نشر موقع “Merkuer” الألماني مقالًا للرأي بقلم “Robert Wagner”، استعرض خلاله التساؤلات التي تبادرت للأذهان وقت أن فاجأت جنوب إفريقيا العالم، يوم الخميس الموافق الحادي عشر من يناير 2024م، بإقامتها دعوى قضائية ضد إسرائيل؛ تتهمها بارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين في قطاع غزة. وهي الدعوى الأولى من نوعها التي أجبرت إسرائيل على المثول أمام محكمة العدل الدولية.
والأمر الذي جعل هذه الخطوة محل قلق إسرائيلي كونها فتحت الباب على مصراعيه أمام إمكانية التصدي رسميًّا لأفعالها، حتى وإن لم تكن قرارات العدل الدولية مُلزمة لإسرائيل. كما أن هذه الخطوة ستجذب إليها دولًا أخرى متعاطفة مع القضية الفلسطينية. وهنا يكمن مربط الفرس الذي من شأنه أن يُحرج إسرائيل دوليًّا ويجرّدها من دور الضحية الذي تلعبه منذ أحداث الهولوكوست…
ترجمة وتقديم: شيرين ماهر
نص المقال:
للمرة الأولى، يتعين على إسرائيل أن تُحاسَب قضائيًّا على سياساتها ضد الفلسطينيين. وليس مِن قبيل الصدفة أن تأتي الدعوى القضائية من جنوب إفريقيا. فمنذ الحادي عشر من يناير، مثلت إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي؛ حيث رفعت جنوب إفريقيا دعوى قضائية عاجلة ضد إسرائيل في 29 ديسمبر. وتضمّنت لائحة الاتهام أن إسرائيل مذنبة جرّاء عملها العسكري القاسي في قطاع غزة، علاوةً على تورطها في ارتكاب جريمة “إبادة جماعية” تنتهك اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الإبادة الجماعية.
ها هي الدولة، التي لم تنشأ لولا الإبادة الجماعية التي ارتكبها النازيون الألمان ضد اليهود، تُواجه اتهامات الآن بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ذاتها. وفي نص الدعوى المكون من 84 صفحة، فنَّدت جنوب إفريقيا أعمال العنف التي تمارسها إسرائيل ضد سكان قطاع غزة. ووصفت هذه الأعمال بأنها تتسم بطابع “الإبادة الجماعية”.
ووفقًا لوزارة الصحة في غزة، الخاضعة لسيطرة حماس، ولكنّها تتمتع بالمصداقية، فإن أكثر من عشرين ألف شخص لقوا حتفهم حتى الآن في الحرب التي تشنّها إسرائيل ضد حماس. والغالبية العظمى منهم من المدنيين، فيما تصف الأمم المتحدة الآن قطاع غزة بأنه قطاع مُدمَّر و”غير صالح للسكن…”.
إن هزيمة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية ستكون بمثابة هزيمة رمزية كبرى للدولة اليهودية، حتى لو لم تكن محكمة الأمم المتحدة نفسها تتمتع بسلطة إنفاذ الحكم.
اتهامات ضد إسرائيل:
لا يعد الاتهام بأن إسرائيل تقوم بعملية إبادة جماعية ضد الفلسطينيين أمرًا جديدًا. فمنذ هجوم 7 أكتوبر، أُثيرت هذه الفكرة خلال المظاهرات المناهضة التي اندلعت في جميع أنحاء العالم، وخاصةً في العالم العربي. في هذا اليوم، شنَّت إسرائيل الغارات الجوية على نطاق واسع ضد قطاع غزة بعد أن قتلت حماس، التي تحكم القطاع، أكثر من 1200 شخص واختطفت حوالي 250 كرهائن في هجوم كبير غير مسبوق. ولكن لماذا تأخذ جنوب إفريقيا، التي تبعُد عن دائرة الصراع، زمام المبادرة وتأخذ على عاتقها مسؤولية هذه الخطوة المذهلة؟
وحتى قبل التوجُّه إلى أعلى جهة قضائية تابعة للأمم المتحدة، سبق أن قطعت جنوب إفريقيا العديد من صور العلاقات الرسمية مع إسرائيل ردًّا على الحرب الإسرائيلية في غزة؛ حيث ذكرت صحيفة Jüdische Allgemeine أن جنوب افريقيا سحبت موظفيها الدبلوماسيين من إسرائيل في نوفمبر 2023م. وفي نفس الشهر، صوّت برلمان جنوب إفريقيا على إغلاق السفارة الإسرائيلية في بريتوريا.
