نشر المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية (SWP) تقريرًا في التبويب الخاص بمشروع “Megatrends Afrika” لكلٍّ من: دكتورة أنطونيا فيت -رئيسة مجموعة أبحاث سياسة التدخل الإفريقية في معهد أبحاث السلام في فرانكفورت(PRIF) -، والبروفيسور الدكتور كريستوف هارتمان -أستاذ العلاقات الدولية والسياسة الإفريقية ومدير معهد التنمية والسلام (INEF)-، والبروفيسور الدكتور أولف إنجل -أستاذ السياسة في إفريقيا، جامعة لايبزيغ-. ويُشرِف المؤلفون الثلاثة معًا على شبكة الأبحاث الخاصة بممارسات التدخل في النزاعات غير العسكرية في إفريقيا، بتمويل من الوزارة الاتحادية للتعليم والبحث العلمي.
يسوق التقرير بعض الحقائق والرؤى التي تبحث في آفاق التعاون مع المنظمات الإقليمية الإفريقية، والتأكيد على ضرورة أن يتسم هذا التعاون بأبعاد أكثر إستراتيجية؛ بما يعضد من دورها في صياغة وبلورة المواقف المشتركة للدول الأعضاء، ومِن ثَم تيسير سُبُل تطبيقها بشكل ملموس.
تقرير: أنطونيا فيت، كريستوفر هارتمان، أولف إنجل
ترجمة وتقديم: شيرين ماهر
على مدار سنوات عديدة؛ ظل التعاون مع المنظمات الإقليمية الإفريقية راسخًا في السياسة الألمانية تجاه إفريقيا. وينطبق ذلك على كلٍّ من الاتحاد الإفريقي، وما يسمى التجمعات الاقتصادية الإقليمية في إفريقيا، مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، أو مجموعة شرق إفريقيا، أو مجموعة تنمية الجنوب الإفريقي.
ولكن على مدار السنوات العشر الماضية، نادرًا ما تضمَّنت أوراق الإستراتيجية الألمانية المتعددة بشأن إفريقيا إشارة إلى أهمية هذه المنظمات؛ على الرغم من أنها تظل في كثير من الأحيان مرجعًا عامًّا. ولكن ليس من الواضح أيّ من المنظمات غير الإقليمية الثماني المُعتَرف بها رسميًّا مِن قِبل الاتحاد الإفريقي ذات ثقل خاص يناسب آفاق الشراكة.
وفي لائحة المبادئ التوجيهية لسياسة إفريقيا الصادرة عن الحكومة الفيدرالية، اعتبارًا من عام 2019م، جرى تسمية المنظمات الإقليمية الإفريقية كــ “شركاء مركزيين” في نطاق واسع من مجالات السياسة، وكذلك في معالجة التحديات العالمية.
وتهدف الإستراتيجية الجديدة لإفريقيا التي وضعتها الوزارة الاتحادية للتعاون الاقتصادي والتنمية لعام (2023م) إلى دعم أجندة الاتحاد الإفريقي 2063م بحزمة من التدابير السياسية والهيكلية التي تهدف إلى “توسيع آفاق التعاون مع المنظمات الإفريقية القارية والإقليمية”. كما تؤكد المبادئ التوجيهية لمنع الأزمات، وكذلك المبادئ التوجيهية الإستراتيجية لوزارة الدفاع الفيدرالية بشأن السياسة الإفريقية، على الدور المركزي لأنظمة الإنذار المبكر الإقليمية والوساطة في إطار هيكل السلام والأمن الإفريقي.
وعلى عكس هذه الخلفية، كان من اللافت للانتباه عدم ذِكْر إستراتيجية الأمن القومي لعام 2023م المنظمات الإقليمية الإفريقية كشركاء أساسيين على الإطلاق. كما لا توجد إشارة إلى المنظمات الإقليمية في المفاهيم الإفريقية للوزارة الاتحادية للشؤون الاقتصادية وحماية المناخ.
