شاهد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إحدى مباريات كأس الأمم الإفريقية في الملعب الذي أهدته الصين لكوت ديفوار. ومن المثير للاهتمام أيضًا أن نظيره الصيني – وانغ يي – قد سبقه بأيام في زيارة أبيدجان، وهو ما يشير إلى أن الولايات المتحدة تتبني نهج اللحاق بالركب في سباقها الجيوسياسي مع الصين.
لم تؤكد الجولة الإفريقية الرابعة التي قام بها بلينكن على العلاقات المتعددة الأوجه التي تربط الولايات المتحدة بدول القارة فحسب، بل سلطت الضوء أيضًا على مبادرة بالغة الأهمية وذات آثار بعيدة المدى – الشراكة من أجل التعاون الأطلسي.
وبينما اجتاز بلينكن كابو فيردي ونيجيريا وكوت ديفوار وأنجولا، كشف تركيزه على عضوية هذه الدول في الشراكة عن تحالف استراتيجي يشكل العلاقات بين الولايات المتحدة وإفريقيا من جهة وبين الشمال والجنوب العالمي من جهة أخرى. فما الذي تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيقه؟ وما تأثير ذلك على عملية إعادة تشكيل النظام العالمي؟
السياقات الإقليمية للزيارة:
تأتي زيارة بلينكن إلى إفريقيا وسط تطورات مثيرة للقلق: الانقلاب العسكري في النيجر، وتصاعد النفوذ الروسي؛ وتوسيع بصمة الصين من خلال مشاريع البنية التحتية؛ وأزمة الشرق الأوسط التي صرفت تركيز الولايات المتحدة عن إفريقيا. ولذلك حرص بلينكن على تغيير الروايات الخاصة بالوجود الأمريكي من خلال إقناع الزعماء الأفارقة بالتزام الولايات المتحدة المستمر، ومقارنته بالتوجهات التي تتبناها الصين وروسيا. وفي حين أن اللفتات الرمزية مثل حضور مباراة كرة قدم في أبيدجان تنقل صورة أكثر تقبلا لدى الرأي العام الإفريقي، فإن اتخاذ إجراءات ملموسة في مجال التنمية الاقتصادية والتعاون الأمني أمر ضروري. إن ثمة حاجة إلى المشاركة الاستباقية، وقيام الولايات المتحدة بالاستماع إلى التطلعات الإفريقية والاستجابة لها. وعليه تشير زيارة بلينكن في خضم تصاعد التوترات في منطقة الشرق الأوسط إلى اعتراف واشنطن بأهمية أفريقيا، لكن تأثيرها على تنشيط العلاقات الأمريكية الإفريقية لا يزال غير مؤكد، مما يسلط الضوء على الديناميكيات المتطورة التي تشكل المشهد العالمي.
الأهداف الأمريكية الكبرى:
1– التعاون الأمني: ينصب التركيز الرئيسي لجولة بلينكن على تعزيز التعاون الأمني، خاصة في المناطق المعرضة لزعزعة الاستقرار. وقد تعهدت الولايات المتحدة بتقديم دعم مالي كبير، بما في ذلك برنامج بقيمة 300 مليون دولار لتعزيز القدرات الأمنية للدول الساحلية على طول ساحل المحيط الأطلسي في إفريقيا، و45 مليون دولار في هيئة مساعدات أمنية لكوت ديفوار. وتهدف هذه الجهود إلى مواجهة التهديد الذي تشكله الجماعات العنيفة ومعالجة المخاوف بشأن الأمن الإقليمي في ضوء الصراعات التي تشهدها دول المنطقة مثل الصراع الذي يشارك فيه متمردو (إم 23) في الكونغو المجاورة.
2– مشروع ممر لوبيتو في أنغولا: يسعى بلينكن إلى تعزيز الشراكات الاستراتيجية، خاصة في ضوء أهمية خط السكك الحديدية لوبيتو كوريدور. ويؤكد هذا الممر، الذي يعتبر حاسما لنقل المعادن من جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا إلى ميناء لوبيتو على المحيط الأطلسي، على الترابط الاقتصادي المتبادل داخل المنطقة. ويعكس انخراط بلينكن مع أنغولا جهدًا أوسع لموازنة النفوذ التاريخي للصين وروسيا في المنطقة، مما يوفر لأنغولا شراكة بديلة تتوافق مع مصالحها الاقتصادية والأمنية المتطورة.
