جدد في خضم النظام العالمي الذي يفرض على بلاده عقوبات صارمة.
إن الأنماط المتناقضة للتعاون العدائي بين دول الـ “بريكس” شبه الإمبراطورية داخل الرأسمالية العالمية لا تُبرر محاولات القوى الإمبريالية لتثبيت قدرات الناتو العسكرية مباشرة على حدود روسيا -وهو الاستفزاز الذي حذّر منه حتى الإستراتيجيون في الناتو-. وفي ألمانيا، ربما أُسيء الحكم على بوتين لفترة طويلة. وكانت حكومة ميركل ملتزمة بتعزيز التجارة والاستثمار، ليس فقط على أمل الحصول على إمدادات الغاز الرخيصة، بل وأيضًا على إقامة تحالف أوثق بين روسيا وأوروبا ككل. لقد كان ذلك تفكيرًا ساذجًا، ليس فقط في ضوء طموحات بوتين التوسعية الجامحة -القائمة على الأسلحة النووية-، ولكن أيضًا في ضوء غضبه من الوعد الذي لم ينفّذه هيلموت كول والرئيسان الأمريكيان؛ جورج بوش الأب وبيل كلينتون في التسعينيات. وكان جورباتشوف وبوريس يلتسين قد أعلنا سابقًا: “أن الناتو لن يتوسع شرقًا أكثر من ألمانيا”.
نظرية الإمبريالية الفرعية و”الاستغلال الأمثل“:
المشكلة العامة التي تُواجه بوتين هي أن طبقته الرأسمالية المحلية قد وصلت إلى حدود التراكم منذ أوائل عشرينيات القرن الحالي. وهذه سمة مميزة للاقتصاد شبه المحيطي الذي يعتمد على تصدير المواد الخام ويكافح أسعار عالمية شديدة التقلب. تشرح نظرية ماركس العامة للتنمية غير المتكافئة -والتي قام ديفيد هارفي بتحديثها- التوترات الجيوسياسية أثناء عملية “تخفيض قيمة العملة” التي يجب فيها الدفاع عن رأس المال الزائد في التدفقات المالية العالمية أو خسارته بسبب الافتقار إلى القدرة التنافسية. يقول هارفي في كتابه “حدود رأس المال”: “في مواجهة التهديد المستمر بخفض قيمة العملة، يسعى كل تحالف إقليمي إلى استخدام الآخرين كوسيلة لتخفيف وطأة مشاكله. تأخذ المعركة حول تخفيض قيمة العملة منحى إقليميًّا. لكن هذا يجعل الاختلافات الإقليمية غير مستقرة”. وتابع: “المشكلة الرئيسية التي تواجه الحكومات هي أن التحالفات الإقليمية تفشل بسبب المنافسة الدولية والحاجة إلى تحقيق المساواة في معدلات أرباحها”.
هكذا تُصبح الدول شبه المركزية هي الطبقة الممثلة لهيكل القوة العالمية التي تستشعر هذ المشاكل أولًا. وقد كان صعود روسيا خلال طفرة المواد الخام من عام 2012م إلى عام 2014م -أي قبل انهيار أسعار النفط والمعادن في عام 2015م- بمثابة تغيُّر ناتج عن هروب رأس مال النخبة الأوليغاريشية في التسعينيات، وتحديدًا دور روسيا الجديد كـ “ملاذ” آمن لفائض رأس المال. في ذلك الوقت، خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أصبحت الاقتصادات شبه الطرفية سابقًا، بحسب تنبؤات هارفي في عام 2003م، “منافسين جدد على المسرح العالمي”، ولكن في صورة إمبريالية فرعية؛ حيث “يقوم كل مركز نامي لتراكُم رأس المال بإنشاء مناطق نفوذ إقليمية بصورة منهجية؛ بحيث يخلق ثوابت مكانية وزمنية لفائض رأس المال الخاص به”.
