ربما تُشكِّل شرق إفريقيا آخر بحيرة كبرى من النفط غير المستكشَف في العالم. تمتد الاكتشافات -المقدَّرَة والفعلية- من مدغشقر، ومرورًا بكل من تنزانيا، وأوغندا، وكينيا، وإثيوبيا وصولاً إلى الصومال (ولا سيما بونتلاند) وصوماليلاند.
وتشير التقديرات إلى أن حقول النفط والغاز البحرية في الصومال يمكن أن تحتوي على نحو 110 مليارات برميل –أي: أكثر من حقول دولة الإمارات العربية المتحدة-؛ مما يجعل المنطقة خامس أكبر منتج عالمي. أدرك الجميع هذه الحقيقة وبدأوا الهرولة نحو الصومال والقرن الإفريقي.
ولعل المسألة الصومالية تعكس خطأ الإدراك الغربي للقارة الإفريقية التي وُصِفَتْ تارة عام 2000م من قبل مجلة الإيكونومست البريطانية على أنها “قارة ميؤوس منها”، ولتصبح بقدرة قادر في عام 2011م من قبل نفس المجلة “قارة ناهضة”، أو أنها أرض الأسود المتحركة؛ في وصف بلاغي ورد في تقرير شركة ماكينزي للاستشارات.
بالمثل ألم تصبح الصومال في الإدراك الغربي مرادفًا لأعمال القرصنة، والإرهاب، والإسلام السياسي المتشدد، وانهيار الدولة، وأمراء الحرب، والاغتيال السياسي، واستمرار الأزمات الإنسانية والتشرد الداخلي والهجرة القسرية وهلم جرا؟ بالطبع هناك صورة أو صور أخرى للصومال غير تلك التي يروِّج لها الإعلام الغربي ومن سار على نهجه. بالطبع، الوضع الصومالي نفسه يحتاج إلى إعادة نظر من أجل الوصول إلى فهم أكثر دقة للواقع. ففي الوقت الذي تتبنى فيه الافتراضات السائدة رواية تشاؤمية واحدة، نجد أن الوضع في أرض الواقع يختلف بشكل ملحوظ، وأن هناك ما يدعو للأمل في النهوض والاستقرار.
تتمتع جمهورية صوماليلاند، التي أعلنت استقلالها من جانب واحد عام 1991م، بفترات طويلة من الاستقرار النسبي. عندما زرت هرجيسا العاصمة منذ عدة أعوام وجدت كل مظاهر الدولة المستقرة منذ أول لحظة وصلت فيها إلى المطار. فالإقليم لديه عملته الخاصة وجواز سفره وجيشه ونظامه القانوني.
وثمة تداول حقيقي للسلطة من خلال انتخابات تنافسية حقيقية؛ حيث يكون الفارق في الأصوات محدودًا في كثير من الأوقات. وعلى عكس العديد من البلدان الإفريقية الأخرى، يتم احترام النتائج، حتى عندما تفوز المعارضة. لقد قدمت صوماليلاند نموذجًا يُحتذى في تحقيق المصالحة الوطنية وبناء مؤسسات الدولة بعد مرحلة الصراع اعتمادًا على الجهود الذاتية ومؤسسات المجتمع المدني. ففي الوقت الذي كانت تعقد فيه مؤتمرات المصالحة الصومالية خارج الصومال وبرعاية أجنبية، انخرط شعب صوماليلاند في مشاورات عديدة تحت أشجار السنط، حتى توصلوا إلى اتفاقات سلام بين العشائر ووضع أسس عمليات التقاضي بشأن الأراضي.
ولا شك أن أحد الإبداعات الكبرى في ديموقراطية صوماليلاند الجديدة هي إدماج النظام التقليدي من خلال تأسيس الغرفة العليا من البرلمان وتضم “شيوخ القبائل” والتي تتمتع بسلطة البتّ في منع النزاعات العشائرية والقبلية. وقد تمكنت حكومة صوماليلاند ببراعة فائقة من التخلص من خطر القراصنة والشباب المجاهدين سواء بسواء.
