في مدينة بلانتاير بمالاوي، اصطف عدد من الفلاحين حول أعواد مبللة رتبت بالتتابع مع أكوام من روث الدجاج في شكل مكعبات، لكن ناتج هذه العملية قد يساعد في تغيير مستقبل أفريقيا بأسرها.
وبعد ثمانية أسابيع من التقليب المستمر ستتخمر تلك المادة لتتحول إلى سماد عضوي مفيد للتربة وزهيد الثمن بما يقلل الاعتماد على الأسمدة الكيماوية الباهظة وغير المتوفرة أحيانا.
يقول يوهان فان ديرهام، مدير إحدى المزارع، إن السماد العضوي ناتج عن عملية تخمر تعتمد على ترطيب السماد بين الحين والآخر، إلى جانب الحرارة الناجمة عن وضع أكوام فوق بعضها البعض. وهناك خطة لتعليم المزارعين كيفية إنتاجه ومن ثم تعميمه.
وتستهدف هذه التجربة توفير السماد العضوي لصغار المزارعين الذين يعتمدون بشكل كامل على إنتاجهم الزراعي. يقول فان ديرهام: “دون حصاد عام واحد سيعاني هؤلاء المزارعون الجوع والبؤس، أو ما هو أسوأ من ذلك، لأن تخصيب التربة ليس من الكماليات بالنسبة لهم، لكنه مسألة حياة أو موت”.
سماد المستقبل
وتفتقر أغلب التربة في أفريقيا إلى الخصوبة المطلوبة، فعلى مدار ملايين السنين تصحرت الطبقات الأكثر خصوبة للتربة وتعرت الأرض. وفي مناطق أفريقيا جنوب الصحراء، أسهمت زراعات الذرة على نطاق واسع في إضعاف التربة أكثر.
ويحتاج النبات للماء وأشعة الشمس والهواء، فضلا عن مغذيات التربة من نيتروجين وبوتاسيوم وفوسفور وغيرها، وجميعها ضرورية للغاية، لكن الفوسفور، الذي يُستخرج من خام الفوسفات الصخري، على وجه التحديد له أهمية خاصة، إذ يحتاجه النبات في مراحل نموه الأولى لمد جذوره والتي بدونها لن يمكنه امتصاص المغذيات الأخرى.
ولا يمكن للمزارعين في أفريقيا تعويض الفاقد من الفوسفور بالتربة، وبالتبعية على باقي السكان، خاصة في بلدان مثل مالاوي التي يعمل بها نحو 80 في المئة من العاملين في مجال الزراعة.
وفي الوقت الراهن، تستمد المحاصيل الزراعية الفوسفور في هيئة أسمدة كيماوية، لكن توافر تلك الأسمدة أصبح على المحك، وخاصة بعد ارتفاع أسعار الفوسفور في عام 2008 بشكل كبير نتيجة ارتفاع أسعار الخام الصخري، الذي تستخرج منه تلك المادة، بنسبة 800 في المئة!
وتقول دانا كورديل، باحثة بمعهد المستقبل المستدام بجامعة سيدني للتكنولوجيا والمشاركة في تأسيس المبادرة الدولية لبحوث الفوسفور: “استفاق الكثيرون على وقع تلك الصدمة. وقبل عام 2008، لم يكن أحد يتخيل أن تحدث أزمة في الحصول على الفوسفور.” وتبحث كورديل الآن السبل التي ستلجأ إليها مالاوي للتعامل مع تحديات نقص هذه المادة.
ومنذ ذلك الحين، أجريت دراسات عدة لتقدير المتوافر من خام الفوسفات الصخري عالميا. وجاءت النتائج متباينة، أذ أشارت دراسات إلى تدني المستخرج من الفوسفات بعد 30 عاما، في حين قالت دراسات أخرى إن ذلك المعدن سيظل متوفرا لمدة 300 عام. وتتفاوت التقديرات بشدة حسب جودة الخام وتطور تقنيات التعدين، ولأن الكثير من المنتجين أخفوا البيانات خشية المنافسة.
وحتى لو وجد من الفوسفات ما يكفي قرونا، فهناك مشكلات أخرى بسبب تركيز الخام في مناطق معينة حول العالم. تقول كورديل عن ذلك: “بينما تحتاج البلدان ويحتاج المزارعون كافة للفوسفات، تسيطر خمس دول فقط على 88 بالمائة من الاحتياطي المتبقي منه”، فالمغرب وحده يمتلك ما يقدر بـ 75 في المئة من احتياطي الفوسفات في العالم، ويتواجد بعضه في منطقة الصحراء الغربية المحتلة.
وبالنسبة للمستوردين، فإن تركيز الخام في مناطق معينة يسبب العديد من المشكلات التجارية على المدى القصير وأخرى تتعلق بالأمن القومي على المدى البعيد، حسب كورديل.
وبالطبع، يكون الوضع أسوأ بالنسبة لبلد صغير كمالاوي لا يطل على بحار أو محيطات ويعتمد بالكامل على الاستيراد ويتأثر أكثر بتذبذب الأسعار الدولية وبالسوق العالمي للمنتج.
وما يزيد الأمر سوءا هو أنه يتعين على الفلاحين شراء السماد في بداية موسم الزراعة، وهو الوقت الذي لا يُعرف خلاله مدى تأثير عوامل أخرى مثل الجو والآفات، وهو ما يعني أن المزارع قد ينفق كل ما لديه على شراء السماد ثم تأتي الآفة لتأكل المحصول، وبالتالي يكون شراء السماد أشبه بمقامرة!
وفي عام 2005، أطلقت الحكومة في مالاوي مبادرة لمساعدة المزارعين في الحصول على السماد، ما أدى لزيادة الحصاد خلال السنوات الأولى للمبادرة قبل أن يقف الحصاد عند معدلات ثابتة.
وأصبح واضحا أن حل مشكلة الفوسفات في مالاوي يتطلب أكثر من مجرد توفير السماد الكيماوي.
كيمياء السماد العضوي
تتسم التربة في مالاوي وأغلب أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء بأنها حمضية، وهو ما يعني أن معظم أيونات الفوسفات ترتبط بسرعة بأكسيد الحديد أو الألومنيوم قبل أن يستفيد بها النبات. وحتى لو سُمِّدت التربة بكثير من الفوسفات، لا يمكن للزراعة الاستفادة به، وهو ما يعني أنه يلزم تغيير قوام التربة قبل وضع المخصبات الكيماوية.
لكن السماد العضوي ينجح في القيام بما فشل فيه السماد الكيماوي، وذلك لأن السماد العضوي لا يكتفي بإمداد التربة بالفوسفور والمغذيات الحيوية الأخرى، لكنه يُعدِّل أيضا قوام التربة عبر إضافة مواد عضوية.
يقول فان ديرهام إن التربة الصحية ليست مجرد حفنة من الطمي والأسمدة، لكنها تنطوي على منظومة بيئية حية يجب الإبقاء عليها عن طريق توفير مواد عضوية تغذي الكائنات الدقيقة والحشرات والفطريات والديدان التي تقوم بالعديد من الوظائف، ومنها تحليل الفوسفور وغيره من العناصر الأخرى في التربة حتى يتسنى للنبات امتصاصها.
وخلال التدريب، سأل فان ديرهام المشاركين عن تعداد سكان مالاوي، فقالوا إنه وصل إلى 19 مليون نسمة، فيرد عليهم قائلا إن “عدد الكائنات الدقيقة في ملعقة صغيرة من التربة أكثر من عدد سكان مالاوي بأسرها!”
وقد بدأ فان ديرهام بنفسه ولم يستخدم سمادا كيماويا في الحقول المسؤول عنها طيلة أكثر من ست سنوات، ويكتفي بتسميد الأرض بالفوسفور والمواد الأخرى عبر السماد الطبيعي والروث وبقايا النباتات.
سهل المنال
ومن فوائد السماد العضوي مقارنة بالكيماوي سهولة توافره. ويؤكد بيلي براي، رئيس فرع هيئة “ويست” الهولندية في مالاوي والمهتمة بتحسين شبكة الصرف الصحفي في المقام الأول، على أن إنتاج السماد العضوي يساهم في التخلص من النفايات وزيادة الدخل.
وتتعاون هيئة “ويست” مع المسؤولين المحليين في بلانتاير لإقامة منشأة رائدة لمعالجة مياه الصرف الصحفي. ويقول براي إنه يجري تشجيع السكان المحليين على تسويق السماد العضوي لتحقيق أرباح، وهو الأمر الذي سيساهم في زيادة استخدامه في نهاية المطاف.
لكن التوعية بالأمر تتطلب جهدا كبيرا. يقول إيمانويل كانجونجونجو، مسؤول الصحة والخدمات الاجتماعية في بلانتاير، إن الناس “لا يفكرون في استعادة مخصبات التربة في الوقت الراهن، فلديهم ما يكفيهم من المشاكل اليومية. ويتعين عينا كمسؤولين محليين التفكير قبل وقوع الأزمات وليس الانتظار لوقوع الأزمة ثم التعامل معها، وإلا فلن ننجح أبدا. يتعين علينا أن نخطط لعشر سنوات، بل لثلاثين عاما قادمة”.
وتهدف مؤسسة “ويست” لإنتاج ألف طن من السماد العضوي سنويا، ويقول براي: “لن يشتري المستهلكون الصغار منا في البداية، لكنهم سيسيرون على خطى المزارعين الكبار ويأتون إلينا بمجرد أن يروا النتائج.”
ويقول يوهان سيكس، أستاذ أنظمة الزراعة المستدامة بجامعة “إي تي اتش زيورخ”، إن حل مشكلة الفوسفات لا يكمن في إيجاد تقنيات حديثة فحسب، بل يلزم أن تكون هناك خطة متكاملة لقطاع الزراعة ككل.” ويدرس سيكس وزملاؤه مدى تأثر التربة بالوسائل الزراعية المختلفة، من تنويع المحاصيل والزراعة الحمائية وزراعة الغابات. ويقول إن هناك أدلة منذ وقت طويل على أن تلك الوسائل تساهم في إحداث توازن بالتربة.
وحتى وقت قريب، كان هناك تركيز على النيتروجين والكربون وإهمال الفوسفور بسبب صعوبة توافره. لكن الوضع بدأ يتغير، ويعمل العلماء الآن على دراسة تأثير الفوسفور على التربة لتوسيع نطاق الاستفادة بالوسائل المتاحة.