يشهد إقليم البحيرات الكبرى في إفريقيا أزمة أمنية وعسكرية وإنسانية بالغة الخطورة، تعاظمت حدّتها منذ نهاية العام 2023م، وفيما فشلت قمة الاتحاد الإفريقي الأخيرة (17-18 فبراير في أديس أبابا) في معالجة الأزمة المتصاعدة، أو حتى وضع أُسُس لتحرّك إقليمي جادّ يتوازى مع إعادة تشكيل مجلس السلم والأمن بالاتحاد؛ فإن كافة المؤشرات تؤشّر إلى تصعيد مرتقب في الأزمة مع تبنّي رواندا موقفًا عدائيًّا واضحًا ضد أيّ جهود دولية لمراجعة تدخُّلها في جارتها الكبيرة عسكريًّا.
يناقش المقال الأول جذور الخلاف بين دولتي رواندا وبورندي إزاء أزمة شرقي الكونغو تحديدًا. أما المقال الثاني فإنه يتناول لمحة عن التصعيد الرواندي-الفرنسي إزاء نفس الأزمة. وجاء المقالان الثالث والرابع ليتناولا الموقف الأمريكي، ويحاولا تفسيره وتلمُّس تداعياته على المدى القصير.
جذور الخلاف بين بوروندي ورواندا في شرقي الكونغو([1]):
في ديسمبر الماضي 2023م قُتل نحو 20 فردًا على يد ميليشيا في جاتومبا Gatumba، وهي مدينة في بوروندي على الحدود مع جمهورية الكونغو الديمقراطية. وأعلنت جماعة تُعرَف باسم ريد-تابارا RED-Tabara مسؤوليتها عن الهجوم، لكنّ بوروندي وجَّهت اللوم مباشرة إلى رواندا، متّهمة كيجالي بدعم الميليشيا وتصنيف كيجالي “جارًا شريرًا”. وتعمّق الخلاف بين البلدين في يناير 2024م عندما أعلن وزير الداخلية مارتن نيترستس M. Niteretse عزم بوروندي قطع صلاتها الديبلوماسية مع رواندا، وغلق الحدود بين البلدين. فيما عمدت كيجالي لإنكار الاتهامات، واتهمت بدَوْرها حكومة بوروندي بالإقدام على تحرُّك أحادي.
ورغم وقوع هذا الخلاف الكبير فجأة (ظاهريًّا)، فإن تصاعد التوتر بين بوروندي ورواندا بعد عامين فقط من المصالحة بينهما لم يكن أمرًا مباغتًا (على نحو كامل)؛ ويمكن إرجاعه للصراع في شرقي الكونغو. وكانت بوروندي قد قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع رواندا في العام 2015م على خلفية اتهامات لكيجالي بدعمها محاولة انقلاب ضد الرئيس السابق بيير نكورونزيزا Pierre Nkurunziza عقب انتخاب الأخير رئيسًا لفترة ثالثة في سباق انتخابي مثير للجدل في ذلك العام. وواصلت بوروندي غلق حدودها أمام رواندا طوال سبعة أعوام. وردت رواندا بمواصلة طرد اللاجئين البورنديين من أراضيها؛ بادعاء أن وجودهم “غير قانوني”. ولم تبدأ هذه العلاقات في التحسن نوعًا ما إلا في العام 2020م بعد وصول الرئيس إيفاريستي ندايشيميي Evariste Ndayishimiye للسلطة بعد وفاة سلفه نكورونزيزا.
وانتهجت البلدان منذ ذلك الوقت خطوات مدروسة نحو تطبيع العلاقات، ووصلت هذه الخطوات لمستوى جديد عندما قررت بوروندي إعادة فتح حدودها أمام رواندا في أكتوبر 2022م.
ومن جهتها، كانت رواندا قد طردت في يوليو 2021م نحو 19 مشتبهًا بانتمائهم لجماعة ريد-تابارا، ومطلوبون مِن قِبَل حكومة بوروندي، وحظرت على المنفيين البورنديين في أراضيها الانخراط في أيّ أنشطة مناهضة للحكومة بما في ذلك بثّ إذاعات محلية.
وكان صعود جماعة M23 المتمردة في نهاية العام 2021م، الأمر الذي زاد من مستويات العنف في مناطق بشرقي الكونغو؛ حيث تعمل بالأساس، في قلب التغيرات الإقليمية المتزايدة في الفترة الأخيرة. وكان دعم رواندا لجماعة M23 ذا تأثيرات سلبيَّة على العلاقات مع كينشاسا.
ومن جانبها واصلت رواندا إنكار دعمها للجماعة، بل واتهمت الحكومة الكونغولية والرئيس فيليكس تشيسيكيدي بالتعاون مع القوات الديمقراطية لتحرير رواندا Democratic Forces for the Liberation of Rwanda (DFRL)، وهي مجموعة مسلحة تعمل في شرقي الكونغو ويُتّهم قادتها بصلات بإبادة الهوتو ضد التوتسي في رواندا. وتنظر رواندا للجماعة على أنها تهديد أمني خطير.
وقد تدهورت العلاقات الثنائية بين البلدين على نحو بالغ مع انعقاد المؤتمر الدولي حول إقليم البحيرات الكبرى International Conference on the Great Lakes Region, or ICLGR، والذي أطلق ما عُرِفَ بعملية لواندا Luanda Process في أكتوبر 2022م من أجل تجنيب الإقليم مخاطر وقوع مواجهات عسكرية مباشرة بين الدول المجاورة لبعضها البعض.
وبعد انضمام الكونغو للجماعة الاقتصادية بشرق إفريقيا في العام 2022م أطلقت الكتلة الإقليمية مبادرة سلام أوسع نطاقًا حملت اسم “عملية نيروبي”، قادها الرئيس الكيني السابق أوهورو كينياتا.
وكجزء من عملية نيروبي؛ جمعت آلية للحوار السياسي بين مجموعات مسلحة متنوعة عاملة في شرقي الكونغو من أجل التفاوض على استسلامها والاندماج في عملية “برنامج نزع السلاح والتفكيك والتعافي المجتمعي والاستقرار” Disarmament, Demobilization, Community Recovery and Stabilization Program. على أيّ حال فقد حظرت كينشاسا مشاركة M23 باعتبارها جماعة إرهابية رغم ممارسة رواند ضغوطًا لشمول المجموعة في العملية (مما عزّز على نحو غير مباشر فرضيات دعم رواندا لهذه المجموعة).
وتلا ذلك نشر جماعة شرق إفريقيا الاقتصادية لقوة إقليمية حملت اسم EACRF في شرقي الكونغو في نوفمبر 2022م وفق بُعْد (عملية نيروبي) الأمني. ومدّت مدتها المبدئية التي كانت مقررة لستة أشهر مرتين متعاقبتين مدة كل منهما 3 أشهر إلى أن انسحبت القوة في النهاية في ديسمبر 2023م. وفي هذا الوقت كانت بوروندي (التي كانت موقّعة بالفعل على اتفاق أمني ثنائي مع الكونغو في أغسطس 2021م) تحاول استغلال نشر EACRF كفرصة لتحقيق مصالحها الوطنية وتعميق التعاون الأمني مع الكونغو، مما أثار مخاوف رواندا، وأطلق التوتر الحالي في علاقاتها مع بوروندي.
رواندا: فرنسا تعرف أكثر من غيرها أسباب أزمة شرق الكونغو!([2])
رواندا تقول: إن فرنسا، أكثر من أيّ دولة أخرى، تعرف الأسباب الجذرية للأزمة في القسم الشرقي من جمهورية الكونغو الديمقراطية، ويجب أن تكون آخر دولة توجّه اللوم (لرواندا) مع تدهور الوضع الأمني في إقليم البحيرات الكبرى ووصوله لنقطة انفلات.
وتلت تصريحات رواندا تلك بيانًا أصدرته وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية عبَّرت فيه عن قلق باريس العميق من الوضع في شرقي الكونغو وشمال كيفو North Kivu ولا سيما المنطقة المحيطة بجوما Goma وساك Sake، وموجهة أصبع الاتهام إلى رواندا ومجموعة M23 المتمردة على وجه الخصوص من بين الجماعات المتمردة الموجودة في الإقليم (والتي تقاتل الآن ضد قوات حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية وقوات مسلحة أخرى).
وعبرت فرنسا في البيان عن إدانتها “لهجوم مجموعة M23 التي تدعمها رواندا، وكذلك وجود القوات الرواندية على التراب الكونغولي”.
كما دعت فرنسا في البيان جميع المجموعات المسلحة لإنهاء العنف، وأكدت تقارير عمل قوات جمهورية الكونغو الديمقراطية بالتواطؤ مع القوات الديمقراطية لتحرير رواندا؛ وهو التعاون الذي تصفه رواندا بالمهدد الرئيس للأمن الإقليمي. ودعا البيان كينشاسا وقواتها المسلحة “للوفاء بكامل التزاماتها وإنهاء التعاون مع القوات الديمقراطية لتحرير رواندا (وهي الحركة التي كونتها ميليشيات على صلة بجرائم الإبادة ضد التوتسي في رواندا في العام 1994م حسب البيان الفرنسي.
وفي تحرك دبلوماسي نادر قالت الناطقة باسم حكومة رواندا يولاندي ماكولو Yolande Makolo: إن فرنسا، أكثر من أي دولة أخرى، تدرك جيدًا الأسباب الجذرية للصراع الذي ضرب الجزء الشرقي من الكونغو طوال ثلاثة عقود حتى الآن، وأكدت ماكولو أنه في حال معالجة (فرنسا) لهذه الأسباب؛ فإنه ستتم تسوية الصراع.
وعلقت ماكولو على منصة إكس (تويتر السابقة) بأنه “لا أحد يعرف الأسباب الجذرية وتاريخ الصراع في شرقي جمهورية الكونغو الديمقراطية أكثر من فرنسا. كما أن الرئيس الحالي لعمليات السلام التابعة للأمم المتحدة مطلع تمامًا على هذا التاريخ، وما يجري الآن في شرقي جمهورية الكونغو الديمقراطية، لذا فإنه لا يجب أن يكون ثمة التباس”.
وترى رواندا أن حل الصراع يكمن في تسوية بعض القضايا القديمة التي بدأت في الوقت الذي كانت فيه فرنسا متورطة بقوة في الإقليم خلال فترة ما بعد إبادة التوتسي هناك في العام 1994م. وفرار آلاف الجنود الحكوميين السابقين في رواندا والميليشيات المختلفة، وتحت سمع وبصر الجيش الفرنسي الذي كان يسيطر على ما عُرف باسم المنطقة الزرقاء “Zone Turquoise”، نحو زائير بعد وقف الجبهة الوطنية الرواندية Rwandese Patriotic Front (RPF) للإبادة والاستيلاء على السلطة. وتجمعت هذه العناصر لاحقًا –حسب الرواية الرواندية- وبمرور السنوات بما فيها جيش تحرير رواندا Army for the Liberation of Rwanda (ALiR). وفي السنوات التي تلت الإبادة تجمعت بعض الجماعات لتكون مجموعات أكبر مكونة في الغالب من الهوتو الذين فروا من الإبادة أو أقاربهم.
وتقول رواندا: إن حماية حقوق وحياة التوتسي الكونغوليين تقع على عاتق جمهورية الكونغو الديمقراطية، وإن الفشل المستمر في القيام بهذه الحماية عرَّض إقليم البحيرات الكبرى لثلاثين عامًا من الصراع وعدم الاستقرار فيما عاش مئات الآلاف من التوتسي الكونغوليين لاجئين في شرق إفريقيا طوال عقود، حتى تم نسيانهم تقريبًا.
كما أدانت رواندا خطاب الكراهية والتحريض القَبَلي الذي بات شائعًا في السياسة الكونغولية في ظل إدارة الرئيس فيليكس تشيسيكيدي، وكذا التمييز الإثني والاعتقالات المستهدفة والقتل الذي أصبح عملًا يوميًّا، بينما تم دمج القوات الديمقراطية لتحرير رواندا في القوات المسلحة الكونغولية.
الكونغو الديمقراطية وأزمة M23: البيان الأمريكي يرعب رواندا([3])
تواصل قوات مجموعة M23 ضغوطها على القوات المسلحة بجمهورية الكونغو الديمقراطية وحلفائها؛ مما يثير مخاوف في الأجزاء الشرقية من الكونغو. وبالفعل فإن أقاليم إيتوري Ituri، وشمال كيفو، وجنوب كيفو تشهد منذ فترة عمليات منتظمة لميليشيات إثنية ودينية وسياسية متنوعة وكذلك مجموعات إرهابية.
وعلى سبيل المثال، هناك القوات الديمقراطية المتحالفة، وهي جماعة عنف إرهابية تكونت في أوغندا، لكن أغلب عناصرها الموجودة في الكونغو الديمقراطية من المسيحيين. وتدعم حكومة رواندا حركة M23 بالرغم من إنكارها المتكرر لذلك. على أي حال فإنه في ضوء دور قوات الهوتو (التي تحمل اسم القوات الديمقراطية لتحرير رواندا: FDLR) ضد التوتسي، مع تزايد دور الصين في دعم حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية في النطاق العسكري؛ فإنه من الطبيعي أن تدعم رواندا M23 في ضوء الأحوال السائدة في الإقليم.
وبناء على ذلك فإن حركة M23 تحمي بالأساس جماعة التوتسي الإثنية من ميليشيات الهوتو. كما يحمي مسلحو m23 الأقليات المختلفة في شرقي جمهورية الكونغو الديمقراطية. وقد أدانت رواندا بيانًا مهمًّا أصدرته الخارجية الأمريكية (بإدانتها صراحة)، وقالت الخارجية الرواندية: إن “وصف هذه المجموعة التي تقوم بالإبادة والإرهاب بكونها جماعة مسلحة؛ هو أمر يبعث على الصدمة والسخرية من السياسة الواقعية realpolitik، الأمر الذي يثير سؤالًا حول قدرة الولايات المتحدة على أن تكون وسيطًا ذا مصداقية في إقليم البحيرات الكبرى”.
