على الرغم من شعار “أمريكا أولاً” الذي كرَّسته سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الشعبوية؛ فإن معارك التدافع الدولي على إفريقيا، والمنافسة المتزايدة مِن قِبَل كلٍّ من روسيا والصين أجبرت الولايات المتحدة على إعادة النظر في استراتيجيتها في القارَّة.
وبالفعل أعلنت الإدارة الأمريكية يوم 13 ديسمبر 2018م عن استراتيجيتها الجديدة تجاه إفريقيا، والتي تُقَلِّص إلى حدٍّ كبيرٍ المساعدات المقدَّمَة إلى القارَّة، وتضع شروطًا أكثر صرامة على الدعم المالي والعسكري؛ كطريقة لمواجهة النفوذ المتنامي للصين وروسيا في إفريقيا.
وتقوم السياسة الجديدة على ثلاث دعائم ليست بجديدة؛ وهي: دعم الروابط التجارية والاقتصادية مع إفريقيا، محاربة الإرهاب وجماعات العنف المُسَلَّح، وتوزيع المساعدات بمهارة واقتدار.
ولم تُوَضِّح واشنطن حتى الآن مدى استعدادها لتغيير تدفُّق المساعدات إلى الدول الإفريقية، أو تحويل الدعم لبعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، أو تشجيع الشركات الأمريكيَّة على زيادة العلاقات في القارَّة.
ومع ذلك، فقد أوضح خطاب مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون أن واشنطن يجب أن تنظر إلى إفريقيا باهتمام أكبر؛ في ضوء زيادة التواصل الصيني والروسي هناك.
من الناحية الواقعية، تُعَدُّ الاستراتيجية الجديدة بمثابة تحرُّك أكبر ضدّ كلٍّ من الصين وروسيا، وتوضِّح مدى تراجع إفريقيا على قائمة أولويات ترامب. يقول جون بولتون -والذي أماط اللثام عن الاستراتيجية الجديدة-: “في إطار نهجنا الجديد، فإنَّ كل قرار نتَّخذه، وكل سياسة نتَّبعها، وكل دولار من المساعدات ننفقه سيعزِّز أولويات الولايات المتحدة في المنطقة”، وأضاف: “لن يكون هناك تمويل للمستبدّين الفاسدين الذين يستخدمون المال لملء خزائنهم على حساب شعبهم”.
كيف ستؤثر سياسة الولايات المتحدة الجديدة في إفريقيا، والتي أطلق عليها ترامب “إفريقيا المزدهرة”؟
أقول: لا شيء. هو لم يأتِ بجديدٍ؛ فقد ركَّز كلٌّ من جورج بوش وأوباما على التجارة ومحاربة الإرهاب. وأضحى منطق ترامب الجديد يعني مشروطية المعونة الأمريكية. إنه بحساب السياسة يعني: أنت معنا أو ضدنا، ووفقًا لبولتون؛ فإنه بموجب السياسة الجديدة، فإنَّ “الدول التي تعارض مرارًا وتكرارًا الولايات المتحدة في المنتديات الدولية أو تتَّخذ إجراءات ضد المصالح الأمريكية، يجب ألا تتلقى مساعدات أمريكية سخية خارجية”.
وهذا يعني أن الدول التي تُصَوِّت ضدَّ رغبات أمريكا في الأمم المتحدة ستعاني من قطع المساعدات. وتقوم وزارة الخارجية بجمع بيانات حول أنماط تصويت الدول في الأمم المتحدة.
لقد حاولت المقاربة الأمريكية الجديدة لإفريقيا التمييز بين الولايات المتَّحدة والقوى الدولية الأخرى (الصين تحديدًا)، التي اتهمتها واشنطن بتعزيز نفوذها من خلال الديون والهيمنة. وبصرف النظر عما إذا كانت هذه الاتهامات دقيقة، فقد صنَّفت واشنطن نفسها كشريك بديل يسعى للتبادل مع حلفائها الأفارقة. ومع ذلك، فمن الناحية الواقعية، وبحسب تقرير مؤسسة ستراتفور، لا تزال الولايات المتحدة غير راغبة في تخصيص موارد كافية لتصبح قادرة على منافسة الصين، التي أنفقت عشرات المليارات من الدولارات على مشاريع البِنْيَة التحتية الإفريقية في السنوات الأخيرة.
وفي مواجهة “دبلوماسية البنادق” التي تتبنَّاها واشنطن من خلال قيادة “أفريكوم”، وقاعدتها العسكرية في جيبوتي؛ تتبنَّى الصين ”دبلوماسية البِنْيَة الأساسية” في إفريقيا؛ حيث تقدِّم الصين إغراء المال في شكل بناء خطوط سكك حديد في كينيا وإثيوبيا، وإقامة مصانع في ليسوتو ونامبيا، وإنشاء مناطق حرة ومساعدة إثيوبيا في إطلاق قمرها الصناعي.
غير أنَّ دبلوماسية التنين الصيني أظهرت مؤخرًا وجهها العسكري؛ من خلال إنشاء أكبر قاعدة عسكرية للصين في جيبوتي. بالإضافة الى المشاركة في عمليات حفظ السلام في جنوب السودان ومالي والكونغو الديمقراطية.
وبغَضِّ النظر عن وصف الوجود الصيني في إفريقيا في الدوائر الغربية بأنه يُعَبِّر عن إمبريالية جديدة من خلال فَخّ الديون الذي تتبنَّاه؛ فإن هناك بالفعل مخاوف حقيقية من التنين الصيني. لقد سمعنا عن قصة ميناء هامبانتوتا في سريلانكا الذي تمَّ الاستيلاء عليه مِن قِبَل الدائنين الصينيين عندما فشلت سريلانكا في سداد ديونها. ونحن نعلم أيضًا أن جيبوتي تخاطر بفقدان مينائها الاستراتيجي في ظروف مماثلة؛ بسبب مديونيتها الثقيلة للصينيين.
والحقيقة أن الصين تتبنَّى إجراءات معقَّدة في عملية إقراض الدول الإفريقية. وما هو مطروح اليوم في كينيا يثير القلق بالفعل. فطبقًا للبيانات الرسمية تُعَدُّ الصين أول مُقْرِض لكينيا؛ حيث تبلغ مديونية كينيا للصين 534.1 مليار شلن (مارس 2018م)، أي نحو 72% من إجمالي ديونها الثنائية. وقد اتَّضَح من بيان المدقق العام الكيني أن البلاد تخاطر بفقدان ميناء مومباسا لصالح الصين؛ في حالة عجز الحكومة الكينية عن سداد ديونها.
ولقد اتَّضح من خلال اتفاقية قروض خط السكك الحديدية مع بنك إكسيم الصيني أنه قد تَمَّ رهن الميناء الكيني كضمانة للدَّيْن، وأنه في حالة حدوث أيّ نزاع بين الطرفين يَتِمّ التحكيم في الصين!
أما الضلع الثالث في هذه المعارك على ثروات ومُقَدَّرَات إفريقيا؛ فيطرحه الدُّبّ الروسي بزعامة فلاديمير بوتين، والذي يسعى حثيثًا إلى استعادة نفوذه القديم زمن الحرب الباردة.
لقد ذهَب الروس إلى إريتريا، وقاموا ببناء منطقة حُرَّة، وفي جمهورية وسط إفريقيا -التي أنهكها قتال الإخوة الأعداء- تم التوكيد على المصالح الأمنية والعسكرية الروسية. ولم ينسَ الدُّبّ الروسي نصيبه من السباق على الفوز بموارد إفريقيا الطبيعية، ولا سيما في منطقة الجنوب الإفريقي. في أبريل 2018م، وقَّعت روسيا وغينيا بيساو أول اتفاقية حكومية للتعاون العسكري بين البلدين منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. وخلال السنوات الخمس الماضية، ضاعفت روسيا جهودها لتعزيز العلاقات العسكرية والاقتصادية مع إفريقيا.
صحيح أن إفريقيا لم تُمَثِّل بعدُ أولويَّة بالنسبة لموسكو، إلا أنَّ الزيادة في النشاط تشير إلى تغيير في النهج والمقاربة الروسية تجاه إفريقيا. هذا واضح أيضًا في نطاق الزيارات الرسمية المتبادلة. زار الرئيس الغيني ألفا كوندي موسكو في عام 2017م، وكذلك فعل الرئيس السوداني عمر البشير.
وقام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بزيارة العاصمة الرواندية “كيغالي” في 3 يونيو 2018م؛ حيث ناقش إمكانية توفير أنظمة دفاع جوي روسي لرواندا. وقد شملت جولة لافروف ستة بلدان إفريقية أخرى هي رواندا وأنغولا، وإثيوبيا وموزامبيق، وناميبيا وزيمبابوي في محاولة لإحياء النفوذ الروسي مرة أخرى، واستعادة التحالفات السابقة مع القارَّة.
في ظل معارك التكالب الثلاثي على إفريقيا تحاول قوى إقليميَّة مثل تركيا وإيران وإسرائيل أو قوى دولية صاعدة، مثل الهند طرح نفسها كبديل لنهج واشنطن بمشروطيته التي تنال من سيادة الدول، ونهج بكين بما ينطوي عليه من فخّ للديون.
على أن ثمَّة طريقًا ثالثًا يقوم على شراكات تعاونية حقيقية، ويقوم على ميراث حضاري مشترك نتيجة التلاحم العضوي والثقافي والقرب الجغرافي؛ إنه التعاون العربي الإفريقي، والذي يمكن أن تقدِّمه في إطار جديد من المكاسب المشتركة قُوًى صاعدة مثل السعودية والإمارات. بغضِّ النظر عن التحولات والتحالفات الدولية في فترة ما بعد الحرب الباردة، ينبغي النظر إلى العلاقة بين إفريقيا والخليج العربي على أنها علاقة طبيعية.
بالنسبة لإفريقيا، فهي تُمَثِّل شراكات بديلة، خارج منظومة العلاقات التقليدية مع القوى الغربية، وحتى مع الصين. هذا التحوُّل، بالطبع، يعني زيادة قوة إفريقيا التفاوضية في العلاقات الدولية.
وفي المقابل؛ تُتيح هذه الشراكات لدول مجلس التعاون الخليجي فرصًا ضخمة لرأس المال الضخم، وصناديق الثروة السيادية للاستثمار في إفريقيا؛ فالسوق الإفريقي يزداد اتساعًا بسبب النُّموّ السكاني الكبير وفرص الاستثمار الضخمة في العديد من المجالات الرئيسة.
إنَّ دول مجلس التعاون الخليجي في وضع جيِّد للاستفادة من قدراتها المحوريَّة؛ حيث إنها يمكن أن تُصبح حلقة مهمة للصين والهند؛ أقوى قوتين ناعمتين في إفريقيا، ولذلك يمكن بناء استراتيجية شراكة تعاونيَّة للاستفادة من الموقع الجغرافي للخليج بين إفريقيا والأسواق الآسيوية.
وبناءً على ما سبق؛ فإنَّ نموذج العلاقات الإفريقية الخليجية القائم على الاحترام المتبادل وعدم المشروطية، يعتبر نموذجًا بديلاً لإجماع واشنطن القائم على المشروطية السياسية. هذا النموذج يعتمد أيضًا على مفاهيم الشراكة من أجل المنفعة المتبادلة، وبالتالي التركيز على التجارة والاستثمار وقضايا الأمن المشترك. وربما يؤدِّي ذلك في نهاية المطاف إلى تحقيق الترابط بين مفاهيم أمن الخليج العربي والبحر الأحمر والقرن الإفريقي في ظل منظومة واحدة تجمع بين جميع الدول المعنيَّة والمشاطئة لهذه السواحل.