لقد نجح اقتصاد صوماليلاند في الحصول على دعم كبير بعد أن وافقت موانئ دبي العالمية على استثمار 442 مليون دولار لتوسيع ميناء بربرة المطل على خليج عدن، وهو خط شحن مزدحم، بالإضافة إلى إنشاء منطقة تجارة حرة في بربرة على غرار المنطقة الموجودة في جبل علي بدبي.
وسيساعد المشروع الجديد أيضًا إثيوبيا غير الساحلية، وهي أكبر اقتصاد في المنطقة، في الحصول على طريق بديل إلى خطوط الشحن العالمية. إننا أمام نموذج يختلف عن حالات الدول الفاشلة الأخرى التي حظيت باعتراف المجتمع الدولي مثل أريتريا وجنوب السودان. فصوماليلاند من الناحية القانونية إقليم يتمتع بالحكم الذاتي.
وعلى الرغم من أنها تستوفي معظم المعايير الدولية لقيام الدولة بما في ذلك وجود حكومة دستورية منتخبة شعبيًّا تمارس أعمال السيادة على حدودها، وتدير بعض الأصول العامة، وتفرض الضرائب، وتتدخل في آليات السوق، وتصوغ سياسات التنمية وتوفر الأمن لمواطنيها؛ فإنها أشبه بالرجل البالغ الرشيد الذي لا يمتلك شهادة ميلاد أو كما يقول أهل الخليج العربي “بدون”.
وعلى أي حال، فإن بعض ملامح الصورة النمطية عن الصومال غير صحيحة حتى في الجنوب. لقد تم اتخاذ بعض الخطوات المحدودة ولكنها مهمة نحو تحقيق الاستقرار في الصومال. تشمل هذه الخطوات انتخاب محمد عبدالله فارماجو رئيسًا في فبراير 2017م، وهو ما يمثل ثالث انتقال سلمي متتالٍ للسلطة منذ إنشاء حكومة الصومال الفيدرالية في عام 2012م. كما استطاع عدد من جوانب بيئة الأعمال النهوض والازدهار في وضع تكون فيه سيطرة الدولة في حدها الأدنى. وعلى الرغم من أن البنية التحتية في جميع أنحاء القرن الإفريقي -بما في ذلك الصومال الكبير- غير كافية على الإطلاق لتلبية الحد الأدنى من المتطلبات الأساسية، فإن صورة الفوضى التي لا نهاية لها والكوارث الإنسانية غير صحيحة.
تساعد الاكتشافات النفطية يقينًا على تغيير تلك الصورة النمطية عن الصومال. وبالفعل في 2 ديسمبر 2018م، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية عن إعادة تشغيل بعثتها الدبلوماسية الدائمة في الصومال، أي بعد نحو ثلاثة عقود من إغلاقها بعد بداية الحرب الأهلية الصومالية في عام 1991م.
وقد أعقب الإعلان بيان من السفير الجديد، دونالد ياما موتو، بأن الولايات المتحدة سوف تستثمر 900 مليون دولار في السنوات المقبلة “لخلق غد أفضل للشعب الصومالي”. إنها خطوة واضحة تعكس حقيقة التكالب الدولي الجديد على النفط والغاز الطبيعي في قرن إفريقيا الكبير. أضف إلى ذلك وجود دعوات أمريكية لمطالبة واشنطن بالاعتراف بحكومة صوماليلاند قبل أن يفعل الروس ذلك.
وبعيدًا عن التكالب الدولي المعتاد على نفط إفريقيا توجد مخاوف حقيقية من أن النفط، والصراعات حول إيراداته، وانعدام الأمن وعدم الاستقرار الذي يمكن أن يجلبه، قد يُفضِي إلى مزيد من عدم الاستقرار في منطقة تعاني من وضع الهشاشة الشديد. تشمل هذه المخاوف الفساد المرتبط بلعنة الموارد أو “المرض الهولندي”. حيث يشير هذا النموذج إلى أن الاستغلال المتزايد للموارد الطبيعية يدفع الأسعار إلى الارتفاع، مما يرفع كلفة المعيشة وتكلفة القيام بالأعمال غير النفطية، وهو ما يعني كذلك انخفاض في الصناعات التحويلية وغيرها من القطاعات.