كما أبرزت الخارجية الرواندية دور الصين في دعم جمهورية الكونغو الديمقراطية. وبناء على ذلك قالت الوزارة: إن الحكومة الرواندية تتخذ كافة الإجراءات لضمان الحماية الجوية الكاملة للأراضي الرواندية، ومواجهة تطور القدرات الهجومية الجوية لجمهورية الكونغو الديمقراطية عقب تلقيها في العام 2023م مسيرات هجومية من طراز CH-4 واستخدامها لها في انتهاكات مستمرة للمجال الجوي الرواندي.
وتسعى رواندا للتفكيك الكامل لما يُعرَف بالقوات الديمقراطية لتحرير رواندا المتمركزة في شرقي الكونغو. كما تطلب رواندا من جمهورية الكونغو الديمقراطية تسليم جميع الشخصيات القيادية “بالقوات الديمقراطية لتحرير رواندا” للأولى، وعندها يمكن للبلدين -حسب طرح رواندا- إعادة ضبط صِلَاتهما.
وفي المقابل تريد جمهورية الكونغو تدمير كلّ من M23 والقوات الديمقراطية المتحالفة وغيرها من القوات المتمردة المتمركزة في شرقي البلاد. على أيّ حال فإن القوات المسلحة الكونغولية غير قادرة على القيام بذلك في الوقت الراهن.
الولايات المتحدة تخبر رواندا والكونغو بضرورة التراجع عن حالة “شفا الحرب”([4]):
أخبرت الولايات المتحدة كلاً من رواندا والكونغو (الثلاثاء 20 فبراير) بضرورة الابتعاد عن حافة الحرب، وهو أكثر تعبير حادّ منذ بدء الصراع بين الجارتين الإفريقيتين. وجاء ذلك التحذير الأمريكي خلال اجتماع طارئ لمجلس الأمن بالأمم المتحدة دعت له فرنسا مع تردي حالة العنف في إقليم شرق الكونغو الغني بالمعادن والواقع جزء منه على الحدود مع رواندا.
وقال نائب السفير الأمريكي بالأمم المتحدة روبرت وود R. Wood: إن على البلدين “مع لاعبين إقليميين” الاستئناف الفوري للمحادثات الدبلوماسية، وإن هذه “الجهود الدبلوماسية الإقليمية، وليس الصراع العسكري، هي الطريق الوحيد نحو حلّ تفاوضي وسلام دائم. وجاء التحذير الأمريكي بعد رفض وزارة الخارجية الرواندية (الاثنين 19 فبراير) لدعوات واشنطن لها بسحب قواتها ونظم صواريخها أرض- جو من شرقي الكونغو.
وردت الخارجية الرواندية بتأكيد أن قواتها “تدافع عن الأراضي الرواندية بعد تنفيذ الكونغو عمليات عسكرية كبيرة قرب الحدود. وتحدثت الوزارة عن تهديدات للأمن القومي الرواندي مشتق من حضور جماعة مسلحة تضم عناصر متّهمة بالانخراط في أعمال إبادة 1994م على الأراضي الكونغولية والتي قُتِلَ خلالها نحو 800 ألف فرد من التوتسي ومن الهوتو المعتدلين.
………………………………………………………………..
[1] Chido Mutangadura, Burundi and Rwanda’s Latest Rift Has Its Roots in Eastern Congo, World Politics Review, February 15, 2024 https://www.worldpoliticsreview.com/rwanda-burundi-congo-conflict/?one-time-read-code=277406170845823736779
[2] Edmund Kagire, DRC Crisis: Rwanda Says France Knows the Root Causes More Than Anyone Else, KT Press, February 21, 2024 https://www.ktpress.rw/2024/02/drc-crisis-rwanda-says-france-knows-the-root-causes-more-than-anyone-else/
[3] Kanako Mita and Noriko Watanabe, DRC and M23 Crisis: Rwanda Dismayed by US Statement (China), Modern Tokyo Times, February 21, 2024 https://moderntokyotimes.com/drc-and-m23-crisis-rwanda-dismayed-by-us-statement-china/
[4] Edith M. Lederer , The United States tells Rwanda and Congo they must ‘walk back from the brink of war’, The Washington Post, February 21, 2024 https://www.washingtonpost.com/world/2024/02/20/us-un-congo-rwanda-conflict-m23-rebels/759a7742-d066-11ee-ac8b-765284b5203e_story.html?isMobile=1