والواقع أنه لا تُقدم مجموعة “بريكس” ولا مجموعة “السبع الصناعية الكبرى” بديلًا لنظام تتزايد فيه حدة التوترات بشأن خفض قيمة رأس المال. ومن أجل “تفسير” الأسباب التي تجعل مسار التوسع الإقليمي الروسي يشكل تهديدَا كبيرًا، عادة ما يتم استحضار مجموعة واسعة من السمات التاريخية والسياسية، بينما لن تكتمل هذه الأمور دون النظر إلى القدرة الإنتاجية الفائضة داخل روسيا وما حولها، فضلًا عن التراكم العام المفرط، وما غير ذلك من ديناميكيات التنمية غير المتكافئة، خاصةً وأن هذه الديناميكيات ليست قاصرة على وضع بوتين شبه الإمبراطوري، ولكنها متأصلة بقوة في النظام العالمي.
السخرية من الرأسمالية الخضراء: اندفاع ألمانيا للحصول على موارد أحفورية جديدة
تعتمد العديد من أنظمة “بريكس بلس”، بشكل كبير، على ثاني أكسيد الكربون. تنتج الاقتصادات الأحد عشر في مجموعة “بريكس بلس” حوالي 29% فقط من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ولكنها تنتج 58% من إجمالي الانبعاثات، لأسباب من بينها أنها تسيطر على 43% من إنتاج النفط العالمي. وفي مايو 2022م، في خضم الحرب، سافر المستشار الألماني “شولتز” إلى بريتوريا للقاء الرئيس رامافوزا –ليس فقط للدفاع عن موقف موالٍ للغرب بشأن الصراع الروسي الأوكراني، ولكن أيضًا لتأمين صادرات الفحم من جنوب إفريقيا- بعد أن توقف سابقًا في السنغال ونيجيريا. تمتلك هذه الدول الإفريقية احتياطيات هائلة من الوقود الأحفوري، وهو ما يُشعِر “شولتز” بالقلق، خاصةً أنه واجه معارضة متزايدة لإنتاج الفحم المحلي في الداخل، وأراد إنهاء واردات الغاز من خط أنابيب “نوردستريم” الروسي (قبل وقت طويل من تفجيره في سبتمبر). وزاد تعرض برلين للاضطرابات التي تشهدها موسكو، بشكل كبير، عندما بدأت العقوبات الغربية الدخول في حيز التنفيذ.
لقد تطلبت حاجة برلين الملحة والمتزايدة لإمدادات الغاز البديلة إنفاقًا رأسماليًّا ضخمًا على مشاريع البنية التحتية لتزويد الصناعة الألمانية المعتمدة على ثاني أكسيد الكربون. وقد صبّ ذلك، بشكل رئيسي، في صالح شركات النفط الغربية العاملة في غرب إفريقيا، بما في ذلك على وجه الخصوص مجموعة “توتال إنيرجي” الفرنسية، وشركة “شل أنجلو” الهولندية. لكنه، على الرغم من ذلك، سيترك القارة مع “أصول عالقة” يمكن أن تؤدي إلى فرض عقوبات مناخية بموجب اتفاقية تعديل الحدود لـ “ثاني أكسيد الكربون” في أواخر عشرينيات القرن الحالي (مثل تلك التي هدد بها الجانب الأوروبي، وخاصة جنوب إفريقيا).
يوضح هذا المثال الضغوط التي تمارسها ألمانيا على البلدان الإفريقية لتوسيع البنية التحتية للوقود الأحفوري: في عام 2021م، استحوذت مجموعة (HMS) للتعدين في برلين على غالبية أسهُم شركة الفحم (ماتلا) في بوتسوانا. وبعد ذلك، قام الرئيس التنفيذي للشركة، جاك بادنهورست، بالضغط على شركة (ترانسنيت) في جنوب إفريقيا لمد خط سكة حديد مهم لنقل الفحم إلى حدود بوتسوانا. كما قام لارس شيرنيكاو، المؤسس المشارك في شركة (HMS Mining) بالضغط بقوةٍ على جنوب إفريقيا لتشجيع البلاد على استخراج المزيد من الفحم. والواقع أن شركة HMS Mining مهتمة جدًّا بتصدير بوتسوانا الآن للفحم إلى ألمانيا (تقدر الاحتياطيات بـ200 مليار طن، وهو ما يعادل خمسة أضعاف احتياطيات جنوب إفريقيا، وهو ما يمثل “قنبلة ثاني أكسيد كربون” موقوتة).
