قامت رواندا في 26 فبراير 2019م، بإطلاق قمر صناعي أسمته “التوجه، أو الاتجاه طبقًا للغة الكينيارواندا” بالتعاون مع شركة بريطانية تدعى “وان ويب”. سيوفر القمر الصناعي اتصالاً بالإنترنت للطلاب في جزيرة نكومبو النائية في بحيرة كيفو.
ويصر الرئيس بول كاغامي، على معالجة مشكلة الاتصال بالإنترنت في المناطق الريفية؛ حيث يهدف إلى تحويل البلد من اقتصاد قائم على الزراعة ذات الدخل المنخفض إلى اقتصاد قائم على المعرفة، وتوفير الخدمات والانتقال إلى مصافّ دول الدخل المتوسط بحلول عام 2020م.
وعلى الرغم من النجاحات العديدة التي حققتها رواندا، ولا سيما من خلال مكافحة الفساد، وضمان الاستفادة من المساعدات الخارجية التي تمثل 30 إلى 40% من الميزانية العامة؛ فإن نموذجها التنموي لا يزال مثيرًا للجدل؛ إذ يرى البعض أنه مرتبط بشخصية الرئيس التسلطية الذي يمكن أن يُطلَق عليه الحاكم الأوتوقراطي الذي يمتلك رؤية وإرادة للتغيير.
لقد شهد العقد الماضي صعود رواندا كقوة اقتصادية إقليمية معتبرة. البعض أطلق عليها أسماء متعددة مثل “سنغافورة إفريقيا”؛ في مقارنة بين دور بول كاغامي مع لي كوان يو صانع نهضة سنغافورة، وهي تارة أخرى تُدعى “إسرائيل إفريقيا “؛ حيث تُعتبر خبرة الهولوكوست والخطر القادم من الجيران عوامل مشتركة في فكر النهضة في الحالتين.
جاء هذا النمو الهائل في أعقاب تجربة الروانديين مع واحدة من أبرز الفظائع الكبرى في تاريخ البشرية. وربما يعطي نجاح رواندا الاقتصادي الأمل لكثير من الدول الفقيرة -التي لا تتمتع بموارد طبيعية تنافسية- سواء داخل إفريقيا أو خارجها.
وتصر أدبيات التنمية بمرجعيتها الأوروبية على الجمع بين مسار النمو السياسي (الديمقراطي)، وبين مسار النمو الاقتصادي؛ من خلال نمط العلاقة الارتباطية بينهما، وإن ظل النقاش حول أيهما يسبق الآخر، أو أن الدول تسلكهما بالتوازي. بَيْدَ أنَّ رواندا تعيد هذا النقاش بشكل آخر من خلال فك الارتباط في فكر التنمية بين المسارين؛ فقد ازدهرت اقتصاديًّا على الرغم من غياب التعددية السياسية الحقيقية، وفي ظل قيادة أوتوقراطية واضحة المعالم.
في واقع الأمر؛ فإن المعجزة الاقتصادية للبلاد -إن صح التعبير-هي نتاج رؤية شخص واحد هو الرئيس بول كاغامي .
ولا شك أن جدلية السياسي والاقتصادي في فكر التنمية، وإمكانية إعطاء الأولوية لمسار النمو الاقتصادي كما تعكسها التجربة الرواندية، تطرح سؤالاً مهمًّا لباقي الدول الإفريقية، وما وراءها:
هل يمكن للبلدان التي شهدت في العقد الماضي صراعات ممتدة وأعمال احتجاج جماهيرية أن تتبنَّى النموذج الرواندي للنمو الاقتصادي؟
إنه نظام للتغيير الفوقي يتم التحكم فيه من أعلى قمة الهرم السياسي؛ حيث يقوم الزعيم هنا بدور محوري في تغيير قواعد اللعبة السياسية، وتحقيق الرقابة، ومحاربة الفساد.
والمعروف أن دور الزعيم الفرد في قيادة أمته أثناء لحظات التحول الثوري، أو زمن الملاحم النضالية الوطنية لا يتعارض مع حقائق التاريخ والسرديات البطولية في حياة الأمم والشعوب. لقد كان نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا رمزًا أسطوريًّا لحركة النضال الوطني ضد نظام الفصل العنصري، ولكنه مع ذلك قدَّم النموذج والمثل ورفض الترشح لولاية ثانية.
وعلى العكس من ذلك تمامًا نجد روبرت موجابي الذي أسهم بدور بارز في حرب التحرر الوطني، وقيادة حزبه بعد الاستقلال، ولكنه ظل متمسكًا بأهداب السلطة حتى بلغ من العمر عتيًّا. ويبدو أن النموذج السائد إفريقيًّا هو السير على خطى موجابي وليس مانديلا، وعدم التخلي عن السلطة طوعًا. ولعل ذلك التقليد الإفريقي المتعلق بالتمسك بالسلطة قد ينال في نهاية المطاف من جاذبية النموذج الرواندي.
بغض النظر عن الجدل السائد بشأن التجربة الرواندية؛ فإنها تمثل قصة نجاح إفريقية؛ فقد حققت رواندا تقدمًا ملحوظًا بلغ 8٪ من معدل النمو الاقتصادي منذ عام 2001م. كما أنها أيضًا واحدة من الدول الإفريقية القليلة التي استطاعت تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية بخفض نسبة الفقر المدقع إلى النصف منذ عام 2015م، ولديها أعلى نسبة تمثيل للمرأة في البرلمان (نحو 64٪).
ومع ذلك؛ يرى كثير من دارسي الاقتصاد السياسي، مثل الاقتصادي الغاني جورج أيتي، أن التحدي المطروح يتعلق بعنصر الاستدامة، ولا سيما في مرحلة ما بعد الرئيس كاغامي لعدة أسباب:
أولاً: تم تعزيز الانتعاش الاقتصادي من خلال ضخ كميات كبيرة من المعونات الغربية، وهي عرضة للتبدل والنقص مستقبلا؛ إذ لا يمكن بناء نموذج تنموي مستدام من خلال التعويل على المساعدات الخارجية بشكل دائم.
ثانيًا: النموذج الاقتصادي الذي تبناه الرئيس كاغامي، والقائم على المساعدات الغربية، قد لا تستطيع باقي الدول الإفريقية أن تحاكيه. على الرغم من أنه نفس النموذج الذي تبنته دول النمور الآسيوية، أو نموذج الزعيم الراحل لسنغافورة؛ لي كوان يو. إنه نموذج للتنمية الاقتصادية في ظل الحكم الاستبدادي، أو انتهاج مسار التحرر الاقتصادي قبل الإصلاح السياسي.
إن نموذج النمور الآسيوي غير مناسب لإفريقيا، ولا يمكن استنساخه؛ لأن ظروف وطبيعة القارتين مختلفة إلى حد كبير.
ولا يخبرنا تاريخ إفريقيا ما بعد الاستعمار أن أيّ دكتاتور ـ مدنيًّا كان أم عسكريًّا أو شبه عسكري ـ قد تمكن من تحقيق الرخاء الدائم في أيّ بلد إفريقي.
لقد أظهرت مرحلة ما بعد الاستقلال شكلاً بارزًا من أشكال الزعامات الشعبوية، والذي كان بمثابة استراتيجية للتنمية الوطنية المعادية للاستعمار بأشكاله المختلفة.
وقد حاول الشعبويون الأوائل في إفريقيا تبنّي نهج الاشتراكية الإفريقية، سواء بالاعتماد على مفاهيم المشاعية التقليدية أو الماركسية اللينينية، أو كلا الأمرين معًا. ولعل اشتراكية سيكوتوري، وجماعية نيريري، وإنسانية كاوندا وهارمبي (أي: نعمل معًا)؛ تعد جميعها أمثلة بارزة لهذا التيار الشعبوي الاشتراكي بعد الاستقلال.
وقد اتسم هذا النمط بالتأكيد على مفاهيم الوطنية، ومعاداة الرأسمالية، وتمجيد الشعب، والتأثر بالتوجهات السياسية الماركسية. وعليه فإنَّ معظم الزعماء الأفارقة الذين ينتمون إلى هذا النمط قد قادوا حركة التحرر الوطني في بلادهم. ولكن هؤلاء جميعًا فشلوا في تحقيق نموذج تنموي مستدام.
صحيح أن الديمقراطية الحقيقية ليست ضرورية من أجل هندسة المعجزة الاقتصادية؛ كما تخبرنا تجربة الصين ونموذج النمور الآسيوية، لكن الواقع الإفريقي مختلف جدًّا. فتجارب التنمية الناجحة والمستدامة تشهدها دول ديموقراطية تعددية -بوتسوانا وموريشيوس- وليست دولاً تسلطية.
إن انتهاج سياسات التحرر الاقتصادي تشكل وجهًا واحدًا فقط للإصلاحات اللازمة لتحقيق الانتقال الديموقراطي. أما الوجه الآخر فيؤكد على مفاهيم الإصلاح السياسي والدستوري والمؤسسي. ولا شك أن هذا الجدل حول أولوية الاقتصادي على السياسي في مسارات التنمية أشبه بوضع العربة أمام الحصان.
وعليه فإن فكرة وجود “المستبد العادل” لتعزيز الدولة الديمقراطية التنموية في إفريقيا لها تاريخ طويل يسبق التجربة الرواندية. لقد بدأت مع الآباء المؤسسين بعد الاستقلال مباشرة، وربما يُعزَى ذلك، ولو جزئيًّا، إلى أنها تتسق مع نمط الحكم الشخصي الذي يقوم على أساس تقويض الضوابط والتوازنات الدستورية التي تحول دون الاستبداد بالسلطة. بَيْدَ أنَّ واقع الخبرة الإفريقية لا يقدم دليلاً على أن الحكومات السلطوية تؤدي أداءً أفضل بمعيار التنمية والحكم الرشيد. ألم نذكر أن بوتسوانا وموريشيوس تفوقت منذ ثمانينيات القرن الماضي على كافة الأنظمة الاستبدادية في القارة.
وباستثناءات محدودة -ربما تكون رواندا من بينها-؛ فإن الحكومات الاستبدادية تعمل بشكل أسوأ في مجال الحكم والتنمية الاقتصادية. لذلك يتعين علينا فهم السياق الإفريقي بتعقيداته المختلفة، وأنه يختلف عن نمط التنمية الآسيوي، وهو الأمر الذي يفرض ضرورة مراجعة مفهوم المستبد العادل؛ كضرورة لتحقيق الانتقال السياسي المطلوب في إفريقيا. ولعل تجربة الرئيس جون بومبيه ماغوفولي، وتوجهاته السلطوية في تنزانيا تحتاج إلى مزيد من الدراسة.
يرى بعض النقاد أنَّ حملة الرجل الذي وُصِفَ بالبلدوزر في مكافحة الفساد كانت مجرد خدعة، وأنه تم استخدام عمليات الإقالة والملاحقات القضائية لكبار المسئولين والموظفين لإخفاء الفساد المستمر؛ إذ يشير تحقيق خاص إلى أن مئات الملايين من الدولارات ربما تكون قد اختفت بالفعل في عهد الرئيس ماغوفولي نفسه.
وعليه قد تكون التضحية بالديمقراطية من أجل التنمية أمرًا لا معنى له؛ فالنتيجة -والحالة هذه- لا تعني انتهاك حقوق المواطنين السياسية فحسب، ولكن من المرجح أن يصبحوا أكثر فقرًا.
وعمومًا تظل مسألة الحاكم المستبد صاحب الرؤية مسألة فيها نظر في السياق الإفريقي بخصوصيته الثقافية وواقعه التعددي بالغ التعقيد.