روضة علي عبد الغفار
صحفية متخصصة في الشأن الإفريقي
قالوا عنها: “قارة الفرص”، و”قارة المستقبل”، و”القارة البِكْر”، وقد تفردت القارة الإفريقية بالصراع الدولي المشتعل على أراضيها؛ نظرًا لمواردها الهائلة من النفط والغاز والمعادن الثمينة، وموقعها الإستراتيجي المتميز، وعليه تسعى الدول الكبرى لتعزيز نفوذها وتأمين مصالحها في هذه المناطق الحيوية في العالم.
لكن الجديد أن القارة تشهد لاعبين جددًا يتميزون بإستراتيجيات مختلفة في الشراكة مع القارة، مما أشعل المنافسة بين اللاعبين التاريخيين والجدد في إفريقيا ويتم تغيير معادلة النفوذ في القارة.
في بداية عام 2024م يبرز التساؤل عن مستقبل الصراع الدولي في إفريقيا في ضوء المتغيرات العالمية؛ فما أهداف تلك القوى الجديدة التي تبحث عن موطئ قدم لها في القارة السمراء؟ وهل ينحسر نفوذ اللاعبين التقليديين في إفريقيا مثل أمريكا وأوروبا؟ وكيف تحافظ إفريقيا على مصالحها وسط هذا الصراع المشتعل على أراضيها؟
هذا وأكثر تتناوله “قراءات إفريقية” في هذا التحقيق…
لاعبون جدد:
شهدت إفريقيا في السنوات الماضية دخول لاعبين جدد إلى ميدان المنافسة على موارد القارة، ففضلًا عن القوى التقليدية مثل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، نجد قوى صاعدة مثل الصين وروسيا وتركيا، وأيضًا إيران والهند وبعض الدول العربية.
ونظرًا لحجم المنافسة والأهمية الإستراتيجية لإفريقيا، يضع هذا تحديات جسيمة أمام القوى الساعية للنفوذ في القارة، فنجد الصين شريكًا مهمًّا للدول الإفريقية؛ بفضل إستراتيجيتها الاقتصادية العالمية والاستثمارات الضخمة في مختلف القطاعات ومشاريع البنية التحتية.
هذا وتسعى روسيا لتوسيع نفوذها من خلال الوجود الاقتصادي والعسكري، كما تُركِّز موسكو على أدوات التجارة والاقتصاد بوصفها مفاتيح لشراكة قوية مع إفريقيا. وترجمتْ هذا التوجهَ زيارةُ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2006م لبعض الدول الإفريقية برفقة وفد كبير من رجال الأعمال.
كما أصبحت تركيا طرفًا مؤثرًا في إفريقيا، بحكم ما حققته سياستها الخارجية خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، وما تزال تسعى لتعزيز وجودها من خلال التجارة والاستثمار، وتقديم المساعدة الإنمائية والتعاون الثقافي، كما مُنحت عضوية الاتحاد الإفريقي عام 2005م بصفة عضو مراقب، ثم سريعًا ما أصبحت شريكًا إستراتيجيًّا للاتحاد الإفريقي عام 2008م.
كما نجد الهند تسعى إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي مع الدول الإفريقية، والتي شهدت قفزات نوعية على كل الأصعدة مع إفريقيا خلال السنوات العشر الماضية؛ حيث بلغت الاستثمارات الهندية التراكمية في إفريقيا خلال الفترة من 1996م إلى 2022م نحو 74 مليار دولار، وهو ما يجعل الهند واحدة من أكبر خمسة مستثمرين في القارة.([1])
وفي دخولها على خط الصراع على القارة؛ سعت إيران لتوطيد علاقتها بإفريقيا، وحظيت باهتمام مُضاعَف في عهد حكومة “رئيسي”، الذي قام خلال الأشهر الماضية بجولة في عدد من الدول الإفريقية، ركَّز خلالها على تعزيز الدبلوماسية الاقتصادية وتسويق البضائع الإيرانية.
في هذا الصدد يرى أستاذ العلوم السياسية، د. حمدي عبد الرحمن، أن ما يحدث هو تكالب دولي جديد على إفريقيا يختلف عما سبقه من تكالب دولي في عصر تجارة العبيد أو في العصر الاستعماري أو في فترة الحرب الباردة، وأن الذي يميز التكالب الدولي الجديد الذي بدأ مع بعد انتهاء الحرب الباردة هو وجود قوة فاعلة جديدة، أبرزها الصين ثم روسيا.
وأردف د. حمدي قائلًا: إنه عندما جاء بوتين إلى السلطة أعاد إحياء السياسة الروسية مرة أخرى؛ من خلال ما يسمى “العودة إلى إفريقيا”، وتمخّض هذا في شكل قمة روسية إفريقيَّة، بينما الصين دخلت بقوة منذ 2009م حينما أصبحت الشريك التجاري الأول للقارة الإفريقية، وتطوَّر هذا في مبادرة “الحزام والطريق”.
وأشار د. حمدي في حديثه لـ“قراءات إفريقية” إلى قوى أخرى مثل الهند وبعض دول أمريكا اللاتينية، بالإضافة إلى قوى متوسطة في منطقة الشرق الأوسط مثل تركيا ودول الخليج العربي التي أصبح لها مصالح كبيرة في القارة الإفريقية.
صراع محموم:
لقد ظلت القوى الاستعمارية التقليدية تستغل المقدرات الإفريقية دون مقابل لشعوبها، فضلًا عن عدم مواكبتها للتطورات على الساحة الإفريقية، مما أدى إلى تضاؤل الثقة فيها، وفي سياساتها بشكل عام.
وكان ظهور منافسين أقوياء كالصين وروسيا والبرازيل وغيرها من الدول ليس لها تاريخ استعماري في إفريقيا؛ قد أدَّى إلى وجود شركاء جدد قادرين على الوفاء باحتياجات القارة دون اشتراطات سياسية، مما أدَّى إلى تغيُّر ميزان القوى في إفريقيا.
في هذا الصدد يقول د. حمدي عبد الرحمن: إن التطورات التي حدثت في بعض المناطق الإفريقية أعادت تشكيل توازن القوى السائدة في هذه المناطق، وما رأيناه منذ عام 2020م حتى العام الماضي من انقلابات عسكرية في منطقة الساحل وغرب إفريقيا والشعور المعادي للوجود الفرنسي؛ كان مؤشرًا على انسحاب فرنسا وبعض القوى الأوروبية من دول مثل مالي وبوركينا فاسو ونيجيريا.
وأضاف د. حمدي: إن هذا خلَق حالةً من الفراغ الأمني والإستراتيجي الذي حاولت أن تسده قوى أخرى، وتحديدًا روسيا في المجال الأمني والعسكري، والصين كقوة اقتصادية تركز على الاستثمارات ومشروعات البنية الأساسية.
وبحسب د. حمدي فإن عام 2024م سيشهد مزيدًا من التكالب أو التنافس بين القوى الدولية على إفريقيا، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي تبنَّت سياسة الممرات عن طريق زامبيا وبوركينا فاسو للوصول إلى المحيط الأطلنطي غربًا بدلاً من التوجه نحو الشرق، وهذا مؤشر على منافسة مبادرة “الحزام والطريق” الصينية.
ويتوقع أستاذ العلوم السياسية أن هناك مزيدًا من التنافس على القارة؛ إلا أن الدول الإفريقية سيكون لها دور في عملية إعادة الصياغة الإستراتيجية في المنطقة الإفريقية والنظام الدولي بشكل عام.
القوى الجديدة.. مُنقذ أم مستعمر؟
تكثر التساؤلات عما إذا كانت القوى الجديدة على الساحة الإفريقية ستتمكّن من بسط نفوذها، خاصةً في ظل محاولتها للتعاون مع إفريقيا بإستراتيجيات مختلفة، وأمام انحسار نفوذ القوى التاريخية.
يعتقد أستاذ العلوم السياسية بجامعة حسيبة بوعلي بالجزائر، د. عربي بومدين، أن القوى الجديدة تعمل على تكريس منطق التبعية لكن بأدوات أخرى، فمثلًا روسيا لها وجودها من خلال إدارة الملف الأمني في إفريقيا وتوريد السلاح، وتوجد تركيا عبر نهج الاقتصاد وتعزيز المبادلات التجارية. وعليه يرى “بومدين” أن الصراع الحالي هو صراع اقتصادي بين القوى التقليدية والقوى الجديدة، وأن إفريقيا ليست طرفًا فاعلًا، وإنما هي ساحة صراع بين هذه القوى.
وأشار “بومدين” في حديثه لـ“قراءات إفريقية” إلى أن القوى الجديدة ليست دولاً استعمارية مثل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وقد يساعدها هذا على تعزيز التعاون مع إفريقيا، وقبولها في الوعي الجمعي لدى النخب السياسية والعسكرية، لكن “بومدين” يعتقد أن حالة الاستغلال لن تختلف؛ لأن الهدف هو تعظيم المكاسب الإستراتيجية في مركز القوة المستقبلي الذي ستكون عليه القارة الإفريقية.
أما عن إمكانية اندثار القوى التاريخية في إفريقيا؛ فيرى “بومدين” أن هناك مبالغة في هذا الطرح؛ لأن قوى كبيرة مثل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية ما يزال لها نفوذ في القارة الإفريقية ومصالحها مستمرة ثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، وأردف أن غالبية الدول الإفريقية مازالت تسبح في سياق النظام الاقتصادي العالمي الذي تهيمن عليه القوى الغربية، ومازالت عنصرًا سياسيًّا ودبلوماسيًّا توظّفه القوى الغربية لكسب التأييد العالمي.