وفي مطلع شهر مارس 2023م، أي قبل ستة أشهر من نشوب الحرب في إسرائيل، قرَّر البرلمان في بريتوريا أيضًا خَفْض مستوى التمثيل الدبلوماسي الجنوب إفريقي في “رمات جان” بإسرائيل. وقال عضو في حزب الحرية الوطنية، الذي قدم القرار في ذلك الوقت، بحسب بوابة إسرائيل نت الإخبارية: إن جنوب إفريقيا لم يعد بإمكانها الوقوف مكتوفة الأيدي، بينما يتم سحق حقوق الفلسطينيين.
العلاقات بين إسرائيل وجنوب إفريقيا متوترة تاريخيًّا:
تزامنًا مع الدعوى القضائية المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية، وصلت العلاقة بين جنوب إفريقيا وإسرائيل الآن إلى أدنى مستوياتها. ولا يمكن إنكار أن العلاقات بين البلدين كانت متوترة للغاية على مدار فترة طويلة، والتي يمكن فهم أبعادها بالعودة إلى عصر الفصل العنصري. ففي ستينيات القرن الماضي، كانت الدول الإفريقية التي أعلنت استقلالها بأعداد كبيرة لا تزال تتعاطف مع إسرائيل؛ حيث رأوا حليفًا محتملًا في الدولة اليهودية الفتية، والتي كانت في نهاية الأمر نتاجًا لسياسة الإبادة العنصرية التي اتبعتها القوة البيضاء.
وينطبق هذا أيضًا على حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم حاليًّا، والذي بدأ وجوده السياسي كحركة مقاومة ضد نظام الفصل العنصري. لكن الحروب التي سرعان ما شنّتها إسرائيل ضد القوى العربية غيَّرت هذا الرأي. ومع حرب الأيام الستة التي وقعت عام 1967م، وحرب يوم الغفران عام 1973م، احتلت إسرائيل قطاع غزة وسيناء والضفة الغربية والقدس الشرقية؛ وهي المناطق التي كانت تابعة لمصر والأردن على التوالي.
تضامن مبكّر مع الفلسطينيين من جانب مقاومي الاستعمار في جنوب إفريقيا:
والواقع أنه قد تغيَّرت تلك النظرة جذريًّا؛ حيث أصبحت الدول الإفريقية تنظر إلى إسرائيل الآن على أنها قوة احتلال، مما أضرَّ بسُمْعتها بشكل متزايد، خاصةً وأنه بعد كل شيء، فهذه الدول نفسها كانت ضحية للقمع الاستعماري منذ فترة طويلة. لقد رأى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في جنوب إفريقيا أن منظمة التحرير الفلسطينية منظمة زميلة تعاني من نفس أزماتها. فكان من دواعي سرورها إظهار التضامن معها. وفي الثمانينيات، في عهد زعيم حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، نيلسون مانديلا، تحوَّل هذا التضامن إلى تحالف إستراتيجي، كما أوضحت صحيفة ستاندارد النمساوية.
وبعد إطلاق سراح مانديلا في أوائل عام 1990م، كان مؤيدًا قويًّا لمنظمة التحرير الفلسطينية وزعيمها آنذاك، ياسر عرفات. وقال في ذلك الوقت، كما أوردت بوابة فوكس الإخبارية: “نحن نتعاطف مع منظمة التحرير الفلسطينية؛ لأنها تشبهنا، تناضل من أجل الحق في تقرير المصير”. وكان عرفات من أوائل السياسيين غير الأفارقة الذين استقبلوا مانديلا بعد إطلاق سراحه.
إسرائيل سعت إلى التقارب مع نظام الفصل العنصري:
هناك تطوّر آخر عزّز، بشكل كبير، التقارب بين المؤتمر الوطني الإفريقي ومنظمة التحرير الفلسطينية. ومن جانبها، تقرَّبت إسرائيل من نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وأقامت نوعًا من الشراكة الإستراتيجية مع مَن هُم في السلطة. وقد ذهب هذا التقارب إلى حد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين ونظيره الجنوب إفريقي، جون فورستر، قد شربا نخب “القِيَم والأهداف المشتركة بين إسرائيل وجنوب إفريقيا” في عام 1976م.
