تزامنت مع انعقاد تجمع البيئة بالأمم المتحدة في نيروبي (26 فبراير- 1 مارس 2024) خروج تقارير وتحليلات عدة ركزت على مستقبل قطاع التعدين الأخضر في القارة في الأعوام المقبلة لاسيما مع تركيز واحد من أهم شركاء القارة، وهو الاتحاد الأوروبي، بما بات يطلق عليه التحول الطاقوي وضمان استدامة مدخلات هذا التحول وأبرزها المعادن الهامة التي توجد بوفرة في دول متعددة في القارة الأفريقية.
تناول المقال الأول، الذي كتبه نائب رئيس بنك الاستثمار الأوروبي، مستقبل الشراكات الجديدة بين الاتحاد الأوروبي وأفريقيا في قطاع التعدين الأخضر؛ فيما رصد المقال الثاني “رؤية أفريقية” لهذا المستقبل. ورصد المقال الثالث المنشور في جريدة الجارديان البريطانية مواقف القادة الأفارقة من مسارات التعدين الأخضر خلال حضورهم قمة نيروبي ومطالبهم بتحقيق توازن ومراعاة لمصالح دولهم في أي تطوير للقطاع مستقبلًا. وركز المقال الرابع على اهتمام الدول الأفريقية بشمول خطط تطوير “التعدين الأخضر” لجوانب اجتماعية وبيئية لصالح العمال والسكان الأفارقة المنخرطون في هذا القطاع بعد عقود من التجاهل والاستغلال المنهجي.
شراكات جديدة من أجل مستقبل أخضر في أفريقيا([1]):
عقد تجمع البيئة بالأمم المتحدة United Nations Environment Assembly في دورته السادسة في العاصمة الكينية نيروبي (26 فبراير- 1 مارس 2024)، وهو التجمع البيئي الأبرز في العالم بعد مؤتمر كوب-28 للمناخ المنعقد في دبي في ديسمبر الماضي حيث اتفقت 195 دولة على الابتعاد عن استخدام الوقود الأحفوري وتكوين صندوق للخسائر والأضرار Loss and Damage Fund لتعويض الدول النامية عن آثار التغير المناخي.
وتعد الاستدامة البيئية مفتاح رئيس في معالجة هذا التحدي العالمي. وتربط جمعية البيئة بالأمم المتحدة- 6 العمل المناخي والأولويات البيئية الأخرى عبر التركيز على تحركات متبادلة مؤثرة وشاملة ومستدامة من أجل مواجهة التغير المناخي وفقدان التنوع البيولوجي والتلوث. وفي الدول النامية فإن تزايد الضغوط على الماليات العامة، وقيود استدامة الديون والمخاطر المتوقعة يعوق كل ذلك الاستثمارات الخضراء. وفي واقع الأمر فإن المخاطر جمة، من عدم الاستقرار السياسي إلى السياسات أو الاجراءات الضعيفة إلى تردي صحة الأسواق المالية المحلية، والمخاطر على مستوى المشروعات، وتكلفة رأس المال الباهظة، ومعدلات الفائدة المرتفعة.
ووفقًا لبنك التنمية الأفريقي فإن أفريقيا لا تتلقى حاليًا سوى 3% فقط من تدفقات التمويل المناخي العالمي. ومع ندرة التمويل العام، فإن دور الشراكات العامة- الخاصة سيتمثل في تعبئة التمويل المناخي بمستوى كبير. وتعمل بنوك التنمية متعددة الجنسيات، مثل بنك الاستثمار الأوروبي، في أسواق مختلفة عبر حلول مبتكرة تقلل المخاطر وتزاحم رأس المال الخاص. وفي كوب-28 اتفقت الأطراف الدولية على تقوية تعاوننا من أجل دعم الدول والقطاع الخاص في الإسراع بانتقال أخضر وعادل وبناء الصمود (الطاقوي).
إن بنك الاستثمار الأوروبي هو الذراع المقرضة للاتحاد الأوروبي. ونحن واحدُ من أكبر مؤسسات التمويل متعددة الجنسيات في العالم وأحد أكبر داعمي التمويل المناخي. ولطالما كنا شريكًا قويًا للدول الأفريقية طوال أكثر من 55 عامًا. وعبر ذراعنا المخصص للتنمية وهو EIB Global فإننا نقوم بتقوية وجودنا في أفريقيا ونقوم بحشد رأس المال الخاص من أجل تكنولوجيات خضراء مبتكرة مثل الهيدروجين الأخضر. وسوف نستخدم هذه التجربة لبناء شراكات جديدة من اجل إطلال التمويل الخاص في المشروعات الخضراء.