وأكد “بومدين” أنه في ظل الاستقطاب الإقليمي العالمي والأزمات التي يمر بها النظام الدولي؛ كأزمة كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية، والحرب في غزة، والصراع على الأسواق والطاقة؛ يجب على إفريقيا التكتل سياسيًّا واقتصاديًّا لتشكيل قوة موازية يمكنها إحداث توازن في سياق الصراع بين الشرق والغرب الذي يشهده النظام الدولي الحالي.
وقال أستاذ العلوم السياسية: إن إفريقيا لن تزدهر في ظل القوى التاريخية أو القوى الجديدة على حدٍّ سواء، وإن النهوض يجب أن تصنعه إفريقيا بنفسها.
إفريقيا.. وصيد الفرص:
لا شك أن تنويع العلاقات الخارجية الإفريقية قد يخلق تناقضًا بين وجهات النظر؛ حيث إن وجود أطراف فاعلة متعددة يؤدي إلى تصادم مصالح هذه القوى، وتصبح الدول الإفريقية ضحية لهذا الصراع المتأجج.
فالقارة الإفريقية تعيش فترة تحولات كبيرة ضمن التحولات الدولية الحالية تقتضي منها البحث عما يُثبِّت سُلطتها؛ حيث يرى الخبراء أن الدول الكبيرة تسعى وراء مصالحها فقط، وهو ما يجب أن تعيه الدول الإفريقية لكي تبني علاقات مثمرة مع تلك القوى.
وهذا ما أكده الباحث في العلاقات الدولية بجامعة بماكو، د. محمد آغ إسماعيل، في حديثه لـ“قراءات إفريقية”، قائلًا: إن إفريقيا كانت دائمًا ضحية الصراع الدولي على ثرواتها الطبيعية وموقعها الجيوسياسي، خاصة في ظل تعدُّد القوى الفاعلة، وفي المقابل تستغل القوى الغربية أجندتها المعتادة كمحاربة الإرهاب ودعم التحول الديمقراطي والدفاع عن حقوق الإنسان والأقليات؛ لشرعنة تدخُّلها في شؤون القارة.
وعن تحالف الدول الإفريقية مع القوى الجديدة؛ قال “إسماعيل”: إن الدول تتحالف وفقًا لمصالحها، خاصةً أن الحلفاء الجدد ليس لهم إرث استعماري في القارة، ولا يشترطون طبيعة أنظمة معينة للتعامل معها، كما أنهم لا يمارسون التسلط السياسي والاستعلاء على الأفارقة كالحلفاء التقليديين.
لكن هذا لا يعني استفادة القارة أكثر من الجانب التنموي بحسب “إسماعيل”، وأنه يجب توحيد الصف الإفريقي للدفاع عن مصالح شعوب القارة دون تمييز أو تبعية لجهة معينة، والتعامل وفقًا للمصالح الإفريقية؛ لأن النجاح في حسن إدارة التعددية وليس الانعزال.
وعن إمكانية استفادة القادة الأفارقة من الصراع الدولي المتنامي، وألا تصبح القارة ضحية لهذا التنافس؛ يرى “إسماعيل” أنه يجب العمل على تسوية المشكلات الداخلية والبينية للحد من الاستغلال الخارجي لهذه الصراعات.
وأوضح أنه يجب مكافحة الإرهاب بقدرات إفريقية بدلًا من الاعتماد على مرتزقة فاغنر أو الجيوش الغربية، كما يجب الإسراع في تفعيل مشروعات الاتحاد الإفريقي التنموية والأمنية، وتوحيد دبلوماسية إفريقية للدفاع عن مصالح الشعوب بدلًا من مصالح الحكام، وألا يقبل الأفارقة التشتت والعمالة لصالح طرف ضد المصالح الإفريقية، وألا يقبلوا باستغلال الثروات الإفريقية دون تحقيق التنمية.
وأكد الباحث في العلاقات الدولية أن الأفارقة إذا نجحوا في تحقيق هذه الوحدة؛ يمكنهم الاستفادة من الصراع الدولي المتنامي على القارة؛ لأن المشكلة تكمن في أعداء الداخل الممولين من أعداء الخارج لحماية مصالح الطرفين على حساب الغالبية العظمى من شعوب القارة.
وختامًا.. وفي بداية عام 2024م الذي سيشهد مزيدًا من التنافس الدولي على القارة الإفريقية باعتبارها قارة المستقبل، هل ستتمكن القارة الإفريقية من أن تصبح فاعلًا مهمًّا في هذا الصراع لحماية مقدراتها؟ أم تتغير أسماء القوى المهيمنة على القارة فقط؟
…………………………………..
[1] https://studies.aljazeera.net/ar/article/5682