وامتدَّت هذه الشراكة أيضًا إلى الصناعة الدفاعية؛ حيث ذهب جزء كبير من الإنتاج الدفاعي الإسرائيلي إلى جنوب إفريقيا في السبعينيات والثمانينيات. ومع تزايد الضغوط الدولية على نظام الفصل العنصري اللاإنساني، كانت إسرائيل إحدى آخر الدول التي انضمَّت إلى العقوبات المفروضة على جوهانسبرج. وبطبيعة الحال، تسبَّب هذا التعاون مع العنصريين في أن تخسر إسرائيل جزءًا كبيرًا من شعبيتها لدى مقاومي الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
جنوب إفريقيا: التحفظات ضد إسرائيل ما زالت قائمة
وحتى بعد مرور عقود من الزمن، لا يزال العديد من مواطني جنوب إفريقيا (السود) لديهم تحفظات بشأن إسرائيل. ولا يزال بإمكان المرء أن يرى ربطًا طبيعيًّا بين المناضلين السابقين ضد الفصل العنصري والفلسطينيين الذين عانوا تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي لأكثر من 70 عامًا.
لقد تعاملت جنوب إفريقيا مع القضية الفلسطينية منذ نهاية الفصل العنصري وتأسيس الدولة. وقال مايكل والش من جامعة كاليفورنيا بيركلي لـ لموقع فوكس نيوز: “إنها قضية مهمة في سياسة جنوب إفريقيا وبين قادة الدولة”.
جنوب إفريقيا لديها مبررات جيوسياسية لتصرُّفاتها ضد إسرائيل:
وبعيدًا عن هذا الارتباط التاريخي، هناك أيضًا دافع أكثر حداثة يفسّر تقدُّم جنوب إفريقيا بدعوى ضد إسرائيل. ويجب أيضًا النظر إلى الدعوى المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية على خلفية التحولات الجيوسياسية. وبحسب فوكس نيوز، جوهانسبرج مهتمّة أيضًا بتحدي النظام الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، والذي تعتبره غير مُنْصِف للمصالح الإفريقية وغير الغربية. إن اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، وهي منظمة تابعة للأمم المتحدة معترَف بها دوليًّا، يشكل رافعة قوية يجب استغلالها.
كما أن الإجراءات أمام محكمة العدل الدولية تسمح الآن لجنوب إفريقيا بالإدلاء ببيان واضح وقاطع في جلسة استماع رسمية حول تصرفات إسرائيل في غزة، التي تمثل الولايات المتحدة قوة الحماية الرئيسية فيها، لتقول، على صعيد مُوازٍ: إن هناك دعمًا دوليًّا للفلسطينيين. خاصةً وأن التفجيرات التي لا هوادة فيها الواقعة خلال الأشهر الثلاثة الماضية والحرمان من الوصول إلى السلع الأساسية بمثابة مسألة إنسانية مُلِحَّة تستحق أن تكون ذا أهمية دولية.
لقد بدت رغبة جنوب إفريقيا في التشكيك في هيمنة الغرب واضحة بالفعل في حرب أوكرانيا. وكانت جنوب إفريقيا هي إحدى الدول التي لم تُدِن روسيا بوضوح جراء غزوها لأوكرانيا. وبدلًا من ذلك، فإنهم يسعون إلى التقارب مع روسيا، بل وأجروا مناورات بحرية مشتركة مع روسيا والصين في فبراير 2023م.
إسرائيل تنفي اتهامات الإبادة الجماعية وتصف جنوب إفريقيا بـ “ذراع حماس”:
من جانبها، تدافع إسرائيل عن نفسها ضد الاتهامات الموجَّهة إليها بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين. ففي كلمته الافتتاحية أمام محكمة العدل الدولية يوم (12 يناير)، اتَّهم المستشار القانوني لوزارة الخارجية الإسرائيلية، تال بيكر، جنوب إفريقيا بتقديم “صورة واقعية وقانونية مبتورة للغاية”. وقال بيكر: إن إسرائيل معنية فقط بالدفاع عن النفس ضد حماس و”المنظمات الإرهابية الأخرى”. وقال بيكر: إن جنوب إفريقيا تحاول على ما يبدو “دحض حق إسرائيل الأصيل في الدفاع عن النفس”.
وذهب ليور حيات، المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية، إلى أبعد من ذلك. وغرَّد على منصة إكس، تويتر سابقًا، متّهمًا جنوب إفريقيا بالعمل كـ”ذراع قانوني لمنظمة حماس الإرهابية”. وأدلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتصريحات مماثلة. وقال يوم الخميس (11 يناير)، بحسب ما نقلت وكالة الأنباء الألمانية (د ب أ): “اليوم رأينا مرة أخرى عالمًا منقلبًا رأسًا على عقب؛ حيث تواجه دولة إسرائيل اتهامات بارتكاب جريمة إبادة جماعية، في وقتٍ تحارب فيه مفهوم الإبادة الجماعية باعتبارها أحد ضحاياه”.
__________________________
رابط المقال: