يقول المثل العربي: “كأنك يا أبو زيد ما غزيت”؛ لعل هذا المَثَل يُلَخِّص قصة الانتقال الديمقراطي الذي أفرزته انتخابات ديسمبر 2018م في جمهورية الكونغو الديمقراطية؛ فلقد غيَّرت الدولة اسمها تمامًا مثلما يُغيِّر الإنسان ملابسه؛ فهي تارة دولة الكونغو الحرَّة، وتارة أخرى الكونغو البلجيكي، وهي بعد الاستقلال زائير، ثم أضحت في عهد آل كابيلا جمهورية الكونغو الديمقراطية.
والطريف أنه منذ الاستقلال، كان كل رؤساء الكونغو يحملون اسم جوزيف أو ديزيريه، وذلك على النحو التالي: جوزيف كاسافوبو، وجوزيف ديزيريه موبوتو، ولوران ديزيريه كابيلا، وجوزيف كابانج كابيلا.
لقد طال انتظار أهل الكونغو عشرات السنين منذ الاستقلال عن بلجيكا في عام 1960م من أجل التداول السلمي للسلطة، ولكن خاب أملهم في مناسبات عديدة؛ إذ سرعان ما تم اغتيال أول رئيس وزراء لدولتهم المستقلة باتريس لومومبا في يناير 1961م؛ مما دفَع بالبلاد إلى آتون الحرب الأهلية.
وفي عام 1965م جاء خلاص الأمة -كما تصوَّر الكثيرون من أبنائها- على يد الجنرال موبوتو الذي تمكَّن من الإطاحة بأول رئيس للكونغو كاسافوبو في انقلاب عسكري. ولكنها كانت فرصة ضائعة أخرى؛ حيث تحول حُكْم الرئيس موبوتو إلى نظام أوتوقراطي يعتمد على سياسة العصا الغليظة، في ظل استقطاب عالم الحرب الباردة.
تأسيس حكم العائلية السياسية
وظلت الأحوال هكذا حتى تمكَّن التحالف الديمقراطي من أجل تحرير زائير في عام 1997م من الإطاحة بحكم الرئيس موبوتو الذي فقد كل أدوات البقاء في السلطة. وكالعادة فقدت الكونغو لحظة أخرى من أجل التغيير وتلبية طموحات المواطنين الذين أنهكتهم تقلبات دولة ما بعد الاستعمار -والتي وصفناها في موضع آخر بأنها الدولة القرصان-.
جاء لوران كابيلا إلى الحكم على أسنَّة الرماح؛ بعد نجاحه في القضاء على نظام موبوتو المستبد، وقد استفاد من هذه اللحظات البطولية في تاريخ الشعب الكونغولي الذي كان يرنو إلى التحرُّر من حكم الطغيان ليبني أساس شرعية وجوده وبقائه في السلطة.
ولكنه أبَى إلا أن يؤسِّس نمطًا آخر من الحكم الشخصي في بلاده، وإن كان هذه المرة بثياب جديدة. لم تُمهل يد القدر الرئيس لوران كابيلا طويلاً في الحكم؛ حيث لقي حتفه على يد أحد حُرَّاسه عام 2001م. خلف جوزيف كابيلا أباه ليؤسِّس أركان العائلية السياسية في الكونغو.
ومن الواضح أن جوزيف كابيلا كان شخصًا مغمورًا لا يعرفه أبناء وطنه؛ فقد حارب إلى جوار والده ضد نظام الرئيس موبوتو، ثم عين مستشارًا عسكريًّا للرئيس لوران كابيلا في أعقاب استيلائه على السلطة في الكونغو الديمقراطية.
وإذا كان كابيلا الأب قد اتخذ موقفًا عدائيًّا في أواخر أيامه مع بعض دول الجوار الجغرافي، ولا سيما رواندا وأوغندا، كما أنه نأى بنفسه عن التعامل مع العديد من المؤسسات الدولية؛ فإن جوزيف الابن -على الرغم من نظامه التسلطي والقمعي في الداخل- قد انتهج سياسة تصالحية ومنفتحة مع واشنطن وباريس وبروكسل، بالإضافة إلى دول الجوار الإفريقي.
صحيح أن الرئيس جوزيف كابيلا تمكَّن من تحقيق السلام مع جارتيه رواندا وأوغندا، وقام بإجراء انتخابات تعددية لأول مرة في تاريخ بلاده عام 2006م؛ حيث فاز بنسبة 58% في مواجهة منافسه زعيم المعارضة جان بيير بمبا، إلا أن البلاد لا تزال تعاني غياب الأمن والاستقرار بعد حكم عقدين أو يزيد لعائلة كابيلا؛ فالصراع في شرق الكونغو الغني بثرواته المعدنية لا يزال أبعد ما يكون عن أيّ تسوية حقيقية. كما أن الكونغو رغم ثرائها ومواردها الطبيعية الهائلة تعاني من تفشِّي الفقر والبطالة والفساد والأمراض. ولعل ذلك كله يطرح أكثر من علامة استفهام حول كفاءة وقدرة آل كابيلا السياسية!
واللافت للانتباه هنا هو تأسيس نمط من العائلية السياسية كذلك في صفوف المعارضة الكونغولية. فعلى نفس الشاكلة؛ شكَّلت عائلة تشيسيكيدي حزب المعارضة الكونغولية الرئيسي منذ الاستقلال. فقد أسَّس “إتيان تشيسيكيدي” أول حزب معارض في الكونغو بعد انقلابه على موبوتو، واستمر في قيادة الحزب حتى وفاته 2017م، وعندها حمل ابنه فيليكس تشيسيكيدي الراية من بعده. لذلك، نجد أن العائلية السياسية في موقع المعارضة تعمل بنفس الطريقة التي تعمل بها العائلات السياسية الحاكمة.
ظهر الحراك المدني المطالِب بالتغيير في جمهورية الكونغو الديمقراطية كجزء من اتجاهٍ عامّ في إفريقيا؛ ففي عام 2012م، أسَّس الطلاب في غوما حركة “لوشا”، والتي تعني “النضال من أجل التغيير”، وهي مؤلَّفة من نحو ثلاثة آلاف ناشط غير حزبي يقومون بحملات سلمية بهدف زيادة الوعي بحقوق الإنسان، وتمكين المواطنين. كما ظهرت حركة شبابية أخرى أطلق عليها اسم فيلمبي، أي: “إطلاق صافرة الحكم” باللغة السواحيلية.
وفي عامي 2015 و2016م، مارست هذه الحركات الشبابية في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وبدعم من ناشطين من السنغال وبوركينا فاسو، ضغوطًا كبيرة على الرئيس كابيلا، وطالبته باحترام الدستور. ومن الواضح أن مرشَّح المعارضة فايولو كان يحظى بدعم هذه الحركات الشبابية؛ بالإضافة إلى تأييد كلّ من جان بيير بيمبا، وهو أمير حرب سابق، وموسى كاتومبي؛ رجل الأعمال الثري من كاتانغا.
انتظر الكونغوليون عامين كاملين من أجل وضع حدٍّ لحكم أسرة كابيلا. وبعد تأجيل وتأخير عُقِدَتْ انتخابات منقوصة في ديسمبر الماضي 2018م، وجاء إعلان اللجنة الانتخابية بفوز أحد مرشحي المعارضة فيلكس تشيسيكيدي صادمًا، ولا يتماشى مع اتجاهات الرأي العام التي يصعب قياسها على كل حال في مجتمع مزَّقته سنوات الحرب والفساد ومرض إيبولا القاتل. هل يمكن القول بأن الكونغو شهدت “انقلابًا انتخابيًّا” إن صح التعبير؟ إذ يبدو في رأي كثيرٍ من المحللين أنها أول انتخابات تمَّ التلاعب بها مِن قِبَل الحكومة لصالح مرشح المعارضة!!
هل يتكرر نموذج بوتين في الكونغو؟
لا شك أن الرئيس كابيلا يريد على الأقل الحفاظ على ثروة ومكانة عائلته التي تكاد تَحتكر كثيرًا من أركان الدولة الاقتصادية والتجارية، فضلاً عن أنه يسعى إلى تحصين نفسه وبطانته من أيّ مُحاكَمَة محتملة (نموذج موجابي في زيمبابوي).
وكان التفكير في البداية هو اختيار خليفته المفضل إيمانويل رامازاني شادري ، وهو ما يمكنه من التمسك بالسلطة حتى ولو لم يكن في منصبه؛ حيث يمكنه استعادة منصبه في المستقبل، على غرار نموذج بوتين. بَيْدَ أنَّ الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن؛ فقد كان أداء مرشح كابيلا المفضَّل مخيِّبًا للآمال، وهو ما جعله يعيد حساباته سريعًا. إنه لا يريدها مباراة صفرية يخرج منها خاسرًا، فكيف يمكنه التفاوض لتعظيم مكاسبه. كان الخيار الآمن هو تفضيل التحالف مع فليكس تشيسكيدي الذي يبدو أنه قَبِلَ بصفقةٍ لتقاسم السلطة مع حزب الرئيس كابيلا.
قد يذهب مارتن فيولو ، المرشح الخاسر، إلى المحكمة الدستورية، لكنَّ قلة تتوقع أن يتم تغيير الوضع. ويظل مستقبل الكونغو محفوفًا بالمخاطر. وهل يستطيع مؤيدو المعارضة والكنيسة، واللاعبون الإقليميون، وبدرجة أقل المجتمع الدولي، تغيير ملامح المشهد السياسي في الكونغو الديمقراطية؟
قد يُشَكِّل الاهتمام بأولوية الاستقرار، بالنظر إلى تاريخ البلاد الدموي عائقًا أمام التحول الديمقراطي الذي كان يأمله الكثيرون. وربما يكون التغيير الحقيقي هو أن رئيس الكونغو القادم لن يحمل بالتأكيد اسم جوزيف أو ديزيريه.
للأسف الشديد لا تزال الكونغو هي دولة ”بولا متاري”؛ أي: “محطِّم الصخور”، وهو مصطلح استخدمته الشعوب الكونغولية لوصف القوة الغاشمة لدولة الكونغو الحرَّة التي أقامها الملك ليوبولد الثاني ملك بلجيكا؛ وهو ما يجسِّد بحق أهمية عامل التكالب الدولي والإقليمي على الكونغو. فهل يستطيع شباب لوشا وفيليمبي تجاوز الأُطُر التقليدية للممارسة السياسية، وتغيير بنية دولةٍ ما بعد الاستعمار في الكونغو. هذا هو التحدِّي الحقيقي.