من الواقعيَّة أن نعترف بأنَّ آثار “التكالب على إفريقيا” لا تزال حاضرةً في جميع أنحاء القارَّة؛ حتى وإن كانت “حقبة الاستعمار” يجب اعتبارها كإحدى المحطات في تاريخ إفريقيا دون جعلها محورًا أساسيًّا يُحدِّد مسار القارَّة (1).
فلم يكن من المبالغة -على أساس هذه الآثار- أنْ وَصَفَ “إديم كودجو”؛ الدبلوماسي التوغولي ومؤلِّف كتاب “إفريقيا الغد”, حالة الإفريقيِّ بأنها “مُمَزَّقٌ من ماضيه، مدفوعٌ في عالم من الخارج يُخْمِد قِيَمه، مذهولٌ بغزو ثقافي يُهَدِّده.. الإفريقيُّ هو اليوم صورة مشوَّهَة للآخرين”(2).
ورغم هذه الآثار السلبية وما أحدثتْه من نقاشات لا مُتَناهية؛ فقد اقترح “غونتر نوكي” – مفوض ألمانيا لإفريقيا والممثل الشخصي للمستشار الألماني لإفريقيا “أنغيلا ميركل”– على إفريقيا أن تمنح أوروبا فرصةً ثانية لإدارة القارَّة، وتضييق الخناق عليها مرَّة أخرى– بينما لا تزال ناميبيا تنتظر اعتذارًا رسميًّا من ألمانيا نفسها لجرائمها البشعة في حقِّ شعب تلك الدولة الواقعة بإفريقيا الجنوبية.
ففي مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، قدَّم “نوكي” فكرة أنه يجب على الحكومات الإفريقية أن تُؤَجِّر أراضيها للدول الأوروبية أو هيئة أجنبية مثل “البنك الدولي” لإنشاء مُدُنٍ مستقلَّة من شأنها أن تُوفِّر خدمات ذات جودة عالية، وخَلْق فُرَص عمل, وذلك لتعزيز التنمية التي من شأنها تثبيط الأعداد الكبيرة من المهاجرين من إفريقيا الذين يبحثون عن ملجأ وفرصة اقتصاديَّة في أوروبا(3).
وهذه الفكرة تعني أن البلدان الإفريقية ليس فقط ستؤجِّر أراضيها إلى هيئة أجنبية، بل ستسمح للقُوَى الأوروبية “بالتنمية الحرَّة (في هذه الأراضي الإفريقية) لمدة 50 سنة”؛ بحسب ما قاله “نوكي”.
فكرة “رائعة” ؟!
وإذ كان من السهل لمن قرأ تاريخ الكولونياليين الأوروبيين في الدول الإفريقية -وكيف جاؤوا بعباءة “الاستكشاف” و”التبشير” (أو التنصير) و”التجارة”– أن يربط بين اقتراح هذا المسؤول الألماني والاستعمار؛ إلا أنها فكرة وَجَدتْ طريقها منذ سنوات ماضية على أيدي بعض الاقتصاديين الأوروبيين.
فقد طوَّر “بول رومر” -الاقتصادي الأمريكي الحائز على جائزة نوبل- هذه الفكرة قبل عقد من الزمن؛ حيث قال في خطاب له عام 2009م: “إن على الدول النامية أن تفكِّر في التنازل عن جزء من أراضيها للدول الأجنبية التي ستبني ما أسماه “المُدن المستأجرة” (charter cities) من البداية حتى النهاية(4).
وفي رأي “بول رومر”, ستعمل هذه المدن بموجب مجموعة قوانين بشكل منفصل عن الدولة المضيفة لها. ما يعني أنها مدينة أجنبية داخل الدولة النامية المضيفة, أو محاولة “استعمار جديد”.
ويدافع “رومر” عن فكرته قائلاً: “لماذا يختلف هذا (النموذج) عن الاستعمار؟ (لأنَّ) الشيء الذي كان سيِّئًا عن الاستعمار، والشيء الذي كان سيِّئًا جدًّا في بعض برامج مساعداتنا (الأجنبية)، هو أنه ينطوي على عناصر من الإكراه والتهوُّر. كلُّ ما في هذا النموذج هو عن الخيارات، سواء للقادة وللشعب الذي سيعيش في هذه الأماكن الجديدة. والخيار هو الترياق للإكراه والتهوّر”.