وذلك يشير بالفعل إلى أن الحكومة الفيدرالية الحالية والسابقة تحدّد، بشكل إستراتيجي، أُطر التعاون مع هذه الجهات الفاعلة في سياسة التنمية ومنع الأزمات وإدارة النزاعات والهجرة، ولكن يبدو هذا التضييق على عملها غير ضروري. خاصة في ضوء أنه اعتبارًا من عام 2021م، صارت منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية أحد المشاريع ذات الأولوية للاتحاد الإفريقي، لتكون محورية في سياق التعاون الاقتصادي المستقبلي مع الدول الإفريقية. ويظهر أيضًا أن التعاون مع المنظمات الإفريقية يُحرّكه، بقوة، منطق الإدارات، ولا يلبي (حتى الآن) متطلبات العمل المشترك فيما بين الإدارات.
الأوضاع العالمية تتغير:
في السنوات الأخيرة، ظهرت ديناميكيات وظروف إطارية جديدة في علاقات ألمانيا مع إفريقيا. وقد اكتسبت المفاوضات حول إرساء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، والتي بدأت بعد نهاية الحرب الباردة وفترة هيمنة الولايات المتحدة في التسعينيات، زخمًا جديدًا تحت وطأة جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا.
وعلاوة على المواد الخام والطاقة، فمن وجهة نظر الغرب، يبدو أن الأمر يتعلّق، في الأساس، بالدعم الدبلوماسي لمواقف الدول الإفريقية فيما يتعلق بالقضايا العالمية؛ حيث لا يزال دور المنظمات الإقليمية متناقضًا؛ من خلال انضمامه إلى مجموعة العشرين (سبتمبر 2023م)، تم الاعتراف بالاتحاد الإفريقي الآن على المستوى العالمي كممثل للمصالح الإفريقية خارج الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ومن ناحية أخرى، يجد كل من الاتحاد الإفريقي والمنظمات الإقليمية صعوبة متزايدة في فرض معاييرهم الخاصة والدفاع عن النجاحات السابقة في مجال إرساء الديمقراطية، كما ظهر مؤخرًا في التعامل مع الانقلابات العسكرية في غرب إفريقيا.
لقد أصبح من غير الواضح أيضًا ما هي الأجندة التي تمثلها المنظمات الإقليمية الإفريقية على المستوى الخارجي. وعلى الرغم من النجاحات الفردية المهمة، مثل المواقف المشتركة بشأن إصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أو جدول أعمال ما بعد عام 2015م، أو اتفاقية الأمم المتحدة الضريبية؛ فإن الاتحاد الإفريقي والمجموعات الاقتصادية الإقليمية غالبًا ما يجدون صعوبة في بلورة مواقف مشتركة يمكن أن تدير دفَّة علاقاتهم مع بقية دول العالم.
ويتعين على كلّ مَن أراد حماية وتعزيز نظام متعدد الأطراف قائم على القواعد الدولية؛ أن يبني على الإنجازات الإفريقية في مجال التعددية. وعلى الرغم من كل تداعيات الأزمة الحالية، وفي ظل الوضع الجيوسياسي، فقد انتهى زمن الالتزامات العامة دون دعم إستراتيجي. وعلى هذه الخلفية، ندعو إلى توجه أكثر إستراتيجية وتشاركية بين الإدارات للتعاون مع المنظمات الإقليمية الإفريقية في المستقبل، والذي يقيم بشكل واقعي إمكانات هذه المنظمات ونقاط ضعفها في محاولة تقديم اقتراحات حول كيفية تنظيم مسارات التعاون في المستقبل.
جهات سياسية فاعلة:
يجب إيلاء المزيد من الاهتمام بالمنظمات الإقليمية (وخاصة الاتحاد الإفريقي هنا) أكثر من أيّ وقت مضى، ليس فقط كشركاء فنيين، ولكن كعناصر سياسية فاعلة؛ باعتبارها منتديات يتم التفاوض بين أروقتها على الاهتمامات السياسية المثيرة للجدل، وكممثلين للمصالح المشتركة التي تشمل أيضًا ألمانيا أو أوروبا.
إن إدراك ذلك هو في الأساس مسألة تتعلق بتحديد المواقع الدبلوماسية، وليس الدعم المادي. وكان الدعم الألماني لعضوية مجموعة العشرين في الاتحاد الإفريقي بمثابة خطوة مهمة. وسوف تؤخذ المصالح والمطالب الإفريقية في الفضاء العالمي بعين الاعتبار بشكل أفضل في المستقبل. كما يمكن أن تشمل الموضوعات المهمة للسنوات القادمة، والتي قد يلعب الاتحاد الإفريقي دورًا مركزيًّا فيها، تخفيف عبء الديون وإصلاح الهيكل المالي العالمي، والتوسع الحضري وتيسير تداول الطاقة، فضلًا عن توسيع إدارة الصحة الإقليمية. والمطلوب هنا هو دعم دبلوماسي واضح يتجاوز عضوية مجموعة العشرين.
وبالنسبة للعديد من الدول الإفريقية الصغيرة تحديدًا، تظل المنظمات الإقليمية هي الفرصة الوحيدة للتعبير عن شواغلها على نطاق عالمي وإيصال صوتها. وفي الوقت نفسه، لا تجتذب أسواق هذه الدول الأصغر حجمًا الاستثمارات إلا بالكاد، وحكوماتها تظل الأقل قدرة على معالجة التهديدات الأمنية العابرة للحدود الوطنية والعواقب المترتبة على تغير المناخ.
وخلال جائحة كورونا، أظهرت المنظمات الإفريقية -سواء الاتحاد الإفريقي، أو على المستوى دون الإقليمي، مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا- قدراتها كمنتديات متعددة الأطراف. وفي غضون فترة قصيرة، أرسى الاتحاد الإفريقي سياسة مشتركة لمكافحة الوباء ونفَّذها بنجاح في دوله الأعضاء مع المركز الإفريقي لمكافحة الأمراض والوقاية منها. ويُعد افتتاح أول موقع إنتاج للقاحات المعتمدة على الحمض النووي الريبوزي المرسال في رواندا في ديسمبر 2023م أيضًا بمثابة نجاح لهذه السياسة، التي ناضلت من أجل توزيع أكثر عدالة للقاحات وحقوق الإنتاج منذ البداية.
تعزيز المنظمات الإقليمية كجهات نافذة:
وعلى النقيض من الاعتراف الدولي الذي تتلقاه المنظمات الإقليمية الإفريقية من الخارج، فإن الدعم الاجتماعي الذي تحظى به في الدول الأعضاء منخفض إلى حد ما. وفي استطلاعٍ أجراه مرصد “أفروباروميتر” عام 2016م، أفاد 17.9% فقط من المشاركين أن الاتحاد الإفريقي يساعد بلادهم كثيرًا، فيما شعر أكثر من 30% من المشاركين أنهم ليس لديهم ما يكفي من المعرفة للإجابة عن هذا السؤال.
كما يرى كثير من الناس في القارة أن المنظمات الإقليمية هي مشاريع نخبوية بحتة، و”منابر للخطابة” و”اتحادات لرؤساء الدول”، تتجاهل احتياجات السكان، ليقتصر نشاطها الأساسي على عقد اجتماعات القمة بشكل منتظم.
وبالنسبة للعديد من الأفارقة؛ فإن هذه الاجتماعات رفيعة المستوى تمثل الموقف اليومي الوحيد الذي تصبح فيه المنظمات الإقليمية مرئية بشكل حقيقي، فيما تظهر الأبحاث أيضًا أن هذا المنظور يمكن أن يتغير عندما تصبح المنظمات أكثر وضوحًا وملموسة للسكان.
فعلى سبيل المثال؛ أدى بروتوكول حرية الحركة الذي أقرَّته الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا إلى النظر إلى الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا على المستوى المحلي باعتبارها أقرب وأكثر أهمية من الاتحاد الإفريقي، على الرغم من أن تنفيذ البروتوكول لا يزال بعيدًا عن الكمال.
وفي المستقبل، سيكون من المهم دعم المنظمات الإقليمية الإفريقية؛ ليس فقط باعتبارها ساحات سياسية، بل وأيضًا باعتبارها جهات فاعلة نافذة. كذلك يجب أن تكون البرامج مرئية محليًّا، وتساهم في تحسين الظروف المعيشية بشكل ملموس. ولتحقيق هذه الغاية، من الممكن البدء في المزيد من التعاون مع بنك التنمية الإفريقي، وألمانيا عضوة فيه، ومن الممكن تعزيز المزيد من التعاون على مستوى الدول الأعضاء مع العديد من الوكالات المتخصصة التابعة للمنظمات الإقليمية الإفريقية (مثل جامعة عموم إفريقيا). أو المجلس الرياضي للاتحاد الإفريقي أو منظمة الصحة لغرب إفريقيا). وتتيح الأخيرة، تحديدًا، فرصًا لمزيد من العمل المشترك عبر الإدارات.
تحسين الحضور المحلي والتواصل بين المنظمات الإقليمية:
على مدى العقود الماضية، أصبحت العديد من المنظمات الإقليمية مراكز احترافية تعمل على حشد الخبرات، وخاصةً من خلال الدعم الدولي. وقد عزّز هذا، في الأساس، اللجان ومجالس الأمانات. ولم يتم استثمار الكثير في الهياكل في الدول الأعضاء نفسها.
ولكي تصبح هذه الهياكل أكثر وجودًا على المستوى المحلي، كما هو موضح أعلاه، ستكون هناك حاجة ماسة إلى تدشين مثل هذه الهياكل في المستقبل. وهذه ليست توصيات جديدة. فمنذ عدة سنوات، كان لدى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا ممثلون في كل دولة عضو، والذين يمكنهم العمل بنجاح من أجل بلورة رؤية محلية أكثر نفاذًا والتواصل مع السكان.
وفي المستقبل، لن يتمكن التعاون الألماني مع المنظمات الإقليمية في القارة من دعم هذه الهياكل ماليًّا وتقنيًّا فحسب، بل وأيضًا إشراكها بشكل أوثق في أنشطة السفارات المحلية.
توظيف دور ألمانيا كـ “شريك دائم” للإصلاحات:
بفضل عقودها من الدعم المُقدَّم للمنظمات الإقليمية، تمتلك ألمانيا رأس مال كبير في القارة، الأمر الذي يُمكِّن الحكومة الفيدرالية من إنشاء نقاط تشابك وتكوين تحالفات مع جهات فاعلة إفريقية متباينة من داخل نطاق أيديولوجي واسع (أنصار الوحدة الإفريقية، أو مؤيدو الإقليمية التنموية، أو المؤيدين الليبراليين لمنطقة التجارة الحرة الإفريقية). وكل هذا سيبقى على حاله حتى في مرحلة جديدة متعددة الأقطاب.
ويُنظر إلى هذا الدعم الألماني للمنظمات الإقليمية في القارة على أنه محايد نسبيًّا ومُوجّه نحو إحراز نتائج ملموسة، أي أنه يتأثر نسبيًّا بالمصالح الوطنية الألمانية الضيقة.
ومن المعروف جيدًا في مراكز المراقبة التابعة للمنظمات الإقليمية أن الاتحاد الإفريقي أو المجموعات الاقتصادية الإقليمية يمثل بالنسبة لألمانيا أكثر من مجرد فرصة سانحة للتعاون المتعلق بالمشروعات على المستوى الإقليمي.
ومِن ثَم فإنَّ ألمانيا شريك جدير بالثقة، ولكنها تتمتع أيضًا بشبكات وقنوات نفوذ -لم يتم استخدامها بعد بشكل منهجي كافٍ- للمساهمة في مواصلة تطوير أداء المنظمات الإقليمية الإفريقية.
_______________________
رابط التقرير: