مختار حسين هلولي (*)
بدأت رحلة الدستور في كينيا عام 1890م مع دخول المستعمر البريطاني إِثْرَ استطلاعٍ قامت به شركة (Imperial British East Africa ) ، في 1920م؛ أعلنت بريطانيا عقبه فَرْض حمايتها على كينيا والشريط الساحلي الذي كان حينها تابعًا لحكم سلطان زنجبار.
وقد مَرَّ الدستور الكيني بخمس مراحل قبل أن يأخذ شكله الحالي، ولا تزال القُوَى السياسيَّة تُثير حوله تساؤلات في مدى صلاحيته لحماية مصالح المواطن الكيني، ولا تزال وسائل الإعلام المحلية تَضِجّ بهذا النقاش منذ حَدَث المصافحة التي أنهت الانقسام السياسي في البلاد؛ ولو مرحليًّا.
المرحلة الأولى: ما بين 1890- 1960م
تميزت هذه المرحلة بخضوع السكان التامّ للمستعمر البريطاني؛ إذ لم يكن لهم شأن بإدارة البلاد، وكان المستعمر يجمع في يده كل السلطات دون تفويض من الشعب. اتَّسم الحكم الاستعماري بالاستبداد الشديد، والتنفيذ الحرفي لسياسات الملكة في إنجلترا، كما انتهج سياسة نهب الثروات والاستيلاء على الأراضي، وقمع الحريات مما جعل السكان المحليين في حالة تذمُّر مستمرة، وهيَّج فيهم الرغبة الشديدة في التحرُّر من قبضته.
وفي هذه المرحلة بدأت السياسات التهميشيَّة ضد مناطق الشمال ذات الغالبية المسلمة، وهو وضع مستمِرّ إلى يومنا هذا، أما المناطق الوسطى والغربية ذات الأغلبية المسيحية فقد حَظِيَتْ بمعاملة خاصَّة من المستعمر البريطاني، وتوفرت فيها الخدمات من التعليم والصحة وغيرهما، ومنها تأتي النُّخَب السياسية المؤثرة. وقد شهد عام 1944م أول تمثيل سياسي للمحليين؛ حيث سمح للأفارقة بإرسال ممثليهم إلى المجلس التشريعي (LEGCO).
المرحلة الثانية: ما بين 1960-1962م
شهدت هذه المرحلة نقاشات جوهرية حول كتابة الدستور في كينيا؛ إذ كانت البلاد تستعد للاستقلال عن المستعمر الإنجليزي. وانعقدت ثلاثة مؤتمرات في لندن لبحث إعداد دستور للبلاد بمشاركة المجموعات الإثنية ذات المصالح السياسية، من أهمها حركة جبهة موامباو المتحدة(Mawbao United Front) ، وكانت حركة سياسية شكَّلها سُكَّان الساحل الكيني ذوو الأصول الإفريقية؛ للمطالبة بالنظام اللّامركزي في كينيا، وإنشاء حكم إقليمي في منطقة الساحل يتمتع بصلاحية دستورية واسعة، ومجموعة ماا (The Maa Speaking Communities)التي رفعت عدة مطالب؛ أهمها: استعادة أراضيها الخصبة التي انتُزِعَتْ بموجب اتفاقية لينانا (Lenana Agreements)، في سنة 1904 و 1908م، والمجموعة التي تشكّلت من الصوماليين وغيرهم من سكّان المناطق الشّمالية المهمّشة التي طالبت بالاستقلال عن كينيا، وتأسيس دولة مستقلة.
وقد اختلفت رؤى النُّخَب السياسيَّة في شكل الدولة ونظام الحكم فيها، أيَّد حزب كادو(KADU) النظام الفيدرالي أو ما عُرِفَ حينها بمجيمبو(Majimbo) ، وهي كلمة سواحلية تعني اللامركزية، وكان هذا الحزب يمثل الأقليات القبلية والمستوطنين الإنجليز. أما حزب كانو (KANU) فقد وقف مع شكل الدولة الموحدة البسيطة والنظام الرئاسي على نمط النظام الإنجليزي المستعمر.
بعد مخاض عسير ظهر للبلاد دستور لم يعالج أيًّا من القضايا العالقة التي أثارتها الفصائل السياسية المختلفة، رغم تضمنه نقاطًا حظيت بإجماع الجميع، منها أن يشترك الحاكم البريطاني في الحكم باسم الملكة مع رئيس الوزراء أثناء المرحلة الانتقالية، وضرورة الحسم الدستوري في ملكية الأراضي والمسائل المتعلقة بالجنسية.
مرحلة ما بين 1963- 1991م
شهدت هذه المرحلة تقدُّمًا ملحوظًا في تاريخ دستور البلاد، وأهم ما ميَّز التعديلات الدستورية التي تعاقبت في هذه المرحلة، إلغاء منصب الحاكم المستعمر، وتحويل صلاحياته لرئيس الوزراء، وقد تم ذلك في 1964م، أي أقل من سنة من الاستقلال.
لم يسلم الدستور الكيني، وقبل مرور عشر سنوات فقط على إصداره، من جشع بعض الساسة الذين بذلوا جهودًا ضخمة لصبغ الوثيقة بصبغة سياسيَّة معينة، وإخضاعها لرغباتهم الشخصية والحزبية الضيقة. ومما يدلُّ على هذا الأمر كثرة التعديلات التي طالت الدستور، وهي على تباين مواقيتها انصبَّت في تعزيز مكانة رئيس الجمهورية، وتوسيع صلاحياته، وتحصينه ضد أيّ إجراء قضائي يمكن أن يتعرَّض له، وقد أجرت حكومة جومو كينياتا عشرة تعديلات بهذا الخصوص.
مرحلة ما بين 1992-2002م
في هذه المرحلة عَلَت الأصوات المطالبة بالإصلاحات الدستورية والتعددية الحزبية التي أُلغيت في سنة 1982م إبَّان حكم دانيل أرب موي بعد فشل الانقلاب العسكري، وتراكم الضغط الدولي والمحلي في هذا الاتجاه، كما تزايدت التنظيمات المدنية وأنشطتها السياسية داخل المجتمع الكيني التي أدَّت إلى ارتفاع الوعي المجتمعي ومسايرته الأحداث المهمة في البلاد.
وأبرز ما طالبت به المنظمات: لامركزية الصلاحية التي أُحِيطَت برئاسة الجمهورية، وإنشاء سلطات ولائية ذات صلاحيات دستورية محدودة تقرّب الحكم من المواطن، وتُشركه في عملية اتخاذ القرار ورسم السياسات العامة.
في هذه المرحلة اتُّخِذَتْ ثلاث خطوات مهمة في موضوع الإصلاح الدستوري؛ أولاها: توحُّد رؤى التنظيمات المطالبة بالإصلاح الدستوري وبلورتها في مبادرة (أفنغمانو) (Ufungmano Initiative)، التي طرحتها مجموعات دينية في كينيا ركَّزت على معارضة النظام القضائي الخاص بالمسلمين، وقد ردّ عليها رئيس مفوضية الإصلاح الدستوري حينها، البروفسير ياش بل غاي (Yash Pal Ghai) في مقال نشرته جريدة ديلي نيشن (Daily Nation) ، مؤكدًا أن النظام كان معمولاً به منذ الاستقلال وإلغاؤه في ذلك التوقيت بالذات الذي بدأت الحرب على الإرهاب في التأجج يشكِّل خطرًا على الوحدة الوطنية التي لطالما نادت بها (أفنغمانو)، وأنّ فيه تهميشًا للأقلية المسلمة وتجاهل مشاعرها.
وتمثلت الخطوة الثانية في احتشاد القوى السياسية والمدنية في اتجاه إيجاد آليَّة قانونية للدفع بعملية الإصلاح الدستوري إلى الأمام، والثالثة: تشكُّل مجموعة من مختلف الأحزاب داخل البرلمان(Interparty Parliamentary Group) نادت بتعديل الدستور، وفعلاً بدأت في هذه المرحلة الأعمال التحضيرية لكتابة دستور جديد للبلاد، وعرفت بترتيبات بوماس (Bomas Process).
وأخيرًا انتهى حكم حزب كانو في 2002م، بعد هزيمته في الانتخابات، وبدأ عهد مواي كيباكي الذي وعد بدستور جديد في خلال 100 يوم من تاريخ تسلُّمه للسلطة، وهو وعد لم يتحقق لأسباب تعود إلى المناوشات السياسية التي اشتدت بين مكوِّنات حكومة التحالف الذي أطاح بحكم “كانو”.
وقد نجح نظام كيباكي في إعداد مسودة للدستور وطرحها لاستفتاء عام مع أن بعض الأحزاب المكوِّنة للتحالف الحاكم لم تكن على قناعة بالمسودَّة، وهو ما أدَّى إلى سقوطها، ثم مهَّد لأحداث 2007م الدامية التي أعقبت انتخابات ذلك العام وراح ضحيتها المئات.
لم يستسلم نظام كيباكي بعد الرفض الشعبي للدستور، بل استجمع القوة لانطلاقة جديدة؛ بدأت بالبحث في الأسباب التي أدَّت إلى رفض المسودة. وبعد مداولات طويلة تمكَّنت النُّخَب السياسية من الإجماع على القضايا العالقة، وكان ذلك سببًا في إصدار الدستور الجديد عام 2010م.
الدعوة لتعديل الدستور
بعد مرور ثماني سنوات على دستور حَظِيَ حين صدوره بإعجاب جهات كثيرة، محليَّة ودوليَّة، بدأت الأصوات المنادية بتعديله تعلو يومًا بعد يوم. وفي الآونة الأخيرة اتجهت أنظار الإعلام المحلي إلى تصريحات السّاسة من مختلف المشارب في هذا الخصوص، تصريحات أعقبت حدث المصافحة بين الرئيس وزعيم المعارضة لإنهاء التوتر السياسي الذي أعقب انتخابات 2017م.
رغم أن أطراف المصالحة متحفِّظة بشكل كبير على تفاصيل ذلك الحدث؛ إلا أنّ تسريبات إعلاميَّة تنقل عن شخصيات سياسية ذات وزن تكاد أن تميط اللّثام عن الصفقة الغامضة التي أدت إلى المصافحة، وقد أحدثت تذمرًا في بعض الأوساط السياسيَّة التي تَمَنَّتْ ألا يحصل التقارب بين الزعيمين؛ لحاجة في نفسها لها علاقة بخلافة الرئيس أوهورو المنتهية ولايته في 2022م.
بشكل أوضح هناك صراع بدأ يطفو على السطح بين نائب الرئيس من جهةٍ ورايلا أطنغا من جهةٍ الأخرى، يتمحور حول من يتولى الحكم بعد أوهورو، أما الأول فيبدو متفائلاً ويرجو من أهورو أن يردَّ له الجميل ويكافئه بدعم مماثل في انتخابات 2022م، كما يراهن على اعتزال رايلا للسياسة الداخلية بعد أن تم تعيينه مبعوثًا خاصًّا لتنمية البنى التحتية لدى الاتحاد الإفريقي.
وأما الثاني فيتعمَّد صمتًا مريبًا يصعب معه التكهُّن بما ينويه إزاء مستقبله السياسي، ويكتفي بإطلاق رسائل عائمة عبر البارزين من أعضاء حزبه، أمثال المنسِّق العام لكتلة الأقلية البرلمانية، السيّد جنيد محمد، ووالي ممباسا حسن علي جوهو، الَّذَيْن لم يدخرا جهدًا في الدفاع عنه ضد هجمات خصمه نائب الرئيس وليام روتو، الذي يتَّهم رايلا أطنغا باستغلال المصالحة لتمرير أجنداته الخاصة، ولإضعاف التحالف الحاكم الذي يشكِّل حزب روتو فيه مكوِّنًا أساسيًّا.
وينص الدستور على طريقتين لتعديل الدستور، بمبادرة من عضو في البرلمان حسبما تنص عليه المادة 256 من الدستور، وبجمع مليون توقيع من الناخبين بمقتضى المادة 257 منه.
وتعارض قيادات التحالف الحاكم أمثال أدم بري رئيس الأغلبية البرلمانية ونائب رئيس الجمهورية، مساعي تعديل الدستور التي يحركها رايلا، ويعتبرونها سعيًا لإنشاء مناصب جديدة ترضي الخاسرين في انتخابات 2017م، وتنقذهم من موت سياسي مؤكَّد.
كما يرون أن التحالف الحاكم ليس مستعدًّا لإعادة البلاد إلى أجواء الانتخابات، ولا يمكنه الانشغال عن متابعة أجندات الرئيس الأربع التي وعد بإنجازها قبل نهاية ولايته، وأنه ليس من الضروري إجراء الاستفتاء بل يمكن تسوية هذه المسائل على مستوى البرلمان بدل إهدار المليارات بإجراء الاستفتاء وتعميق الأزمة الاقتصادية القائمة.
محاور التعديل
الحديث عن التعديل الدستوري ينصبُّ في محاور معيَّنة؛ لها دور كبير في عدم التفاهم السياسي وغياب دور المعارضة الفعَّال، أضف إليها قضية التوزيع العادل للثروة الوطنية. ويمكن الحديث عن هذه المحاور فيما يلي:
أولاً: تغيير نظام الحكم
رغم الغموض المكتنف للقضية برمتها، إلا أنَّ التقارير الإعلامية تشير إلى مغزى هذه التعديلات، ومَن وراءها، وتذكر أن رايلا أطنغا يسعى للحدِّ من صلاحيات رئيس الجمهورية، وإنشاء منصب رئيس الوزراء، ليحوِّل نظام الحكم من رئاسي إلى برلماني. ولا يوجد لهذه النزعة تفسير إلا أن الرجل مع تقدُّمه في السنّ وفشله في أكثر من استحقاق انتخابي قد يئس من تحقيق أمله ليصبح رئيسًا للجمهورية ولو لفترة واحدة.
في فبراير الماضي قدم أحد البرلمانيين مشروعًا طالَب فيه بإنشاء منصب فخري لرئيس الجمهورية منزوع الصلاحية التنفيذية، ولا يرأس حزبًا سياسيًّا، ليكون رمزًا للوحدة الوطنية. وإلغاء منصب نائب الرئيس والاكتفاء برئيس وزراء له كامل الصلاحيات. وطالب أيضًا بإنشاء منصب رئيس المعارضة الوطنية.
ثانيًا: إعادة ترسيم الحدود السياسية الداخلية
من المرتقب أن تُشَكِّل الحدود السياسية أهم محاور التعديلات؛ رغم عدم وضوح ملامحها، إلا أن بعض التوجهات السياسية تنادي بإنشاء مستوى حكم إضافي يكون وسطًا بين المستويين الموجودين؛ تعزيزًا للتقاسم العادل للثروة الوطنية، وتشجيعًا للتعاون بين الحكومات المحلية المختلفة في إطار كيان إقليميّ يجمعها، وقد عبَّر رايلا أطنغا عن هذه الرؤية في أحد لقاءاته الجماهيرية.
ورغم هزيمته في انتخابات 2017م المتنازع حولها، يظل رايلا أطنغا متمتعًا بثقة الكثيرين، الذين يؤمنون بتوجهه الإصلاحي، وقدرته على إدارة الأزمات السياسية. يقول متاهي انغوني، أحد الكُتَّاب في صحيفة ديلي نيشن: “لا أحد يشم رائحة التغيير أفضل من رايلا، ولا جدوى من مناقشته في قضية الاستفتاء الذي سيُجْرَى ما دام رايلا يريده”.
ثالثًا: رسمية المعارضة
تطرح بعض مجموعات الضغط الدينية أن يتم تعديل الدستور ليتضمَّن فقرات بموجبها يصير المرشح الثاني في نتائج انتخابات الرئاسة زعيمًا رسميًّا للمعارضة في مجلس النواب، ونائبه كذلك في مجلس الشيوخ، في خطوة قد تُحصِّن تحالفات المعارضة من التصدُّع فور انتهاء الانتخابات؛ كما حصل في 2017م، وتجعل قياداتها باقية في ساحة السياسة لتتمكن من لعب دورها في مراقبة الحكومة.
ولا شك أن الدستور الحالي لا يشجِّع المعارضة السياسية، ويخلو من أيّ تحفيز لها، فالاعتراف بها قد يكون له أثر إيجابي في تماسكها واستمرارها في العملية السياسية، وعدم لجوئها إلى العنف وحشد الشارع في مواجهة الحكومة ما قد يؤدِّي إلى تعطيل المصالح.
ختامًا:
يبدو أن تعديل الدستور بات مسألة وقت، وقد سبقت تفاهمات بهذا الصدد بين الرئيس وزعيم المعارضة أدَّت إلى حدث المصافحة الذي أنهى التوتر السياسي في البلاد. وحقًّا ثَمَّة حاجة ماسَّة إلى التخلُّص من نظام “الفائز يظفر بكل شيء”، والاعتراف بالمعارضة؛ حفاظًا على اللُّحْمَة الوطنيَّة، وتفاديًا للعنف السياسي الذي يهدِّد الأمن والاستقرار.
ورغم أنَّ الدستور الحالي مكلِّف جدًّا، ويضغط بشدة على موازنة الدولة؛ إلا أن تقريب الحكم من الشعب باعتماد النظام اللامركزي مفيدٌ جدًّا؛ بشرط أن تُرَاقب الحكومات المحلية، وتُوضع معايير واضحة لضبط الإنفاق الحكومي، ومنع الفساد الإداري.
(*) باحث كيني متخصص في شؤون شرق إفريقيا .