استحوذت قضايا الشرق الأوسط والتعاون الثنائي على زيارة وزير الخارجية الصيني وانغ يي لكل من القاهرة في الثالث عشر من الشهر الجاري، والذي استهلَّ جولته الإفريقية بزيارتها، وتونس قبل توجُّهه من الأخيرة إلى غرب إفريقيا ليَحُطّ رحاله في توجو (16 يناير) وساحل العاج التي اختتم فيها زيارته في 17-18 الجاري، ثم بحضور بكين اللافت -لوجستيًّا على الأقل- في قمة تجمع دول “إيجاد” بكمبالا، ثم مشاركته في قمتي حركة عدم الانحياز ومجموعة 77+الصين في العاصمة الأوغندية (21 يناير)؛ على نحو كاشف عن انخراط الصين بقوة في ملفات القارة الإفريقية، والتي تتقاطع مع الاهتمامات الدولية ممثلة في حركة عدم الانحياز (التي تضم 120 دولة، وتمثل ثاني أكبر منظمة في العالم من حيث عدد الدول الأعضاء)، ومجموعة 77.
وانغ يي في توجو: نحو تعميق الوجود الصيني
كان استقبال الرئيس التوجولي فور جناسينجبي Faure Gnassingbe لوزير الخارجية الصيني وانغ يي (17 يناير الجاري) دالًّا على الأهمية التي تُوليها توجو لتمتين علاقاتها مع الصين في ظل مواجهة لومي للعديد من المشكلات الاقتصادية والأمنية بعيدة المدى، وعجز تحالفاتها التقليدية (لا سيما مع إسرائيل وفرنسا وعدد من الدول الأوروبية) عن ضمان دعم لومي في تلك المواجهة بشكل فعَّال؛ مع انتشار مخاوف وقوع تغيرات سياسية عنيفة (انقلاب عسكري أو ما شابه). وكشفت محادثات جناسينجبي مع “لي” عن رغبة بلاد الأول في المُضي قُدمًا في تطبيق مخرجات إطار “منتدى التعاون الصيني الإفريقي” التي ساهمت خلال السنوات السابقة في تحقيق التنمية لا سيما في قطاع البنية التحتية. كما عزّز الرئيس التوجولي دعم بلاده لمساعي الصين في إعادة ضبط النظام العالمي، وفرض قِيَم مثل العدالة ومعارضة التدخل في شؤون الدول الداخلية، لا سيما الإفريقية، ولعب بكين دورًا لا يمكن الاستغناء عنه في التنمية السلمية في القارة؛ حسب تصريحات جناسينجبي([1]).
وفي السياق ذاته، أكَّدت رئيسة وزراء توجو فيكتوري سيدميهو دوجبي Victoire Sidemeho Tomegah Dogbe خلال استقبالها لوزير الخارجية الصيني (17 يناير) اتفاق البلدين على العمل بقوة على تطبيق مخرجات منتدى التعاون الصيني الإفريقي، وكرَّرت دعم بلادها لمبدأ الصين الواحدة، ومساعي بكين تحقيق إعادة توحيدها الوطني (استعادة تايوان) في أقرب وقت ممكن([2]).
كما انتهزت بكين ولومي المناسبة لمراجعة التعاون الصيني التوجولي في مجالات الاقتصاد والبنية التحتية والصحة والزراعة والتعليم والثقافة؛ وتعزيز التجارة المتبادلة بين البلدين والتي بلغت في الفترة يناير- يوليو 2023م نحو 2.3 بليون دولار، وحققت زيادة سنوية مقارنة بالفترة نفسها عن العام 2022م بنسبة 14%. وحرصت توجو على استمرار تمويل الصين لعددٍ من أهم مشروعاتها مثل بناء مقر جديد للجمعية الوطنية وقصر رئاسي وإستاد كيجوي الرياضي Kégué Stadium في لومي، وقصر الكونجرس Palais des Congrès في مدينة كارا، وطريق لومي الدائري حول أطراف المدينة([3]).
وكشف هذا التقارب المتزايد عن استعداد توجو للاصطفاف دون مُواربة خلف سياسات الصين الدولية والإفريقية، لا سيما أن لومي أعلنت بالفعل دعمها لمنتدى التعاون الصيني الإفريقي ومساره وما لعبه من دور مهم في الإسراع بالتنمية الإفريقية، وكذلك دعمها لسلسلة من المبادرات العالمية المهمة التي أطلقها الرئيس الصيني بخصوص قضايا السِّلم والتنمية والأمن العالمية، والتي تعني بالأساس في الوقت الحالي الكثير من دول غرب إفريقيا وإقليم الساحل التي تُواجه بدَوْرها تحديات خطيرة في ملفي الأمن والسلم. ومن جهة أخرى كان تأكيد وانغ يي دعم الصين لتوجو في مساعيها لتأمين سيادتها وامنها وتنميتها([4]) أمرًا مهمًّا في هذا التوقيت الذي تمر فيه منطقة غرب إفريقيا بتغيرات سياسية وأمنية حادة، ومجسِّدًا لرغبة صينية توجولية متبادلة لتعميق العلاقات الثنائية بين البلدين في المرحلة المقبلة والوصول بها لمستويات غير مسبوقة بعد مرور خمسة عقود على إقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما.
وانغ يي في ساحل العاج: بوابة الصين الجديدة لغرب إفريقيا
تمتلك ساحل العاج ثروات طبيعية منوعة وكبيرة غير أن اقتصادها ظل رهنًا بالسياسات الفرنسية الاستعمارية التي ظلت قائمة حتى بعد استقلال البلاد في العام 1960م بعقود ممتدة. وكان الحضور الصيني في ساحل العاج مُهمًّا للأخيرة للخروج من ربقة “الاستعمار الجديد”، والتحرر من سياسات فرنسا الاستغلالية بشكل كبير ومتصاعد في ظل رئاسة الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون دون تقديم دعم حقيقي لأبيدجان في ملفاتها الملحة، لا سيما في قطاعات الأمن والاقتصاد والتعاون الإقليمي.
وفي مؤشر على متانة الصلة بين بكين وأبيدجان ارتفعت واردات الأخيرة من الصين من 100 مليون دولار في العام 2002م إلى أكثر من 1.57 بليون دولار في العام 2022م. وفي مقابل تراجع الاستثمارات الفرنسية في ساحل العاج ارتفعت نظيرتها الصينية إلى 7.5 بليون دولار أغلبها في مشروعات البنية الأساسية.
كما أشار التعاون الأمني بين الصين وساحل العاج في الأعوام الأخيرة، ووصوله لمستويات غير مسبوقة إلى عمق هذا التقارب؛ إذ وقّع الجيش الإيفواري في العام 2023م اتفاقًا عسكريًّا مع نظيره الصيني (عبر شركة China North Industries Corporation، وهي واحدة من أهم مُورّدي الأسلحة الصينية) لتوريد 50 عربة مسلحة. كما تستعين أبيدجان بخبرات صينية في مجال مكافحة الإرهاب. وتعمقت العلاقات السياسية بين البلدين بشكل واضح منذ قمة الرئيس الصيني شي جينبينج والرئيس الإيفواري السابق الحسن وتارا في ديسمبر 2022م، واتفاقهما على توسيع العلاقات الثنائية بين بلديهما، والتزام أبيدجان بسياسة “الصين الواحدة” مقابل التزام الصين بتعميق صِلَاتها التجارية مع ساحل العاج بصفتها واحدة من أهم شركاء الصين في غرب إفريقيا([5]).
ومثَّلت ساحل العاج بالفعل في السنوات الأخيرة بوابة رئيسة للصين في إقليم غرب إفريقيا؛ لاسيما مع تولي شركات صينية مشروعات تجديد ميناء أبيدجان وافتتاحها مرافئ شحن جديدة بالميناء في مارس 2022م. وحوَّلت هذه التجديدات المهمة في الميناء ساحل العاج إلى بوابة حقيقية للصين ونفوذها في المجالات الاقتصادية والأمنية والسياسية في الإقليم. كما باتت ساحل العاج أهمّ شريك للصين ومبادرتها “الحزام والطريق” في غرب إفريقيا، والاستعاضة عن توقُّف جزء كبير من تجارة الصين إلى أوروبا والأمريكيتين في جنوب إفريقيا للاستفادة من ميناء أبيدجان وقدراته الاستيعابية المتزايدة بفضل الاستثمارات الصينية.
واتسقت زيارة وانغ يي الأخيرة لساحل العاج مع التفاهم المتزايد بين البلدين في أغلب الملفات المشتركة بينهما؛ واتضح ذلك في توجيه الأول الشكر لساحل العاج على تفهُّمها ودعمها الواضح للصين في مسألة تايوان ضمن دعم أكبر أعلنت عنه أبيدجان للقضايا التي تهمّ الصين؛ مثل الأمن في إقليم الساحل وتمتين علاقاتها مع دول الإقليم وعدد من دول غرب إفريقيا. وفي المقابل ميّزت الزيارة انطلاقة قوية في العلاقات الاقتصادية بين البلدين؛ حيث تموّل الصين العديد من مشروعات البنية الأساسية الضخمة؛ مثل مجموعة من السدود الكهرومائية، وتموّل مشروعًا لتوسعة إضافية لميناء أبيدجان. وتبلوَر هذا التطور في كون الصين في السنوات الأخيرة الشريك التجاري الأول لساحل العاج مع تضاعف حجم التجارة بين البلدين من العام 2017م (إذ بلغت 1.85 بليون دولار) إلى العام 2022م (إذ وصلت إلى 4.46 بليون دولار). كما اختتم وانغ يي زيارته لأبيدجان بتوقيع اتفاق لمنح الأخيرة صفقة حافلات كهربائية([6]).
وكما كانت زيارة وانغ يي للومي مجسّدة لحجم التوافق الصيني- التوجولي وقدرة الدبلوماسية الصينية متعددة الأبعاد (الأمنية والسياسية والاقتصادية بترتيبات متفاوتة في كل حالة إفريقية) على حشد مواقف واضحة تتقاطع في بعض منها مع التوجهات التقليدية لتوجو وارتباطاتها بعدد من الدول الغربية، فإن زيارته لأبيدجان التقت مع هذه الأهداف العامة وزاد عليها قدرة الصين على جعل علاقاتها مع الدولة الغرب إفريقية المهمة أساسًا لسياسات أشمل في غرب إفريقيا وإقليم الساحل.
الصين وإفريقيا ومواجهة “النظام الأمريكي”:
رأى وزير الخارجية الصيني في ختام جولته الإفريقية وجوب تعاون بلاده مع إفريقيا “في تقوية تبادل الخبرات في الحوكمة والاستكشاف المشترك لسبل الإسراع بعمليات التحديث”. وفي سبيل ذلك أكدت بكين في سلسلة مداولات وانغ يي الإفريقية بأجنداته المختلفة في الدول الأربعة التي زارها (بما فيها مصر وتونس) على ضرورة التوصل لإجماع حول مسألة التوافق الصيني الإفريقي خلال الدورة الجديدة المرتقبة لمنتدى التعاون الصيني الإفريقي Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) المرتقب عقده في خريف العام 2024م، والبناء على مبادئ الرئيس شي جينبينج الحاكمة لسياسة الصين الإفريقية وقوامها الإخلاص وتحقيق نتائج حقيقية وحسن النوايا([7]).
وقد عزَّزت جولة وانغ يي تصورات المنافسة المحتدمة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية على النفوذ السياسي والموارد الطبيعية في القارة؛ لا سيما أن واشنطن أرسلت وزير خارجيتها أنتوني بلينكن في جولة إفريقية تشمل أربع دول؛ هي: كيب فيردي وأنجولا ونيجيريا، إضافةً إلى ساحل العاج آخر محطات وانغ يي في جولته الإفريقية الأخيرة، وذلك بعد ساعات من مغادرة وزير خارجية الصين أبيدجان إلى جامايكا في البحر الكاريبي.
لكن ما يميز الدبلوماسية الصينية عن نظيرتها الأمريكية في القارة هو بناؤها على مقاربة الفوز للجميع بشكل أكثر واقعية، وربط الدعم السياسي لإستراتيجيات الصين الإقليمية والدولية (من قبل الدول الإفريقية) باستمرار الدعم الاقتصادي الصيني دون مشروطيات سياسية مباشرة تُذكر (إذ تؤكد الصين دائمًا على عدم تدخُّلها في شؤون الدول الإفريقية الداخلية خلافًا لواشنطن التي تؤكد في كل جولة لأحد مسؤوليها في القارة الإفريقية على ربط التعاون مع الدول الإفريقية بملفها في مجال حقوق الإنسان على سبيل المثال؛ كما في جولة بلينكن الحالية نهاية يناير 2024م)؛ واتضح عائد هذه الدبلوماسية الصينية الراسخة في حصول بكين خلال وجود وانغ يي في القارة على دعم مباشر وصريح لموقفها تجاه تايوان التي كانت قد انتخبت بالتزامن مع هذه الجولة رئيسها وليام لاي تشينغ- تي W. Lai Ching-te المعروف بمواقفه المتشددة تجاه الصين وسياسة “الصين الواحدة”([8]).
وفي مقابل المشروطيات الأمريكية المتزايدة إزاء علاقاتها مع الدول الإفريقية؛ تقوم الصين بتوفير غطاء آمِن للدول الإفريقية في مواجهة قضايا متنوّعة، ومنها تحدياتها الاقتصادية على سبيل المثال. وفي هذا الصدد توفّر الصين الشريك الأبرز لإفريقيا جنوب الصحراء في مواجهة مطالب توفير استثمارات البنية التحتية في الإقليم في الأعوام العشرة المقبلة والمُقدّرة حسب بنك التنمية الإفريقي بمبلغ 93 بليون دولار سنويًّا (لم تؤمن الدول الإفريقية بعد أكثر من نصفها) ([9])، فيما يتوقع أن تزيد الصين من إسهاماتها في توفير تمويل كافٍ لهذه الاستثمارات المهمة لأغلب دول إفريقيا جنوب الصحراء وبمشروطيات سياسية منخفضة تمامًا، لا سيما عند مقارنتها بنظيرتها الأمريكية والغربية على الأقل الراهنة.
الخلاصة:
لقد نجحت جولة “وانغ يي” الإفريقية بالعلامة الكاملة في توطيد صلات الصين الإفريقية، كما اتضح في أجندة هذه الجولة في مصر وتونس وتوجو وساحل العاج بالغة التنوع والأهمية والتأثير في السياسات الإقليمية والدولية، من جهة تناول الأوضاع في غزة والبحر الأحمر والعلاقات الإفريقية مع دول الاتحاد الأوروبي والعلاقات الثنائية وتوظيف ميناء أبيدجان كبوابة للصادرات الصينية في إقليم غرب إفريقيا، وحصول بكين على دعم سياسي إفريقي ثنائي وعلى مستوى اجتماعات منظمة الإيجاد وحركة دول عدم الانحياز ومجموعة الـ77+ الصين في الاجتماعات رفيعة المستوى التي شهدتها العاصمة الأوغندية كمبالا في يناير الجاري بزَخَم كبير للغاية، وبدعم وحضور سياسي ولوجستي كبير مِن قِبَل الصين لهذه الاجتماعات والحكومة الأوغندية على نحو قاد لخروج هذه الفعاليات (بغضّ النظر عن التقييم المدقق لمخرجاتها) على نحو سلس ومؤشر إلى تطوّر مهم في الدبلوماسيات الإفريقية وعودة واضحة لصوت “الجنوب العالمي” واصطفافاته خلف سياسات الصين، وعدد من أهم شركائها مثل جنوب إفريقيا في القارة الإفريقية.
………………………………………………..
[1] China, Togo look forward to closer cooperation, Xinhua, January 18, 2024 http://www.china.org.cn/world/2024-01/18/content_116948990.htm
[2] China, Togo agree to well implement outcomes of China-Africa cooperation, Xinhua, January 18, 2024 https://english.news.cn/africa/20240118/8cfc6c3771e442f983e5edd3baef8682/c.html
[3] In Lomé, President Gnassingbé reviews China-Togo cooperation with Chinese Minister Wang Yi, Togo First, January 18, 2024 https://www.togofirst.com/en/politics/1801-13283-in-lome-president-gnassingbe-reviews-china-togo-cooperation-with-chinese-minister-wang-yi
[4] China to support Togo in safeguarding its sovereignty, security -Wang Yi, Reuters, January 18, 2024 https://www.msn.com/en-us/news/world/china-to-support-togo-in-safeguarding-its-sovereignty-security-wang-yi/ar-AA1n5z6v
[5] Stephen Ndegwa, How China-Cote d’Ivoire relations have provided mutual support, CGTN, March 31, 2023 https://news.cgtn.com/news/2023-03-31/How-China-Cote-d-Ivoire-relations-have-provided-mutual-support-1iCfmT32iLm/index.html
[6] The head of Chinese diplomacy completes an African tour in Ivory Coast, Daily News, January 17, 2024 https://www.dailynewsen.com/breaking/the-head-of-chinese-diplomacy-completes-an-african-tour-in-ivory-coast-h128806.html
[7] China, Africa should enhance exchange on governance: FM, China Daily, January 20, 2024 https://www.chinadaily.com.cn/a/202401/20/WS65abb28ea3105f21a507d690.html
[8] Dang Yuan, China in Africa: Building roads and political capital, DW, January 20, 2024 https://www.dw.com/en/china-in-africa-building-roads-and-political-capital/a-68030063
[9] Alexander Still, China in Africa: Trojan horse or friend in need? (And why the West should worry), Cherwell, January 20, 2024 https://cherwell.org/2024/01/20/china-in-africa-trojan-horse-or-friend-in-need-and-why-the-west-should-worry/