وطوال العقد الماضي قدم بنك الاستثمار الأوروبي أكثر من 32 بليون يورو للطاقة الخضراء، والمياه، والعمران، والتعليم، والزراعة، والاتصالات، والصحة، واستثمارات الأعمال في 40 دولة في أرجاء القارة. وتضمن ذلك 10 مليون يورو استثمارات في بنين في العام 2022، وهي استثمارات حققت طاقة شمسية منخفضة الكربون لنحو 600 ألف فرد؛ وفي اوغندا تم استثمار 12.5 مليون يورو في ENGIE ، وهو مشروع وفر لنحو 1.4 مليون نسمة في أوغندا الوصول لمصدر طاقة يعول عليه ومتاح طوال الوقت؛ وقدم البنك استثمارات بقيمة 10 مليون يورو في مدغشقر ساعدت على توفير طاقة شمسية لنحو 45 ألف منزل عبر مشروع ويلايت WeLight.
ويتصاعد دور الأسهم الخاصة private equity كأداة قوية في قيادة النمو الاقتصادي الأخضر. وتقدم صناديق الأسهم الخاصة السيولة والعائدات المطلوبة، بينما تدير بفاعلية المخاطر المرتبطة بالاستثمارات المناخية مثل الطاقة المتجددة والائتمان الكربوني carbon credit (الذي يستهدف بالأساس خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون). وفي العام الماضي استثمر بنك الاستثمار الأوروبي أكثر من 350 مليون يورو في صناديق الأسهم العاملة في أرجاء القارة الأفريقية. مما جعل اجمالي الاستثمارات تصل إلى نحو 3 بليون دولار تقدم تمويلًا (أسهم/ أو ديون) لأكثر من 2000 جهة مستثمرة. وكانت أغلبية هذه الاستثمارات في قطاعي العمل المناخي والاستدامة البيئية.
ومن الأمثلة على ذلك صندوق ميروفا جيجاتون Mirova Gigaton Fund الذي حظي بدعم بنك الاستثمار الأوروبي على مدار الأعوام، وكان أخرها تمويلًا بقيمة 75 مليون دولار أمريكي في العام الجاري، سيسهم في الإسراع بالوصول للطاقة النظيفة والعمل المناخي في الأسواق الناشئة. كما وقعنا اتفاقًا استثماريًا بقيمة 40 مليون دولار مع صندوق آكر لتمويل الصادرات الأول Acre Export Finance Fund I خلال قمة المناخ الأفريقية في نيروبي في العام الماضي، من أجل الاستثمار في البنية التحتية المناخية في أرجاء أفريقيا.
وثمة مقاربة فعالة أخرى لدعم القطاع الخاص تمثلت في الإقراض الوسيط لاستثمارات التكيف المناخي في مرحلة مبكرة عبر العمل مع مؤسسات التمويل المحلية وتقديم خطوط ائتمان بشروط تفضيلية يقومون عندها بإقراضها لأفراد أو مشروعات صغيرة. وطوال الأعوام الخمسة الماضية كان الإقراض الوسيط آلية الاستثمار الأكبر لبنك الاستثمار الأوروبي في أفريقيا، ودعم الشركات الخاصة عبر عدد مرتفع من القروض الأصغر حجمًا.
تطوير رؤية الطاقة الأفريقية: إعلان مبادرتي طاقة بتمويل الاتحاد الأوروبي([2]):
ميزت أعمال القمة العادية 37 لرؤساء دول وحكومات الاتحاد الأفريقي في 17-18 فبراير 2024 خطوة هامة أخرى في تطبيق مبادرتي طاقة بارزتين بدعم من مرفق المساعدات التقنية العالمية للاتحاد الأوروبي European Union’s Global Technical Assistance Facility (EU- GTAF)
ودعا ممثلو الحكومات الأفريقية إلى:
-تبني سوق كهرباء أفريقية واحدة African Single Electricity Market (AfSEM) على أن يكن مكونها المعروف باسم “الخطة الرئيسة لنظم الطاقة القارية” Continental Power Systems Masterplan (CMP) مشروعًا رئيسًا في أجندة الاتحاد الأفريقي 2063. ويتطلع سوق الكهرباء الأفريقية الواحدة إلى أن يكون سوق الكهرباء الأكبر في العالم بحلول العام 2040 وأن يتم عبر “الخطة الرئيسة” إقامة البنية التحتية الضرورية؛
-ابني العديد من الوثائق الرئيسة للسوق والخطة الرئيسة والتي تقدم أساسًا صلبًا للخطوات التالية في تطبيق هاتين المبادرتين الرئيسيتين، وسوف تيسر تلك الوثائق التخطيط الاستراتيجي وتقود كذلك إلى تناغم الإطار القانوني داخل قطاع الطاقة الأفريقي.
-دعوة الدول الأعضاء بالاتحاد الأفريقي إلى تخصيص موارد مالية لتطبيق سوق الكهرباء الأفريقية الواحدة والخطة الرئيسة لنظم الطاقة القارية.
وعقب تبنيه رسميًا كمشروع رئيس، تجمع المعنيون بأمر الطاقة الأفريقية في أديس أبابا في الفترة 21-22 فبراير 2024 للتشاور حول آخر تقارير معنية بالربط الداخلي والإقليمي وفق الخطة الرئيسة والمعايير التي تم وضعها من أجل إرساء أولوية لمشروعات توليد الطاقة ونقلها. إضافة إلى ذلك، تمت مناقشة الأولويات التالية والخطوات المقبلة في تطبيق كل من الخطة الرئيسة وسوق الكهرباء الأفريقية. وأجمع المشاركون على أن الوقت قد حان للانتقال “من الكلمات إلى الفعل” وأن هذه المبادرة الهامة ستيسر بلا شك ارتفاع مخصصات إضافية. ويمثل الحدثان – قمة الاتحاد الأفريقي والاجتماع التالي لها بين المعنيين بشأن الطاقة- خطوة هامة للأمام في مسار تحقيق سوق طاقة أفريقي مستدام ومترابط.
وتعد هذه التطورات مثالًا على التعاون في إطار مبادرة الطاقة الخضراء أفريقيا- الاتحاد الأوروبي Africa-EU Green Energy Initiative (AEGEI) وما تعرف باستراتيجية البوابة العالمية للاتحاد الأوروبي EU Global Gateway Strategy إذ تتولى “سوق الكهرباء الواحدة” والخطة الرئيسة مهمة تكوين سوق كهرباء أفريقية قارية مترابطة جيدًا وتنافسية تضمن خدمات كهرباء آمنة ويعول عليها ومتاحة ومستدامة وفق جدول زمني مقسم لمراحل من العمل، مع التأكيد على الحاجة لزيادة قدرة أفريقيا على توليد الكهرباء من 266 جيجاوات حاليًا إلى نحو 1218 جيجاوات بحلول العام 2040 وسيعني تحقيق هذا الرقم تقديم كهرباء لنحو 1.3 بليون نسمة على نحو مستدام ويعتمد عليه في المستقبل.
القادة الأفارقة يدعون للعدالة إزاء المعادن المستخدمة في إنتاج الطاقة النظيفة([3]):
في محاولة لتفادي “مظالم النزعة الاستخراجية” لعمليات الوقود الأحفوري يدعو القادة الأفارقة إلى ضوابط أفضل على التكالب على المعادن المطلوبة للانتقال الطاقوي النظيف. وقد قدم قرار بتفعيل تغيير هيكلي سيعزز مشاركة أرباح عادلة من الاستخراج بدعم رئيس من الدول الأفريقية بما فيها السنغال وبوركينا فاسو والكاميرون وتشاد في التجمع البيئي للأمم المتحدة المنعقد في نيروبي (28 فبراير) ودعا القرار إلى استخدام مستدام للمعادن الانتقالية.
ورأي جان ماري بوبي الممثل لجمهورية الكونغو الديمقراطية والتي دعمت القرار أنه “هام للدول، والبيئة ومستقبل سكان أفريقيا”.
وقد ارتفع الطلب على المعادن الانتقالية المستخدمة لبناء تكنولوجيات الطاقة المتجددة مثل مصانع إنتاج الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والعربات الكهربائية على امتداد العقد الماضي مع انتقال العالم من استخدام الوقود الأحفوري. وستكون هناك حاجة لبلايين الأطنان من المعادن الانتقالية في العقود الثلاثة المقبلة إن كان على العالم تلبية أهدافه المناخية، وفقًا لبرنامج البيئة بالأمم المتحدة United Nations Environment Programme. وتملك أفريقيا احتياطات كبيرة من المعادن الهامة منها أكثر من نصف احتياطات العالم من الكوبالت والمنجنيز، و92% من البلاتينيوم. وتنتج جمهورية الكونغو الديمقراطية وحدها ثلثا إنتاج العالم من الكوبالت، وهو المعدن المستخدم في صنع بطاريات السيارات الكهربائية. لكن رغم ثروتها المعدنية الهائلة فإنها لا تزال واحدة من أفقر دول العالم. وتظل عمالة الأطفال وانتهاكات حقوق العمال بها شائعة للغاية في قطاع التعدين تحديدًا.
ويمثل الطلب فرصة للدول الأفريقية الغنية بالمعادن التي لا تزال غير مستغلة، حسب القادة الأفارقة. ولدى الكثير من دول الإقليم قدرة محدودة على معالجة هذه المواد الانتقالية الهامة محليًا. وتصدر المعادن في الغالب في حالتها الخام ويتم تعدينها في أماكن أخرى لاسيما في الصين، والتي تملك بدورها أغلب عمليات المعالجة والإنتاج التعدينية في العالم.
وعني الضغط المتزايد من قبل الدول الأفريقية المنتجة للمعادن سعيًا لتحقيق نمو اقتصادي وخلق فرص عمل من سباق المعادن الخضراء أن العديد من الدول تفرض قيودًا على صادرات المعادن الخام في السنوات الأخيرة، ومن أجل دعم المعالجة المحلية. وثمة حاجة ضرورية للتوصل لاتفاقات تعزيز نقل التكنولوجيا وترفع قدرات المعالجة المحلية لدى الدول المختلفة ومهارات قوة العمل بها، وذلك من أجل تحقيق انتقال عادل، حسب تصريحات القادة الأفارقة في هذا التجمع الهام.
التعدين الحديث: تلبية مقررات الأجندة الخضراء([4]):
مع توجه العالم نحو تبني حلول طاقوية أنظف فإن صناعة التعدين في أفريقيا ارتقت إلى واجهة الانتقال الطاقوي العالمي. ومع حدوث تقدمات في التكنولوجيا، والصحة والسلامة، والبيئة والاستكشاف، تجد صناعة التعدين نفسها الآن في مستهل فترة اضطراب. بأي حال فإن هذا الاضطراب تصاحبه فرص عمل جديدة داخل قطاع التعدين. ويبدو هذا القطاع الآن في حالة تناقض: فهو نشاط يبدو مدمرًا للبيئة- لكنه من الضروري لنا تلبية مقررات الأجندة الخضراء من أجل كوكب الأرض. وتحتاج شركات التعدين إلى تحرير نفسها من التصور القائم منذ عقود بان المناجم قد وجدت فحسب للاستخراج ثم مغادرتها، كما أنها تحتاج إلى تغيير التركيز نحو دورها في إقامة بنية تحتية وبناء تجمعات سكنية للعمال وبيئة ملائمة للعيش على نحو مستدام بعد نهاية نشاط التعدين.
نحو تعدين مستدام:
إن توجه الصناعة الرئيس الذي سيشكل مسار قطاع التعدين في أفريقيا سيكون قدرة مجموعة متنوعة من اللاعبين الرئيسيين في الصناعة على تطبيق ممارسات تعدين مستدامة لا تركز فحسب على الجوانب الاقتصادية لعملياتهم، ولكن أيضًا على القضايا الاجتماعية والبيئية. ففيما يركز الجانب الاقتصادي على تكلفة التعدين فيما يتعلق بالعائدات، ويرتبط الجانب البيئي بالإجراءات المتبعة لتأمين البيئة. وسيعني حماية البيئة تطبيق تقنيات تعدين منخفضة الأثر واستخدام طرق تعدين أنظف وأكثر كفاءة. وتتوقع وكالة الطاقة الدولية أن الطلب على المعادن الهامة سيتجاوز الضعف بحلول العام 2030 وسيتضاعف أربعة أضعاف بحلول العام 2050، مع تحقيقها عائدات تصل إلى 400 بليون دولار سنويًا. ويتوقع أن تستفيد أفريقيا من ذلك الارتفاع في الطلب بقوة لاسيما أنها تستحوذ على حوالي 30% من احتياطات العالم من المعادن بما فيها الكوبالت والنحاس، والبوكسيت والليثيوم والمعادن الأرضية النادرة، وكلها معادن هامة لتكنولوجيات الطاقة النظيفة. بأي حال فإن أقل من 10% من رأس المال المخصص لاستكشاف المعادن عالميًا يوجه لأفريقيا وأقل من 5% من العائدات دخلت القارة في العام 2022.
…………………………………………………..
[1] Ambroise Fayolle, New Partnerships for a Green Future in Africa, African Business, February 28, 2024 https://african.business/2024/02/partner-content/new-partnerships-for-a-green-future-in-africa
[2] Press and information team of the Delegation to the African Union, Advancing Africa’s Energy Vision: Two EU-funded energy initiatives declared an Agenda 2063 flagship project, Delegation of the European Union to the African Union, February 28, 2024 https://www.eeas.europa.eu/delegations/african-union-au/advancing-africas-energy-vision-two-eu-funded-energy-initiatives-declared-agenda-2063-flagship_en
[3] Caroline Kimeu, African leaders call for equity over minerals used for clean energy, The Guardian, 28, February 2024 https://www.theguardian.com/environment/2024/feb/28/african-leaders-call-for-equity-over-minerals-used-for-clean-energy
[4] Modern mining: Meeting the green agenda, Times of Zambia, February 29, 2024 https://www.msn.com/en-xl/news/other/modern-mining-meeting-the-green-agenda/ar-BB1j4UBT