إذن, ما يدعو إليه “بول رومر” ومؤيدو نموذجه في أوروبا؛ هو أن تَقبل قادة وشعوب الدول النامية بنمط جديد من الاستعمار؛ “الاستعمار الطوعي”. ومثل هذا الاستعمار -في وجهة نظر “بول رومر”– غير ضارّ؛ لأنّ أوروبا والهيئة الأجنبية لن تجبر الدول النامية على تنفيذه.
وكردود أفعال متوقعة، تعرضتْ فكرة “رومر” لانتقادات المفكِّرين والكُتَّاب المتشككين في جدواها، وما تفوح منها من رائحة الاستعمار. “إنَّ بول مبدعٌ للغاية”؛ هكذا قال “ويليام إيسترلي” – الاقتصادي في مجال التنمية بجامعة نيويورك, “وأحيانًا بإمكان الإبداع أن يتخطَّى الحدود إلى الجنون”.
وفي المقابل, نالت هذه الفكرة قبولاً واستحسانًا لدى آخرين حتى في إفريقيا -مثل الأكاديميَّة الكينية “كارول موسيوكا”- الأكاديمية بكلية “ستراثمور” للأعمال والتي تُعَدُّ واحدة من أفضل الجامعات في كينيا؛ إذ وصفتْ الفكرة في مقابلة مع “بي بي سي” بأنها “رائعة”، وأنها ستؤيدها إذا كانت “محاولة حقيقية” لضمان استفادة الإفريقيين، وليست لاستفادة القوى الأجنبية.
ولم يكن موقف الأكاديمية الكينية غريبًا؛ لأنّ فكرة بناء “المُدن المستأجرة” بدأتْ تكسب دفعة عند الشباب الإفريقيين الذين يخاطرون بحياتهم للوصول إلى أوروبا لتحسين أوضاعهم المعيشية، ولسان حالهم يقول كما قالت “موسيوكا بأنها ستقبل “الاستعمار الطوعي”؛ بسبب فشل الحكومات الإفريقية في توفير حياة أفضل لشعوبها.. وهذا سيعني -في حال تحقيقها– وَأْد أحلام وآمال الآباء المؤسِّسين لإفريقيا المستقلة والمناضلين لتحرير دولها.
سقوطُ رئيس دولة إفريقية حاول تطبيق النموذج
لقد أكَّد “بول رومر” على أنه أثناء مناقشة نموذجه مع الحكومات في البلدان النامية، وجد الكثير منهم متقبّلين للفكرة. وقد أبدت إحدى الدول الإفريقية التي تعاني من قلة الاستثمارات الأجنبية استعدادها لتطبيقها؛ وهي جزيرة مدغشقر الواقعة قبالة الساحل الجنوبي الشرقي لإفريقيا(5).
وفي عام 2008م، أعرب رئيس مدغشقر في ذلك الوقت “مارك رافالومانانا”، عن اهتمامه بتنفيذ النموذج في جزيرة في المحيط الهندي عقب اجتماع مع “رومر”. وكانت الخطة أن تُبنَى مدينتان من قبيل “المدن المستأجرة”؛ حيث يمكن للسكان المحليين والمهاجرين من الدول المجاورة العيش والعمل فيها.
ولتعزيز الاستثمار في الزراعة، كانت حكومة الرئيس الملغاشي مستعدَّة لإيجار قطعة أرض -تساوي مساحتها ولاية “كونيتيكت” الأمريكية- لشركة “دايو” الكورية الجنوبية لمدة 99 عامًا. بينما اعتزمت الحكومة دعوة جارتها الصغيرة في المحيط الهندي –وهي موريشيوس- لإدارة منطقة لتجهيز الصادرات في أراضي مدغشقر؛ وذلك لتعزيز الاستثمار في الصناعات التصديرية.