لكن لعنة النفط الصومالي لا تتمثل في هذا الجانب فقط. مما يدعو إلى القلق، أن بعض مناطق استخراج النفط مثل حوض نوغ المتنازع عليها من قبل كل من بونتلاند وصوماليلاند. يشير هذا الموقف إلى ما يعتبره البعض التهديد الأكثر أهمية للأمن الإقليمي في المستقبل. ويتعلق مصدر القلق الآخر بخطر حركة الشباب؛ إذ ربما تصبح منشآت الاستخراج أهدافًا جذابة للهجمات الإرهابية من قبل حركة الشباب، أو أن تشكل مناطق النفط جُزرًا أمنية معزولة بفعل تدويل أمن المنشآت النفطية. على أن تجربة كل من بونتلاند وصوماليلاند في تحقيق التوافق العشائري لتوفير بيئة آمنة للحفر قد تطرح بديلاً مقبولاً لتأمين عائدات النفط.
وطبقًا لتقرير مجلة نيوأفريكان فإن إيرادات النفط الصومالي قد توفر فرصًا للتنمية الحقيقية إذا تم استغلالها من قبل قيادة لديها رؤية وتصور للمستقبل والتعلم من تجارب الدول النفطية في إفريقيا وخارجها. هناك العديد من الأمثلة على سوء إدارة الموارد الطبيعية مما يؤدي إلى الاعتماد المفرط على النفط كما في حالة فنزويلا، والهجرة القسرية المدفوعة بعوامل اقتصادية كما في حالة نيجيريا، وعدم المساواة الحادة في الدخل كما في حالة أنغولا.
ولعل الاختيار العقلاني الرشيد أمام الصوماليين يتمثل في تخفيض الدَّيْن العام الخارجي للصومال، والذي يبلغ حاليا حوالي 5 مليارات دولار. أما بالنسبة لإعادة التأهيل الاقتصادي، فلا يحتاج الصومال إلى إعادة اختراع العجلة. هناك بلدان عربية نفطية مثل دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والكويت تقدم أمثلة ناجحة لحسن إدارة الموارد والاستخدام الذكي لإيرادات النفط وتوفير مستوى معيشة مرتفع للمواطنين. وهنا يبرز التساؤل هل تعكس الصومال النفطية نفس خبرة الكويت والدول الخليجية الأخرى من حيث الاستفادة من العائدات النفطية في تحسين مستويات معيشة مواطنيها؟
هناك الكثير من التحديات التي ينبغي التعامل معها بحكمة ومسؤولية من منطلق فقه الأولويات. ولعل ذلك يشمل تطوير البنية التحتية، وخلق فرص عمل للشباب – نحو 70% من سكان الصومال هم أقل من 35 عامًا-، وتحسين الرعاية الصحية والصرف الصحي، وبناء القدرات على مواجهة الأزمات وإعادة توطين ما يربو على سبعمائة ألف لاجئ في كينيا وإثيوبيا.
من أجل مواجهة هذه التحديات لا يحتاج الصومال إلى خطة مارشال للعون المالي فحسب ولكنه يحتاج أيضًا إلى شراكات دولية تعاونية.
وباعتقادي أن عمليات إعادة الهندسة الاستراتيجية لإقليم القرن الإفريقي منذ مجيء أبي أحمد إلى السلطة وإصلاحاته التي تتجاوز الداخل الإثيوبي تعكس بعض ملامح الصورة الجديدة لقرن إفريقي مُعَوْلَم لا يخلو من بصمات أمريكية وصينية وربما إسرائيلية كذلك.