ومن هذا المنطلق، يبقى “شولتز” حليفًا مثيرًا للقلق. فمن ناحية، أوضح “شولتز” في مايو 2022م لنظيره “رامافوزا” أن العقوبات الغربية ضد روسيا -والتي رفضتها بريتوريا باستمرار- ستحظر استيراد فحم بوتين إلى أوروبا اعتبارًا من سبتمبر. وأضاف: “سينجح هذا لأن هناك العديد من الموردين حول العالم الذين يرغبون في بيع الفحم الخاص بهم إلى تلك البلدان التي اشترته سابقًا من روسيا، وبالطبع هناك دول مثل جنوب إفريقيا، وهو ما نقوم به”.
ويمكن وصف هذه التناقضات الخطيرة بأنها شكل من أشكال الاستهانة والسخرية من “الرأسمالية الخضراء”. ومن أجل بقاء أجيال المستقبل والتضامن القاري، ينبغي على “رامافوزا” أن يغلق مناجم الفحم في جنوب إفريقيا وأن يقدم للعمال ومناطق التعدين تعويضًا حقيقيًّا لدعم “الانتقال الطاقي العادل”.
وأخيرًا، هناك مزاعم أن ألمانيا تموّل مثل هذه الإستراتيجية من خلال الانضمام إلى صندوق قروض بقيمة 8.5 مليار دولار (بشروط تفضيلية، أي أقل من سعر السوق)؛ بهدف تمكين إزالة الكربون من شركة الطاقة شبه الحكومية في جنوب إفريقيا “إسكوم”. وفي هذا السياق، أشار بعض المتشائمين، إلى أن شركة “إسكوم” تخطط لاستخدام ما يصل إلى 44% من هذه الأموال لتمويل البنية التحتية الجديدة التي سيتم استخدامها لاستيراد “الغاز الطبيعي المسال الموزمبيقي”، على الرغم من أن ذلك – بحسب تسريبات عديدة- سيؤدي إلى إطلاق انبعاثات غاز الميثان التي ستكون أكثر ضررًا بالمناخ بمقدار 85 مرة على مدار العشرين عامًا القادمة مقارنةً بـ “ثاني أكسيد الكربون” الناتج عن احتراق الفحم.
وقد قام الحليف الأوروبي الرئيسي لـ “شولز”، الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، بزيارة رامافوزا قبل عام لإقناعه بأن مصفاة الغاز الطبيعي التابعة لشركة “توتال” في “كابو ديلجادو” ستكون محمية من هجمات جماعات العنف بواسطة إرسال الآلاف من الجنود من جنوب إفريقيا (ورواندا). وقد تقوم ثالث أكبر مصفاة للغاز الطبيعي في العالم بتزويد شبكة “إسكوم” قريبًا.
لكن حركة ميثاق العدالة المناخية في جنوب إفريقيا تضغط الآن من أجل الانسحاب الأوروبي من صفقة “إسكوم”. وفي الوقت الحالي تحارب المنظمات غير الحكومية، مثل GroundWork والتحالف البيئي لمجتمع جنوب “ديربان” خططًا لإنشاء محطة لتوليد الطاقة تعمل بالغاز الطبيعي بقدرة 3000 ميجاوات في “خليج ريتشاردز” من خلال رفع دعوات قضائية.
تناقضات بخصوص العقوبات المناخية:
ومع اعتماد اقتصاداتها بشكل كبير على ثاني أكسيد الكربون؛ فإن دول الـ “بريكس” مُعرَّضة بشدة لوسائل ضغط أخرى، مثل العقوبات المناخية. توضّح اللغة المستخدمة في إعلان جوهانسبرج الثاني لعام 2023م (تم اعتماد الإعلان الأول في عام 2018م) استمرار خضوع مجموعة “بريكس” للمؤسسات النيوليبرالية الغربية، كما ينعكس ذلك أيضًا في ست قرارات أصدرتها منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، ودعم “الإطار المشترك لمجموعة العشرين” لإدارة فعّالة ومستدامة للديون.
وبدلًا من مواجهة القوة الاقتصادية للغرب؛ تواصل مجموعة “بريكس” التركيز على استقرار وإعادة إضفاء الشرعية على “النظام القائم على القواعد”، على الرغم من التناقض الصارخ في أن هذه الأيديولوجية، بإجماع واشنطن، قد جلبت الكثير من المعاناة للعديد من مجتمعات الـ”بريكس” ذات الدخول المنخفضة.
وفي الأشهر الأخيرة، جرى ملاحظة مستوى معين من الخلاف بين فصيل التجارة الحرة النيوليبرالية لدول “بريكس” من ناحية، والغرب من ناحية أخرى، عندما تعلق الأمر بالعقوبات المناخية القاسية المستندة إلى آلية تعديل حدود الكربون(CABM) . وستكون هذه العقوبات المناخية هي الأولى التي يتم فرضها في الاتحاد الأوروبي، الذي يريد فرض رسوم جمركية عقابية على الواردات اعتبارًا من عام 2026م والتي يرتبط إنتاجها بارتفاع انبعاثات الغازات الدفيئة. ووفقًا لإعلان جوهانسبرج الثاني، فإن مجموعة بريكس “تعارض الحواجز التجارية، بما في ذلك تلك التي تفرضها بعض الدول المتقدمة بذريعة مكافحة تغير المناخ، وتؤكد من جديد تصميمنا على تحسين التنسيق بشأن هذه القضايا. كما نؤكد على أن تدابير مكافحة تغيّر المناخ وفقدان التنوع البيولوجي يجب أن تكون متوافقة مع منظمة التجارة العالمية. ونعرب عن قلقنا بشأن أيّ تدابير تمييزية تتعارض مع منظمة التجارة العالمية وتشوّه التجارة الدولية وتخاطر بإقامة حواجز جديدة أمام التجارة وتزيد من عبء مكافحة تغير المناخ والتنوع البيولوجي؛ بحيث ستقع الخسارة على عاتق أعضاء دول بريكس والدول النامية”.
وتكشف كلمات الإعلان ولغته عن نوع معين من إنكار تغيّر المناخ؛ لأن التشوهات الشديدة في التجارة والاستثمار والتمويل كانت موجودة بالفعل بسبب عجز النظام الرأسمالي عن استيعاب انبعاثات الغازات الدفيئة والتلوث البيئي واستنزاف الموارد ضمن حسابات الأسعار. ونظرًا للتهديد المتمثل في كارثة مناخية وبيئية يواجهها العالم، وخاصةً دول “بريكس بلس”، فإن الرغبة في الحفاظ على التحيزات القائمة المناهضة للبيئة ترقى، وفقًا للخبير الاقتصادي البريطاني “نيك ستيرن”، إلى “أكبر فشل للسوق شهده العالم على الإطلاق”.
ومنذ عام 2021م، أكدت الطبقة الحاكمة في جنوب إفريقيا، أكثر من مرة، أن العقوبات المناخية الغربية المعلنة على الصادرات كثيفة الاستهلاك للطاقة هي السبب الوحيد للحاجة إلى إزالة الكربون من الاقتصاد. ونظرًا لارتفاع مستوى الطاقة المعتمدة على الفحم الموجودة في منتجات التصدير للبلاد، فإن تلك البلدان التي تعتمد على ضرائب أعلى على الكربون ستواجه تعريفة ضريبية عقابية -تصل إلى 100 دولار أمريكي للطن مقارنة بـ 0.35 دولار أمريكي للطن في جنوب إفريقيا- لمنع ما يسمى بتسرب الكربون (أي تحويل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون). ومن الممكن أن تؤدي مثل هذه التعريفات إلى إحداث فوضى في “مجموعات المستهلكين كثيفة الاستهلاك للطاقة” في جنوب إفريقيا والشركات الغربية متعددة الجنسيات التي تعارض إزالة الكربون؛ لأنها ترى أن الطاقة الشمسية وطاقة الرياح تتمتع بقدرة أقل على التحميل الأساسي ونفقات رأسمالية أكبر.