3- علاوة على ذلك، تمتد أجندة بلينكن إلى ما هو أبعد من الاتفاقيات الثنائية، لتشمل تحولات جيوسياسية واعتبارات اقتصادية أوسع. إن إعلان أنغولا مؤخراً عن نيتها الخروج من منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) يسلط الضوء على تطلعات البلاد إلى أمن الطاقة والتنويع الاقتصادي، الأمر الذي يوفر فرصاً لتعزيز التعاون مع الولايات المتحدة. ويؤكد نهج بلينكن الدقيق الشراكة اعتراف الولايات المتحدة بأهمية إفريقيا في مجال التجارة عبر الأطلسي والتزامها بتعزيز الشراكات ذات المنفعة المتبادلة.
الشراكة من أجل التعاون الأطلسي:
وتمثل مبادرة الشراكة الأطلسية، والتي تم إطلاقها أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2023، جهداً متضافراً، بقيادة الولايات المتحدة في المقام الأول، لمعالجة فجوات الحوكمة داخل حوض الأطلسي. وفي عالم يركز غالباً على منطقة المحيط الهادئ والشرق الأوسط المضطربة، لا يمكن المبالغة في تقدير أهمية المحيط الأطلسي باعتباره قناة حيوية للاقتصاد العالمي. وتمتد أهداف الشراكة إلى مجالات مختلفة، بدءًا من التجارة والأمن البحري وحتى التخفيف من آثار تغير المناخ ومكافحة الأنشطة غير القانونية مثل صيد الأسماك.
ولعلنا نتذكر أنه في المراحل الأولى من الحرب الباردة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أنشأت الولايات المتحدة منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) لمواجهة الاتحاد السوفييتي. وبالمثل فإنها في المراحل الأولى من هذه الحرب الباردة الجديدة، تحتاج إلى إنشاء شراكة جديدة في جنوب الأطلسي لمواجهة النفوذ المتزايد لروسيا والصين في دول الجنوب العالمي.
ويشكل الإعلان عن شراكة جديدة للتعاون الأطلسي خطوة في هذا الاتجاه، حيث يجمع الولايات المتحدة وأوروبا جنباً إلى جنب مع البلدان الشريكة في الجنوب العالمي، بما في ذلك مجتمع جنوب الأطلسي. ولعل التركيز على قضايا غير مثيرة للجدل مثل المناخ، واستدامة المحيطات، وما شابه ذلك يكفي لإقناع بعض الدول المتأرجحة المهمة مثل البرازيل التي انضمت بالفعل لهذه الشراكة رغم عضويتها في تجمع البركس. وعلى النقيض من منطقة المحيط الهادئ، التي تشهد العديد من أطر التعاون الدولي، فإن المحيط الأطلسي كان يفتقر إلى منظمة متماسكة حتى ظهور هذه الشراكة. ومن خلال سد الفجوة بين شمال العالم وجنوبه، تَعِد المبادرة بتوفير منصة للنهج التعاوني في مواجهة التحديات المشتركة.
ومن الأمور الأساسية في جدول أعمال الشراكة حماية الكابلات البحرية، وهو أمر بالغ الأهمية للحفاظ على الاتصال الرقمي، وتنسيق التخطيط المكاني البحري. وتحتاج دول المحيط الأطلسي إلى التعاون في حماية قنوات الإنترنت تحت الماء حيث إنها أكثر عددًا من أي محيط آخر. وبعيداً عن أهدافها العملية، فإن الشراكة من أجل التعاون الأطلسي تمثل تحولاً مفاهيمياً في العلاقات الدولية. ورغم أن المحيط الأطلسي أثار تاريخياً التحالفات عبر الأطلسية بين الولايات المتحدة وأوروبا، فإن ضم دول جنوب الأطلسي يفتح السبل أمام التعاون التنموي، وخاصة في إطار التعاون بين بلدان الجنوب. فمشاركة البرازيل، على سبيل المثال، تسلط الضوء على إمكانية تبادل المعرفة والتعاون التكنولوجي في مجال الطاقة المتجددة.
التحديات الكبرى:
ومع ذلك، فإن فعالية الشراكة تتوقف على قدرتها على تحقيق فوائد ملموسة للبلدان النامية، وخاصة في إفريقيا. من المهم ضمان نتائج عادلة لجميع الأعضاء. ورغم إمكانية عقد أوجه التشابه مع الاتحادات الإقليمية القائمة مثل رابطة حافة المحيط الهندي، فإن التساؤلات لا تزال قائمة حول العوائد السياسية لهذه الشراكة وشموليتها. إن غياب دول معينة عن الشراكة يثير الدهشة ويدعو إلى التكهنات حول دوافع جيوسياسية. ومع ذلك، لا تزال التحديات قائمة في التوفيق بين المصالح المتباينة ومعالجة الشكوك حول الأجندات السياسية. وعلى سبيل المثال تنظر جنوب إفريقيا إلى هذه الشراكة الأطلسية الجديدة بحسبانها منتدى للدول التي تدور في فلك الولايات المتحدة الأمريكية.
لاتزال جهود بلينكن الدبلوماسية تواجه تحديات متعددة الأوجه، بما في ذلك التعامل مع التأثيرات المتنافسة من الصين وروسيا والقوى الإقليمية الناشئة. إن الدور المتراجع الذي تقوم به الولايات المتحدة كعامل استقرار عالمي يستلزم اتباع نهج دقيق في التعامل مع الشراكة الجديدة، يتسم بتبني اقتراب تعددي بدلا من التدخل الأحادي الجانب. علاوة على ذلك، يتعين على بلينكن أن يتعامل مع مشهد جيوسياسي معقد يتسم بالصراعات في منطقة الشرق الأوسط، والتوترات في منطقة البحر الأحمر، والانتقادات واسعة النطاق لسياسات الولايات المتحدة، بما في ذلك دعمها المطلق للعدوان الإسرائيلي على غزة.
وختاما، وفي ضوء هذه التحديات، تعد زيارة بلينكن بمثابة شهادة على النهج المتطور الذي تتبعه الولايات المتحدة في التعامل مع الشراكة الإفريقية، وهو النهج الذي يسعى إلى سد الفجوات المرتبطة بالضرورات الأمنية والمصالح الاقتصادية والديناميات الإقليمية. وبينما تعيد الولايات المتحدة ضبط دورها داخل القارة، تشير مبادرات بلينكن الدبلوماسية إلى أن حالة الاستقطاب في إفريقيا أضحت أكثر مرونة حيث لم تعد الولايات المتحدة شرطي العالم الأوحد. وعلى أرض الواقع لم تحقق إدارة بايدن نجاحات كبيرة في مواجهة النفوذ الصيني أو الروسي. إن وجود الصين في إفريقيا واسع النطاق. ومن المعروف أن الصين تعد الآن أكبر شريك تجاري لإفريقيا، حيث تتجاوز التجارة الصينية الإفريقية 200 مليار دولار سنويا. وتعمل حاليا أكثر من 10 آلاف شركة صينية في جميع أنحاء القارة الإفريقية. إن الوجود الاقتصادي للصين في إفريقيا أكبر بأربع مرات من الوجود الاقتصادي للولايات المتحدة. وبالإضافة إلى البحث عن الموارد وأسواق التصدير والنفوذ السياسي والدبلوماسي، توفر بكين الأسلحة للدول الإفريقية، وتقدم بشكل متزايد التعليم العسكري المهني. ومع وجود قاعدة عسكرية في جيبوتي، فإنها تسعى أيضًا إلى إيجاد خيارات أخرى لقواعدها في القارة. يعني ذلك أن الولايات المتحدة تحاول سد الفجوات أو إن شئت الدقة قل اللحاق بالركب الصيني في إفريقيا.