غير أنّ المعارضين لحكومة “رافالومانانا” لم يستسيغوا كل هذه الخطط والمحاولات, واتهموه بعدَّة اتهامات من بينها الخيانة للدولة، ونظَّمُوا ضدَّه احتجاجات أدَّت إلى إسقاط الفكرة، وساعدتْ في سقوط الرئيس “مارك رافالومانانا” في عام 2009م؛ حيث قدَّم استقالته تحت ضغط من المؤسسة العسكرية والأطراف السياسية.
يُذكر أيضًا أنَّ “بورفيريو لوبو سوسا” -الرئيس السابق لجمهورية “هندوراس” الواقعة في أمريكا الوسطى-، أعرب عن دعمه للفكرة؛ حيث قال في عام 2011م: إن “المدن المستأجرة” ستُحَسِّن حياة الهندوراسيين؛ من خلال توفير وظائف تنافسية، وتحسين الصحة والتعليم، ونظام قانوني وأمني “من الدرجة الأولى”. لكنَّ “سوسا” فشل في تنفيذها؛ في أعقاب ردّ فعل عنيف من المنتقدين المعارضين لأنْ تفقد بلادهم السيطرة على أراضيها.
فكرة مجنونة: “الاستعمار الطوعي” ليس حلًّا للهجرة
إن المقارنة بين نسبة المؤيدين لفكرة “المدن المستأجرة” و”الاستعمار الطوعي” والمعارضين لها تؤكد على أن مقاوتها لا تزال قوية -خاصة وأن هناك الكثير ممن يعتقدون أن الفكرة والأفكار المماثلة لها- على فرض قابليتها للتطبيق- لن تفيد سوى الأغنياء، وأنها ستخلق مجتمعات ذات أبواب موسعة، يكون العيش فيها تحت قواعد منفصلة عن بقية البلاد(6).
ويرى الوزير الألماني “نوكي” الذي قدَّم الفكرة كحلٍّ للهجرة في إفريقيا أنّ هذه المدن ستكون كقواعد اقتصادية توفِّر التعليم للشباب الإفريقيين؛ لأنّ “الفكرة الأساسية هي أن هذه المدن الحرَّة ستخلق النمو والازدهار”؛ على حدّ قوله.
لكنّ “كين أوبالو” من جامعة “جورجتاون” في الولايات المتحدة يحذِّر من الفكرة؛ لأنّ “خلق اقتصاد مُحاصَر سيكون فكرة مجنونة”. كما أنّ مثل هذه المدن ستؤدي إلى هجرة داخلية، ولن تفيد الاقتصاد الكلي للدولة المضيفة أو تَحُدّ من المشاكل العديدة التي تواجهها الدول الإفريقية.
الاتحاد الإفريقي ورفض مقترح “المدن المستأجرة”
تتعارض تمامًا خطة التنمية للاتحاد الإفريقي التي أطلق عليها “أجندة 2063” مع اقتراح “غونتر نوكي” بإنشاء “المدن الأجنبية” في إفريقيا(7) ؛ بل انتقدتْ “ليزلي ريتشر” – مديرة الاتصالات بالاتحاد الإفريقي – هذا الاقتراح قائلة: إنه “استجابة كسولٌ” على المخاوف بشأن الهجرة، و”تُوحي بأنّ إفريقيا بحاجة للتخلي عن السيادة والانضمام إلى “الإدارة” التي تقوم بها المنظمات الدولية”(8).
أما ” نوكي” صاحب الاقتراح؛ فهو عازم على مواصلة الترويج لاقتراحه كحلِّ أوروبا لأزمة الهجرة من إفريقيا؛ إذ أوضح أنه “يجب إعداده بطريقة يمكن من خلالها تجنُّب أيّ صراع” بين الحكومات الأوروبية والحكومات الإفريقية.
ومع ذلك, فإنّ كل التوقعات تدعم الجزم بأنَّ الاقتراح أو ما شابهه لن يجد قبولاً أمام الاتحاد الإفريقي. “أتصور أن يقود نموذج نُمُوّنا الإفريقي الخاص معجزةً إفريقية”؛ هكذا قال “رايلا أودينغا” -مبعوث الاتحاد الإفريقي لتطوير البنية التحتية-, وأضاف “النمو الاقتصادي المرتفع في القارة ستقوده الوحدة الإفريقية والتكامل السياسي والاقتصادي”.
هذا, وتثير كل الفقرات السابقة، وخصوصًا فيما يتعلق باقتراح “مدن أجنبية” داخل إفريقيا عدة تساؤلات, منها:
– هل إفريقيا وحدها تعاني تحديات في الحكم، أم أنَّ أوروبا -بل العالم بأَسْره– تواجه التحديات وخاصة في ظل تصاعد التيارات اليمينية المتطرِّفة والعنصرية في أوروبا؟
– من الذي يدعم الحكومات الفاسدة ويتدخل في إدارة الشؤون الداخلية والسياسات الوطنية في عدد من الدول الإفريقية؟
– كيف عن الشركات العالمية متعدِّدة الجنسيات التي لا تخضع لقوانين الدول الإفريقية؛ حيث تقوم بعملها بسبب نفوذها المالي وضغطها السياسي، وتبذل دائمًا قصارى جهدها للتهرب من دفع مستحقاتها وضرائبها للحكومات الإفريقية– وهي أموال قد تُعزِّز التنمية المحلية؟
وبعبارة أخرى؛ أشارت لجنة رفيعة المستوى كوَّنتها “اللجنة الاقتصادية لإفريقيا”, إلى أنَّ تدفقات رأس المال غير المشروعة من القارَّة تصل حوالي 50 مليار دولار سنويًّا(9).. أَوَلَيس من الأفضل أن تقوم أوروبا ومسؤولوها بسلسلة حملات تصعيدية لمعالجة هذه المعضلة التي تشمل شركاتها؟
– وهل يكفي فشل بعض الحكومات الإفريقية، ومزاعم الفساد والهجرة كعذر لقبول فكرة “الاستعمار الطوعي”, أو كحجة لتقديم المسؤول الأوروبي فكرة بناء “مدن أوروبية” داخل أراضي القارة؟
يجيب “كين أوبالو” على السؤال الأخير قائلاً: “على الرغم من الفوضى أو الفساد، سيكون من الأفضل (بحث الحلّ)، والعمل من خلال مؤسَّسَات الدول الإفريقية”؛ لأنَّ أفضل طريقة لمساعدة القارة هي الاستثمار في الشركات الصغيرة والمتوسطة لخَلْق فُرَص العمل.
الإحالات والهوامش:
(1) حكيم نجم الدين (2018م): تصفية استعمار العقل: التعليم والأدب واللغات الإفريقية. المقال متوفر في الرابط التالي: https://najimdeen.com/2018/11/decolonizing-the-mind-African-education-literature-languages.html
(2) Will Anthony (2015). Africa; Colonized And Terrorized Smashwords, available at https://www.smashwords.com/extreader/read/528878/3/africa-colonized-and-terrorized
(3) BBC (2018). Can ‘voluntary colonialism’ stop migration from Africa to Europe?, available at https://www.bbc.com/news/world-africa-46017551
(4) Paul Romer (Aug 5, 2009). Why the world needs charter cities. Youtube video by TED, available at https://www.youtube.com/watch?v=mSHBma0Ithk
(5) Sebastian Mallaby (2010). The Politically Incorrect Guide to Ending Poverty. The Atlantic Magazine (JULY/AUGUST 2010 ISSUE), available at https://www.theatlantic.com/magazine/archive/2010/07/the-politically-incorrect-guide-to-ending-poverty/308134/
(6) مصدر سابق:
BBC (2018). Can ‘voluntary colonialism’ stop migration from Africa to Europe?
(7) African Union: About Agenda 2063, available at https://au.int/agenda2063/about
(8) مصدر سابق:
BBC (2018). Can ‘voluntary colonialism’ stop migration from Africa to Europe?
(9) Christabel Ligami (2018). Africa struggles to tackle illicit capital flows. The East African, available at https://goo.gl/5iBgbm