وهذا من شأنه أن يخلق، في بعض الأحيان، تباينات حاسمة في المصالح المادية للاقتصادات الإمبراطورية مقابل الاقتصادات شبه الإمبراطورية. ومع ذلك، فإن المصالح المادية الأساسية تتماشى إلى حد كبير بشكل عام، طالما استمرت مجموعة “بريكس” في التركيز على لعب دور أكثر جوهرية في نظام القوة متعدد الأطراف، وليس إنهائه (كما يوحي العديد من أولئك الذين يتمسكون بالمجموعة كـ”أمل لهم”). في جميع المناسبات تقريبًا، عندما تعلو الأصوات الأكثر تشددًا من الجنوب داعية إلى العدالة الاقتصادية الدولية، يكون الإغراء هو دعم خطابها (حتى عندما لا يسفر ذلك عن أفعال)، على الرغم من أن العقوبات المناخية ضد الدول الكبرى المسببة للانبعاثات في مجموعة “بريكس بلس” ليست واحدة منهم.
الصين: التعاون العدائي وخطر التنافس بين الإمبريالية
نشر سمير أمين، المحلل الماركسي الرائد في إفريقيا، مقالًا في مجلة ” Monthly Review” في عام 2015م بعنوان “الإمبريالية المعاصرة”، والذي وضع سياق مجموعة “بريكس” في الاستعارة التالية: “الهجوم المستمر للإمبريالية الجماعية للثالوث الأمريكي الأوروبي واليابان ضد الشعوب. والواقع أن سياسة الجنوب العالمي تقوم على ركيزتين: الركيزة الاقتصادية – الليبرالية الجديدة، التي تُفرض على العالم أجمع باعتبارها السياسة الاقتصادية الوحيدة الممكنة؛ والركيزة السياسية هي التدخل الإمبريالي المستمر والحروب الاستباقية ضد كل من يقاوم ذلك.
ويمكن القول: إن استجابة بلدان الجنوب العالمي، مثل دول الـ “بريكس”، تعتمد، في أحسن الأحوال، على دعامة واحدة: فهي ترفض الجغرافيا السياسية الإمبريالية، لكنها تقبل الليبرالية الاقتصادية الجديدة”. وأشار في سيرته الذاتية إلى أن “جنوب إفريقيا تلعب دورها شبه الإمبريالي منذ عام 1994م، بشكل أفضل من أي وقت مضى”.
وكان “أمين” قد أدرك أن دول الـ “بريكس” –رغم تفاوت سرعاتها- ليست بعدُ دولًا إمبريالية. ويرجع هذا على الأقل إلى أن الولايات المتحدة، بقواعدها العسكرية البالغ عددها 800 قاعدة وما يقرب من 900 مليار دولار أمريكي من الإنفاق العسكري سنويًّا، ليس عليها أن تخشى منافسة عسكرية جدية، حتى لو امتلكت روسيا المزيد من الأسلحة النووية. وفي عام 2011م، سلط “سام مويو” و”باريس يروس” الضوء على الحقائق المادية المختلفة والمتنوعة للغاية لدول الـ”بريكس”، قائلًا: “الإمبريالية من أمثلة الفصام العسكري” ومنها ما يلي:
-لولا في البرازيل، (تليه “ديلما روسيف”)، الذي أرسل 36 ألف جندي إلى هايتي بناء على طلب من الولايات المتحدة وفرنسا، والذي قام بقمع الاحتجاجات المحلية هناك لمدة 13 عامًا بدءًا من عام 2004م.
-رغبة روسيا في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو ما أعلنه بوتين أيضًا للرئيس الأمريكي بيل كلينتون في عام 2000م، والدور المهم الذي تلعبه قوات فاجنر المتبقية من المرتزقة في نهب الموارد الطبيعية الإفريقية في منطقة الساحل ووسط إفريقيا.
-عضوية الهند في “المجموعة الرباعية” (“الحوار الأمني الرباعي”) مع الولايات المتحدة واليابان وأستراليا، كتحالف عسكري ضد الصين.
-نشر جنوب إفريقيا قوات لحماية استثمارات شركتي TotalEnergies وExxonMobil في استخراج “غاز الطبيعي” في شمال موزمبيق ضد الجماعات المسلحة في عام 2021م، بطريقة تذكرنا بالدور الذي لعبه نفس الجيش -كشرطة حماية لاستغلال الموارد مِن قِبَل (الشركات الغربية)- والذي لعبه بالفعل في عام 2013م في جمهورية إفريقيا الوسطى ثم في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية.
ومع ذلك، يظل التعاون العدائي مائعًا عبر مختلف المجالات؛ لأنه، كما جادل “جوستين بودور” مؤخرًا في تقرير الأجندة السوداء، فإن «كل إمبريالي فرعي يمثل حالة خاصة؛ وفي السياق الإفريقي، تم تحليل جنوب إفريقيا على أنها دولة شبه إمبريالية”. ومن ناحية أخرى، يوضح “بودور”، أنه لا الصين ولا روسيا “تتناسب مع نمط الإمبريالية الفرعية”. وقد يمارس كل منهما درجة معينة من الهيمنة في منطقته، أو يتحداها، إلا أنهما لا يفعلان ذلك تحت مظلة الهيمنة الأمريكية. وقد يكون هذا صحيحًا، ولكن في حين التغير المستمر في ميزان القوى السياسية واستمرار الأزمات المختلفة لتعزيز الحقائق السابقة من خلال زعزعة الأمور، يمكن القول: إن الصين لديها ميول شبه إمبريالية تتمثل في “الاستغلال الفائق” (في شكل نظام هوكو لهجرة العمالة)، والتعاون مع المنظمات النيوليبرالية متعددة الأطراف التي يهيمن عليها الغرب، بالإضافة إلى ذلك، لا يزال الاقتصاد الصيني يتمتع بكميات كبيرة من رأس المال المتراكم الذي يسعى إلى الاستقرار المكاني.
لذلك، كما يشير “فيجاي براشاد”، فإن الصين اليوم ليست قوة “إمبريالية”، بكافة المقاييس، بما في ذلك السيطرة النسبية على المؤسسات متعددة الأطراف، ومع ذلك، أشار “شي” في عام 2017 بقوة إلى تصميم حكومته على الإمساك بـ “دفة” التوسع الرأسمالي. وفي المنتدى الاقتصادي العالمي، حل محل “باراك أوباما” النيوليبرالي “دونالد ترامب” الذي يدافع عن تدابير الحماية، ويكره الأجانب. وعلى عكس التوقعات، فإن خوف الأخير من الصين تجاوزه خليفته “جو بايدن”. وهو عازم بقوة على فصل الصين عن دوائر رأس مال التكنولوجيا الفائقة. وهذا يعطي فكرة عن كيفية تطور العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وشريك رأسمالي توسعي شبه إمبريالي موثوق به، بشكل عام، يتمثل في بكين نحو تنافس إمبريالي أكثر خطورة.
هناك العديد من مناطق الصراع المحتملة، خاصة إذا أصبحت تايوان أو منطقة بحر الصين الجنوبي محورًا للمنافسات العسكرية. كما تمتلك الولايات المتحدة سلسلة كاملة من القواعد العسكرية في منطقة المحيط الهادئ، والتي تهدف إلى إبقاء طموحات الصين طويلة المدى للهيمنة الاقتصادية على منطقة جنوب شرق آسيا و”مبادرة الحزام والطريق” تحت السيطرة، أي منع الصين من أن تصبح قوة تنافسية جديدة تقود النظام العالمي.
مفهوم “بريكس من الأسفل” ومنظور الاشتراكية البيئية المناهضة للإمبريالية
أدّت المشاركة المستمرة لمجموعة “بريكس” في التجارة العالمية الجديدة أو الحروب الفعلية إلى زيادة كبيرة في احتمالية نشوب مثل هذه الصراعات:
1-أثرت عملية تفكيك العولمة (تراجع التجارة وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بذروة عام 2008) على جميع اقتصادات مجموعة “بريكس بلس” تقريبًا، خاصة بسبب الدور الحاسم الذي تلعبه الصين في أزمة الإفراط في الإنتاج العالمي للرأسمالية.
2-تقوم الهند بإقامة حواجز حمائية متزايدة ضد الاستثمار والتجارة الصينية، وتعتمد بشدة على نموذج ترامب/بايدن.
3-يظل بنك التنمية الجديد لمجموعة “بريكس” ملتزمًا بالإبقاء على العقوبات المالية ضد روسيا.
4-تستمر دول “بريكس بلس” في دعم أخطر الحروب بالوكالة والحروب المباشرة في العالم: إيران تدعم روسيا بطائرات بدون طيار قاتلة؛ وتبيع جنوب إفريقيا الأسلحة إلى دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، واشترت مؤخرًا بنادق من طراز AK47 من روسيا ليستخدمها جنودها في القتال ضد التمرد في شمال موزمبيق؛ وتقوم البرازيل بتزويد مجموعة فاجنر بطائرات “إمبراير” المقاتلة، وهكذا.
إن القوة الاقتصادية لمجموعة “بريكس” تؤدي بالفعل إلى تفاقم الاختلالات الاقتصادية الأكثر وضوحًا بين البلدان الغنية ومتوسطة الدخل والفقيرة في العالم، لا سيما في ضوء دور الصين في التقسيم العالمي للعمل، والذي يضمن استغلال شركاتها للمواد الخام الاستعمارية الجديدة. ولا تزال إفريقيا على حالها؛ حيث يتواصل عدم تعويض مواطني القارة بشكل كافٍ، علاوة على تزايد الضرر الذي يلحق بالمناخ بصورة أكثر سوءًا.
في كتابه “عروق أمريكا اللاتينية المفتوحة”، يصف الكاتب “إدواردو جاليانو” كيف أن النُّخَب الحاكمة في البرازيل والأرجنتين منذ عام 1870م “تناوبت على الاستفادة من بقايا الدولة المهزومة [باراجواي]، لكنها في الوقت نفسه ترى نفسها خاضعة لإمبريالية القوة العظمى الحاكمة. ولذلك فإن باراجواي هي في نفس الوقت ضحية للإمبريالية والإمبريالية الفرعية.
وهذا ينطبق علينا جميعًا: كما أشار جاليانو، فإن الإمبريالية الفرعية تتجلى بآلاف الأوجه. إن النهج المزدوج الذي تتبناه مجموعة “بريكس” عندما يواجه الركائز السياسية والاقتصادية للإمبريالية، سيضع العديد من الذين يصدقون الزعماء شبه الإمبرياليين في حيرة من أمرهم، عندما يتجهون نحو اليساريين، ثم يتفاجؤون عندما يرونهم يستديرون إلى اليمينيين.
الأمل الوحيد الذي لدينا هو توسيع الحركات الاجتماعية النابضة بالحياة والقوية التي ظهرت في آلاف النضالات داخل سياق الـ “بريكس” وخارجها في السنوات الأخيرة، بما في ذلك الحركات التي لا تملك أرضًا في البرازيل، والناشطين المناهضين للحرب في روسيا، العالم المتنوع للمجتمع المدني “الحركات الشعبية” في الهند، إلى نضالات الصين العديدة من أجل العدالة الاجتماعية، إلى جانب الحركات الديمقراطية للأويجور والتبتيين وهونغ كونغ، فضلًا عن عمال جنوب إفريقيا الذين ما زالوا مناضلين، ونساء الأحياء الفقيرة في إيران، والمدافعين عن الصحة العامة والعاملين في مجال الصحة العامة والطُّلاب.
وكان من الممكن رؤية بعضهم في احتجاجات “بريكس من الأسفل”(3) في ساندتون ووسط مدينة ديربان في 23 أغسطس. وشملت مواضيع التضامن مع أوكرانيا، وحقوق الإنسان (بما في ذلك الكشميريين والمسلمين من الهند)، فضلًا عن حماية المناخ ومكافحة استخراج الموارد. وقد طالبت “شبكة العمل المتحدّة للمجتمعات المتأثرة بالتعدين”، على سبيل المثال، مجموعة بريكس “بالخروج من النماذج الإمبريالية مفرطة الاستغلال لاستخراج المواد الخام وتنفيذ إعادة التوزيع الاجتماعي والاقتصادي” في إطار “ضرورة إعطاء الأولوية لانتقال الطاقة العادل”.
وقد أعطى انضمام دول “بريكس بلس” لهذه الأهداف مزيدًا من الإلهام: الناشطون المناهضون للديون والغاز في الأرجنتين، والناشطان الإيرانيات في مجال حقوق الإنسان. وفي الجولة التالية من التوسع، قد نرى الناشطين التونسيين التقدميين، والحركات السكانية والبيئية في بوليفيا، والنشطاء التقدميين من هندوراس، والمناهضين للسلطوية الكازاخستانيين الذين تم قمع احتجاجاتهم بوحشية بمساعدة أسلحة جنوب إفريقيا. ففي أوائل عام 2022م، سئم نشطاء البيئة النيجيريون والحركات الاجتماعية والناشطون الفلسطينيون والديمقراطيون السنغاليون وغيرهم كثيرون.. هؤلاء جميعًا يوحدهم الحلم إلى عالم خالٍ من الاستغلال والقمع والانتحار الكوكبي. إن معارضي القوة الإمبراطورية وشبه الإمبراطورية لديهم أيضًا الآلاف من الوجوه الغاضبة، ويجب عليهم الآن تطوير وتوحيد قواهم لترجمة هذا الغضب إلى واقع ملموس.
في النهاية، يبقى السؤال: هل ما يمكن أن نتوقعه من الصراع الجيوسياسي الحالي بين الشمال والشرق والجنوب ليس أكثر من سلسلة من الصراعات؟ وهل ستتصارع القوى الصاعدة التي تتبع جميعها نفس القواعد الرأسمالية للإبادة البيئية، ولكن بوسائل مختلفة ووازع أقل، على طول طريق الدكتاتوريات؟ البديل الحقيقي الوحيد في مثل هذا الوقت لمواجهة التهديد العاجل والكارثي للحياة على هذا الكوكب هو إستراتيجية اشتراكية بيئية. وهذا النهج يجعل من السهل أيضًا إدراك أن النخبة في مجموعة “بريكس بلس”، التي تملي إستراتيجياتها من الأعلى، يجب أن تحل محلها حركات “بريكس من الأسفل”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
[1] انضمت جنوب إفريقيا إلى تحالف الدول الذي تأسس عام 2006م تحت اسم “بريكس” مِن قِبَل البرازيل وروسيا والصين (بريكس)، وتبعته مؤخرًا مصر وإثيوبيا وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ولهذا السبب نتحدث الآن أيضًا مجموعة “بريكس بلس”.
[2] وبما أن روسيا تسبب أضرارًا تبلغ حوالي 4.5 مليار دولار أسبوعيًّا في أوكرانيا، فإن هذه الأموال ستكون بلا شك مفيدة جدًّا كتعويضات، كما طالبت الحكومة في كييف أيضًا في نوفمبر 2023م -لكن هذا لن يعطي سوى ذخيرة إضافية لسياسة بوتين. وفي نهاية المطاف، بلغت إيرادات بوتين من صادرات النفط والغاز مستويات قياسية في عام 2022م وسط ارتفاع أسعار الطاقة بشكل كبير.
[3] اجتماع الحركات والمنظمات الاجتماعية في ديربان، جنوب إفريقيا، والذي أُطلق عليه اسم “بريكس من الأسفل” برعاية مركز المجتمع المدني في جامعة كوازولو ناتال، والتحالف البيئي لمجتمع جنوب ديربان، وعدد من المنظمات غير الحكومية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط التقرير: