نشر “المعهد الألماني للدراسات العالمية ودراسات المناطق/ GIGA”(1) التابع لمعهد لايبنيز للدراسات العالمية والإقليمية مقالًا مطولًا أعدته البروفيسورة جوليا جراوفوجيل(2)، زميل أبحاث أول بالمعهد والمتحدث الرسمي عن فريق “GIGA Focus”، يتناول دراسة مقارنة لـ”وضع إفريقيا” في إستراتيجيات الأمن القومي الأخيرة لكل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وقوفًا على التفاوت في درجة الاهتمام التي تُوليها كل دولة على حدة لـ”قارة إفريقيا”؛ باعتبارها لاعبًا فاعلًا ومؤثرًا.
في حين ترى الكاتبة أنه يتعين على ألمانيا -بجانب اهتمامها بالتعاون الإنمائي والطاقوي في دول القارة السمراء- أن تلتفت أيضًا إلى أهمية الاستقرار السياسي في هذه الدول -وخاصةً منطقة الساحل-؛ لما لذلك من صلات وثيقة بالأمن القومي في ألمانيا، والمتعلق بتأمين إمدادات الطاقة، والحد من تيارات الهجرة وموجات العنف والإرهاب المنتقل عبر تدفقات اللاجئين.
بقلم: البروفيسورة/ جوليا جراوفوجيل
ترجمة وتقديم: شيرين ماهر
نادرًا ما تظهر الدول الإفريقية والاتحاد الإفريقي كلاعبين سياسيين مستقلين في إستراتيجية الأمن القومي الألمانية، فيما يعد الانقلاب في النيجر، بتأثيره المباشر على انسحاب الجيش الألماني من مالي، مثالًا على مدى تأثير التطورات السياسية في القارة الإفريقية، وما لها من عواقب بعيدة المدى على السياسة الخارجية والأمنية الألمانية.
– تتميز إستراتيجية الأمن القومي بمواكبتها لروح العصر، لكنها لا تأخذ في الاعتبار، بالقدر الكافي، حقيقة أن الحرب العدوانية التي شنَّتها روسيا ضد أوكرانيا لا تمثل نقطة تحوُّل شاملة بالنسبة للبلدان الإفريقية، التي تشهد بالفعل صراعات عنيفة على مدار عقود من الزمن، كما هو الحال بالنسبة لأوروبا.
– على الرغم من أن وثيقة الإستراتيجية الأمنية الألمانية تقوم على مبدأ نظام عالمي متعدد الأقطاب؛ إلا أن اهتمامها الرئيسي ينصبّ على الشركاء الغربيين؛ مثل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، بينما تلعب دول مجموعة البريكس أو مجموعة العشرين، التي لم تُذكَر بالاسم في إستراتيجيتها الأمنية، دورًا ثانويًّا.
– على عكس الإستراتيجيات الأمنية لكل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، يجري إهمال إفريقيا في الإستراتيجية الأمنية الألمانية، والتي لم يتم الإشارة إليها سوى مرتين فقط. وعلى الرغم من ذلك، يخلق مفهوم الأمن المتكامل، تزامنًا مع التركيز على الربط الأمثل بين إدارة الصراعات العسكرية والدبلوماسية والتعاون التنموي، زخمًا مهمًّا بشأن بحث آفاق التعاون المستقبلي مع إفريقيا.
وانطلاقًا من النقاط الثلاثة السابقة؛ يتعين على ألمانيا والاتحاد الأوروبي أن يعملا معًا على تكييف سياستهما الخارجية والأمنية، بشكل أفضل، قياسًا بسياسات كلّ من الصين وروسيا في إفريقيا؛ إذ أظهرت الدول الإفريقية مرونة واستقلالية واضحة في اختيار شركائها. وهذا لا يُشكِّل تحديًا أمام الغرب، فحسب، بل يتيح أيضًا فرصًا سانحة في حال أمكن تقديم عروض أفضل للتعاون.
أهمية إفريقيا المتزايدة:
عكفت ألمانيا على توسيع مشاركتها في إفريقيا في غضون السنوات الأخيرة؛ إذ تؤكد مبادئ السياسة التوسعية تجاه إفريقيا التي تبنّتها الحكومة الفيدرالية على مزيد من ديناميكية العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وإفريقيا. لكنّ مناطق ودولاً أخرى من العالم أعادت اكتشاف اهتمامها بالقارة الإفريقية. ولم تكن القمة الروسية الإفريقية في يوليو 2023م هي الوحيدة من نوعها التي عكست هذا الاهتمام. ففي ديسمبر 2022م، التقى 49 رئيس دولة وحكومة إفريقية في واشنطن، ووعد الرئيس الأمريكي جو بايدن بإنفاق 55 مليار دولار لصالح تنمية القارة، وتوسيع الاستثمارات بها. كما عقدت كلّ من الصين وتركيا وفرنسا، مؤخرًا، مؤتمرات قمة إفريقية تنافست خلالها على مصالح القارة.
هناك أيضًا العديد من الأسباب الباعثة على دعم أواصر التعاون مع القارة الإفريقية، بدءًا من جهود ألمانيا لإيجاد شركاء في تدشين نظام عالمي متعدد الأطراف، وصولًا إلى الأهمية الاقتصادية للقارة كـ “مورد” رئيسي للمواد الخام و”سوق مبيعات” لقضايا الهجرة ومكافحة الإرهاب.
وغالبًا ما ينصبّ محور الاهتمام على الجهود التي يبذلها الاتحاد الأوروبي في كل مكان لكسب تأييد الحكومات الإفريقية كـ “شركاء” في إغلاق طرق الهجرة المُهمة والمؤثرة عبر الصحراء. وفي رحلته الثالثة إلى إفريقيا، أكد المستشار الألماني أولاف شولتز على رغبته في تعميق التعاون مع حكومات غرب إفريقيا في إدارة ملف الهجرة.
وغالبًا ما يتم تصوير قارة إفريقيا على أن أغلب سكانها على أهبة الاستعداد للرحيل والنزوح، على الرغم من أن الدراسات الاستقصائية ترسم صورة متباينة لهذه الفكرة؛ فوفقًا لمسح أجراه المرصد الإفريقي “أفروباروميتر” في 34 دولة إفريقية في الفترة بين عامي 2016م و2018م؛ اتضح أن ما يزيد قليلًا عن ثلث الذين شملهم الاستطلاع قد فكروا بالفعل في الهجرة، لكنَّ ثلاثة بالمائة منهم فقط مَن أجابوا بـ(نعم) على سؤال ما إذا كانوا يقومون باستعدادات ملموسة للنزوح الفعلي (2 :2019 Afrobarometer).
في المقابل، ليست القارة الإفريقية مجرد طريق للهجرة وموجات اللاجئين، ولكنها تتمتع أيضًا بأهمية اقتصادية، فهي تُعد مصدرًا رئيسيًّا للمعادن، بالإضافة إلى استئثارها بمجموعة واسعة من المنتجات الزراعية الخام غير المُصنّعة. وبالنظر إلى تجربة الاعتمادية الغربية على روسيا في مجال الطاقة، تلعب القارة دورًا مركزيًّا في التنويع المنشود لسلاسل التوريد المتعلقة بموارد الطاقة والمواد الخام المعدنية.
بالإضافة إلى ذلك، تُعدّ إفريقيا سوقًا مستقبليًّا مهمًّا، فوفقًا للتقديرات، بحلول عام 2050م سيعيش ربع سكان العالم في إفريقيا. وهذا يجعل القارة المجاورة لأوروبا سوق مبيعات مهمة للتكنولوجيا الغربية والسلع الاستهلاكية وكذلك للسلع الصينية.
ومن الناحية الجيوسياسية؛ تلعب إفريقيا، التي تُشكّل مع 54 دولة أكبر كتلة إقليمية في الأمم المتحدة، أيضًا دورًا مهمًّا؛ لكونها شريكًا محتملًا ومهمًّا في هدف تدشين نظام عالمي متعدد الأطراف. وقد اتضحت هذه الأهمية، بشكل خاص أمام الحكومات الغربية في مارس 2022م، عندما أدانت 28 دولة فقط من أصل 55 دولة عضوة في الاتحاد الإفريقي، الحرب العدوانية الروسية على أوكرانيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة (باسيدو و جراوفوجيل/ Basedau and Grauvogel2023).
وكذلك لا يستطيع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وشركاؤهما التأكُّد، بأي حال من الأحوال، من أن الدول الإفريقية ستتفق دائمًا مع الغرب. كما أن الحكومات الإفريقية تتمتع بالمرونة عندما يتعلق الأمر باختيار الشركاء الأمنيين، ويتضح ذلك من وجود مرتزقة مجموعة فاجنر الروسية في دول مثل مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى والسودان.
دور إفريقيا الهامشي في إستراتيجية الأمن القومي:
تتناقض هذه الأهمية (المتزايدة) لإفريقيا، بشكل واضح، مع كيفية التعامل معها في إستراتيجية الأمن القومي الألمانية؛ إذ قرر مجلس وزراء الحكومة الفيدرالية وضع إستراتيجية الأمن القومي الألماني، للمرة الأولى، في يوليو 2023م. وبطبيعة الحال، لا تتضمن الإستراتيجية مجرد مبادئ توجيهية للسياسة الخارجية والأمنية للجمهورية الاتحادية. بل إن الأمر يتعلق أيضًا بالأمن على المستوى الداخلي وفي علاقات ألمانيا الخارجية.
علاوةً على ذلك، تلعب مسألة النظام العالمي الجديد المحتمل دورًا رئيسيًّا. ووفقًا للإستراتيجية الأمنية، فإننا نعيش في “عصر التعددية القطبية المتنامية” (جمهورية ألمانيا الاتحادية 2023: 12/ Bundesrepublik Deutschland:).
ومع ذلك، هناك القليل من الدِلالات الملموسة على ذلك؛ حيث لم تُذكَر إفريقيا في إستراتيجية الأمن القومي الألماني سوى مرتين؛ الأولى: تتعلق بإمدادات ألمانيا من المواد الخام، والتي جاءت في استهلال المستشار أولاف شولتز. والأخرى: جاءت في سياق الحديث عن الصراعات المسلحة، “كما تؤثر الحروب والأزمات والصراعات في جوار أوروبا على أمن ألمانيا وأوروبا. ففي سوريا والعراق وليبيا والقرن الإفريقي ومنطقة الساحل، على سبيل المثال، غالبًا ما تستمر الصراعات لسنوات عديدة” (جمهورية ألمانيا الاتحادية 2023: 23/Bundesrepublik Deutschland).
هذه الإشارة المُقتضبة تعطي انطباعًا بأن إفريقيا يُنظَر إليها، في المقام الأول، باعتبارها “بؤرة أزمات” وليست لاعبًا سياسيًّا. واتساقًا مع هذا الافتراض والنظر إلى إفريقيا في ضوء الأزمات والهجرة، فإن عدم ذكر منطقة الساحل يُعدّ أمرًا مثيرًا للدهشة. فعلى الرغم من أنها لعبت دورًا رئيسيًّا في الجدل السياسي والعام باعتبارها “نقطة اضطراب” في المنطقة الجغرافية المجاورة لأوروبا، إلا أنه لم يتم ذِكْرها سوى مرة واحدة في إستراتيجية الأمن القومي الألماني.
كما أنه لم يجرِ الإشارة إلى أكبر الدول في القارة الإفريقية، بشكل صريح على الإطلاق، مثلما جرت الإشارة إلى الهند والبرازيل. وفي المقابل، أُشير إلى الاتحاد الأوروبي (68 مرة)، والتحالفات الغربية أو الاتحادات غير الرسمية مثل حلف شمال الأطلسي (36 مرة)، ومجموعة السبع (13 مرة)، بينما لم يتم مناقشة دور مجموعة العشرين إلا ثلاث مرات، فيما لم تُذكَر مجموعة البريكس على الإطلاق.
في الواقع، لم تحتلّ مسألة عصر التعددية القطبية المنصوص عليه في إستراتيجية الأمن القومي الأهمية الكافية في سياق مناقشة شركاء ألمانيا المؤثرين. وكذلك يرجع التركيز على الشركاء الغربيين إلى أن الإستراتيجية تتأثر، بشدة، بصدمة الحرب العدوانية الروسية على أوكرانيا؛ حيث جرت الإشارة إلى روسيا باعتبارها عامل تهديد للسلام والأمن في عشرة أماكن مختلفة، مع الإشارة إلى ذلك قرابة ست مرات ضمن وثيقة الإستراتيجية.
هذا التركيز يتجاهل حقيقة أن الغزو الروسي، الذي ينتهك القانون الدولي، لا يمثل -بنفس القدر- نقطة تحول للدول الإفريقية، التي عاش العديد منها تجربة الحروب أو الصراعات المسلحة على أراضيها الوطنية أو في جوارها المباشر على مدار عقود من الزمن (بلاجمان و مايهاك 2023/Plagemann und Maihack).
للوهلة الأولى، قد لا تبدو مسألة التهميش تجاه الدول الإفريقية ذات أهمية حاسمة بالنسبة لإستراتيجية الأمن القومي الألماني. ولكن في حال اتسعت هوة تفاوت التقييمات حول التهديدات والمخاطر الرئيسية من جانب ألمانيا وأوروبا من ناحية، والحكومات الإفريقية من ناحية أخرى، فمن المحتمل أن يؤثر ذلك بدوره على الجهود المبذولة لأجل تكثيف التعاون الألماني الإفريقي في المجال الأمني.
مزيد من الحضور الإفريقي في إستراتيجيات الأمن القومي الأخرى:
ليس مُستغَربًا أن تلعب إفريقيا دورًا رئيسيًّا في إستراتيجية فرنسا الأمنية لعام 2022م؛ سواء من حيث العدد أو المحتوى. ففي الوثيقة الفرنسية التي حملت عنوان “مراجعة الإستراتيجية الوطنية” جرى ذكر إفريقيا 24 مرة، أي على قدم المساواة تقريبًا مع حلف الناتو (28 مرة). فقط كان الاتحاد الأوروبي هو الأكثر بروزًا، وفقًا للإحصاء الرقمي، وتمت الإشارة إليه بإجمالي (37 مرة).
كما تناقش الإستراتيجية الفرنسية مواجهة أوروبا مع روسيا في إفريقيا والمنافسة مع الصين، بالتزامن مع تراجع التزام واشنطن تجاه القارة الإفريقية. من هنا يتضح أن الإستراتيجية الفرنسية تتناول موضوعات مُهمة أثَّرت على السياسة الخارجية الألمانية منذ وقوع الانقلابات، فيما تم تخصيص قسم كامل -وإن كان قصيرًا- لمسألة كيف يمكن لفرنسا “المساهمة في إقرار الأمن في إفريقيا في إطار شراكات متوازنة” (الجمهورية الفرنسية 2022: 47/ Französische Republik).
وعلى مستوى لغة الخطاب؛ تضع فرنسا الشراكات المتجددة في سياق مهم يتعلق بضرورة أن تستجيب بشكل أفضل لمطالب شركائها الأفارقة. وعلى الرغم من أن “مراجعة الإستراتيجية الوطنية” ركزت، في نهاية المطاف، على التعاون العسكري مع “الجيوش الشريكة” في إفريقيا، وخاصة في منطقة الساحل (الجمهورية الفرنسية 2022: 29/ Französische Republik)؛ إلا أن هناك تغييرًا ملحوظًا في السياسة الفرنسية تجاه إفريقيا، بمعزل عن الأولوية العسكرية، تماشيًا مع تراجع التدخل العسكري الفرنسي في القارة الإفريقية.
فيما تؤكد الإستراتيجية الأمنية الفرنسية على الحاجة إلى قدر أكبر من التكامل بين الدبلوماسية والتنمية والأمن في إفريقيا، ومِن ثَم، يبدو منطقيًّا أن تلعب إفريقيا مثل هذا الدور الكبير في إستراتيجية الأمن القومي الفرنسي؛ لأن روح السياسة الفرنسية القديمة الموجهة نحو النفوذ في إفريقيا، والمعروفة إعلاميًّا باسم “إفريقيا الفرنسية/Françafrique”، لا تزال حاضرة في باريس.
ويبدو أن إستراتيجية الأمن القومي البريطاني منذ عام 2010م تؤكد على ذلك أيضًا، فكما هو الحال مع إستراتيجية الأمن القومي الألماني، لم يتم ذكر إفريقيا إلا أربع مرات في سياق الأزمات والصراعات والحروب، وتحديدًا المجاعات والإرهاب (المملكة المتحدة 2010/United Kingdom).
ولكنّ الأمر اللافت للنظر في التحديث الأخير لإستراتيجية الأمن القومي البريطاني هذا العام هو الأهمية المتزايدة لإفريقيا؛ حيث حملت إستراتيجيتها الأمنية لهذا العام عنوان “الاستجابة لعالم أكثر نزاعًا وتقلبًا”؛ إذ تشير الإستراتيجية البريطانية مباشرة إلى إفريقيا (10 مرات)، بل إنها ذكرت، بشكل منفصل، الدول التي تربطها بها شراكة في القارة؛ مثل جنوب إفريقيا وكينيا ونيجيريا. كما ساقت الإستراتيجية أسبابًا منطقية لهذا الاهتمام المتزايد، عندما أطلقت تحذيرًا بأنه يتوجب على بريطانيا أن تواجه المنافسة المتزايدة على النفوذ في إفريقيا في سياق التحولات الجيوسياسية الشاملة (المملكة المتحدة 2023: 25).
علاوة على أنه جرى بحث إستراتيجية محتملة تجاه إفريقيا، تتضمن: الشراكات التي تعطي أولوية لاحتياجات إفريقيا ووجهات نظرها أكثر من أيّ وقت مضى، فضلًا عن الاستثمارات الضخمة؛ بما في ذلك في مجالي البنية التحتية والتكيف مع أزمة المناخ.
والواقع أن إفريقيا تلعب أيضًا دورًا رئيسيًّا في إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي الأخيرة؛ إذ ذكرت وثيقة الإستراتيجية، التي نشرها البيت الأبيض في أكتوبر 2022م، إفريقيا (34 مرة)؛ أي ضعف المرات التي أشارت فيها إلى حلف شمال الأطلسي (17 مرة)، وما يقرب من ثلاثة أضعاف ذِكرها للاتحاد الأوروبي (12 مرة). وتحت عنوان “بناء شراكات أمريكية-إفريقية في القرن الحادي والعشرين”، تم تخصيص فصل كامل لعلاقات واشنطن مع القارة الإفريقية (البيت الأبيض 2022: 43-44/White House).
ويناقش الأسباب التي تستشهد بها إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي بشأن الأهمية المتزايدة لإفريقيا، ووصفها بأنها ليست مفاجئة؛ فقد تم التأكيد بنفس القدر على أهمية الموارد الطبيعية، والدور الذي تلعبه القارة المكتظة بالسكان كسوق إنمائي، علاوة على كونها أكبر كتلة إقليمية تصويتية في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وبناءً على ذلك، تؤكد الإستراتيجية الأمريكية على أنه من مصلحة الأمن القومي الأمريكي العمل، ليس فقط مع الحكومات الإفريقية، بل وأيضًا مع المنظمات الإقليمية، والمجتمع المدني الإفريقي، والقطاع الخاص، والمغتربين. وهو تصريح مثير للدهشة، نظرًا لانخفاض التدخل الأمريكي في إفريقيا.
بل إن الإستراتيجية الأمنية الأمريكية تؤكد على الأهمية الجيوسياسية للقارة بالنسبة للولايات المتحدة؛ إذ لاتريد الولايات المتحدة أن تكون أقل شأنًا من منافسيها الصينيين والروس في إفريقيا، وهو ما أكَّدته مؤخرًا العديد من الزيارات رفيعة المستوى التي قام بها ممثلو إدارة بايدن إلى إفريقيا؛ بما في ذلك نائبة الرئيس كامالا هاريس ووزير الخارجية أنتوني بلينكن.
وفي الإستراتيجية الأمنية الأمريكية؛ جرى وصف إفريقيا بأنها شريك على قدم المساواة في مجال مكافحة الأوبئة العالمية وتغيُّر المناخ والإرهاب.
وعلى الرغم من التأكيد الواضح على أهمية إفريقيا في إطار إستراتيجيات الأمن القومي العالمي؛ لكنه من المخيب للآمال عندما لا يتوافق ذلك مع الواقع الملموس. فعلى سبيل المثال، خلال جائحة كورونا، جاء التوزيع غير العادل للقاح على حساب الجنوب العالمي، ما أدَّى إلى أن تفقد الدول الغربية الكثير من مصداقيتها بشأن إفريقيا.
الأمن المتكامل بمثابة دافع مهم:
على الرغم من الإشارات القليلة الصريحة لإفريقيا في إستراتيجية الأمن القومي الألماني الأولى؛ إلا أنها تسوق دوافع مهمة لسياسة ألمانيا الخارجية والأمنية المستقبلية تجاه القارة. وينطبق ذلك، بشكل خاصّ، على ثلاثة مجالات: المفهوم الأساسي للأمن المتكامل، والتركيز على الآثار الأمنية المترتبة على تغير المناخ وبالتالي زيادة انعدام الأمن الغذائي، والنظر في إقامة شراكات عالمية (جديدة).
تتبع الإستراتيجية الأمنية الألمانية سياسة الأمن المتكامل. ولذلك فإن الأمر يتعلق بالجمع بين “الوسائل المدنية والعسكرية والشرطية للحيلولة دون وقوع الأزمات وحل النزاعات وتعزيز السلام” (جمهورية ألمانيا الاتحادية 2023: 14/Bundesrepublik Deutschland). ووفقًا للإستراتيجية الألمانية، يتضمن ذلك التفكير في سياسات التنمية كسياسة أمنية مستدامة والربط الوثيق بين ممارسات الجيش الألماني والدبلوماسية. وهناك أمثلة عديدة على الحاجة إلى اتباع مثل هذا النهج: في حين قدَم “الكتاب الأبيض/Weißbuch” (3) لعام 2006م مفهوم الأمن الشبكي، ولكن ظل هذا المفهوم في صراعات بعينها بدءًا من أفغانستان ووصولًا إلى مالي مجرد شعار أجوف (تول 2020/(Tull.
وكانت التدابير المدنية موجهة في كثير من الأحيان نحو أهداف عسكرية (ماساي 2021/(Matthay.
ومن الممكن أن يساعد النهج الأمني المتكامل في التغلب على أولوية المؤسسة العسكرية في التعامل مع الصراعات الإفريقية، والتي كانت موضع انتقاد في كثير من الأحيان في الماضي. ومع ذلك، إذا كان الأمر أكثر من مجرد شعار أجوف، فيجب بحث ومناقشة العلاقة الدقيقة بين العمليات العسكرية التي غالبًا ما تكون قصيرة إلى متوسطة المدى والأهداف السياسية (طويلة المدى) بصورة أكثر تحديدًا.
تشير الإستراتيجية الألمانية أيضًا إلى تغير المناخ وأزمة الغذاء، باعتبارهما مشكلتين شديدتى الإلحاح بالنسبة للقارة الإفريقية، ويمكنهما تأجيج الصراعات أو حتى إشعالها. وتقع العديد من البلدان شديدة التضرر بالعواصف العاتية وموجات الجفاف والحرارة في إفريقيا، التي تمثل أيضًا مشكلة الغذاء في العالم. ومع تفاقم الوضع بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتغير المناخ، تشير التقديرات إلى أن ربع سكان إفريقيا يعانون من انعدام الأمن الغذائي (منظمة الأغذية والزراعة 2022/FAO).
تستوعب إستراتيجية الأمن القومي أن هذه ليست مجرد مشكلة إنسانية، فحسب، وإنما تُلقي بظلالها أيضًا على “الأمن القومي الألماني” (جمهورية ألمانيا الاتحادية 2023: 26/Bundesrepublik Deutschland)، وبالتالي تمهّد الطريق للسعي إلى حل مشكلات أكثر إلحاحًا. وسوف تصبح هذه الجهود ذات مصداقية إذا قدم الغرب التزامًا طويل الأجل تجاه القارة، ولم يستجب بصورة انتقائية للأزمات الغذائية الحادة، كما هو الحال في جمهورية الكونغو الديمقراطية وإثيوبيا وأجزاء من نيجيريا، أو الظواهر الجوية المتطرفة، مثل فيضانات شرق إفريقيا الواقعة في ربيع عام 2023م.
وإذا تتبعنا نهج إستراتيجية الأمن القومي، فلا ينبغي أن تصبح الحكومات الإفريقية متلقية للمساعدات فحسب، بل ينبغي لها أيضًا أن تكون شريكة في النظام العالمي الجديد، خاصةً وأن أهداف تشكيل هذه الشراكات طموحة: يجب أن تكون شراكات عادلة ومستدامة، وتفيد كلا الجانبين ولا تخلق تبعيات أحادية الجانب (جمهورية ألمانيا الاتحادية 2023: 7، 42/Bundesrepublik Deutschland).
ومن ثم، يصبح ما يعنيه ذلك واضحًا، بشكل ملموس، فيما يتعلق بالسياسة التجارية وتفكيك القيود التجارية. كما أنه ليس بالأمر الجديد إدراك أن علاقة ألمانيا وأوروبا مع إفريقيا تتطلب إعادة تنظيم السياسات التجارية والزراعية؛ فلم يبقِ حتى الآن سوى إحراز تقدم ملموس، خاصة فيما يتعلق بخفض إعانات الدعم الزراعية.
لا توصيات فرعية بشأن السياسة الخارجية والأمنية:
لا شك أن إستراتيجية الأمن القومي ليست كافية لتحديد أُطر العلاقات، بصورة تفصيلية، مع قارة تضم 54 دولة، إلا أن غياب إفريقيا عن إستراتيجية الأمن القومي الألماني -خاصةً عند مقارنتها بالإستراتيجيات الأمنية للشركاء الغربيين الآخرين- يثير التساؤلات. وإذا لم نترك للولايات المتحدة أو فرنسا مهمة تحديد الشراكة الغربية مع إفريقيا، فيتعين على السياسة الخارجية والأمنية الألمانية أيضًا أن تعطي الأولوية للتعاون مع إفريقيا، بل وإعادة النظر في هذا التعاون إذا لزم الأمر.
هناك العديد من نقاط الانطلاق للمضي قُدمًا في هذا المسار؛ لقد شجعت “مراجعة الإستراتيجية الوطنية” الفرنسية على التفكير في الكيفية التي يمكن بها لألمانيا أن تضع نفسها في قلب إفريقيا لمواجهة روسيا والصين، وكذلك في مواجهة لاعبين مهمين آخرين مثل؛ تركيا ودول الخليج والبرازيل والهند.
كما تُظهِر الإستراتيجية الأمنية الأمريكية، ولو نظريًّا، كيف يمكن تصميم شراكات لا تصبح فيها المساواة مجرد عبارة جوفاء. ولكن الإستراتيجية الأمنية التي تتبناها ألمانيا، ورغم تركيزها على الأمن المتكامل، ساقت أيضًا توجهًا مهمًّا لرأب صدوع مفهوم الأمن الشبكي، الذي فقد مصداقيته -خاصةً بسبب فشل المهمة الأمريكية في أفغانستان- وصولًا إلى مضمون حقيقي.
وعند الشروع في تدشين شراكات عالمية جديدة، وهو الأمر الذي تمت مناقشته أيضًا في الإستراتيجية الأمنية الأولى، تواجه ألمانيا تحديًا جليًّا يتمثل في ظهور الحكومات الإفريقية الواثقة من نفسها بشكل متزايد في مواجهة العديد من الشركاء المحتملين (بلاجمان و مايهاك 2023/Plagemann and Maihack).
ولذلك يتعين على ألمانيا وأوروبا تقديم عروض أفضل في حال لم يرغبا في ترك الساحة فارغة أمام الصين أو روسيا أو لاعبين آخرين.
ويتضمن هذا تحديد الاهتمامات والأولويات بمصداقية؛ وهو ما يتطلب، كخطوة أولى، تحديد الأهداف الإستراتيجية للتعاون مع إفريقيا بشكل أكثر وضوحًا. وهنا، تقدم الإستراتيجية الأمنية نقاط انطلاق متباينة، من تنويع سلاسل التوريد (المواد الخام)، إلى الكفاح المشترك ضد تغيُّر المناخ ومواجهة الأوبئة العالمية.
كما أن المصالح المتنوعة لألمانيا، التي ترى في إفريقيا سوق مبيعات وموردًا مهمًّا للمواد الخام، وحليفًا لنظام عالمي متعدد الأقطاب ولاعبًا مهمًّا في الحد من تيارت الهجرة، ليست متطابقة بالضرورة مع مبادراتها وخططها في القارة السمراء بالقدر الكافي. وهذا يتطلب إجراء نقاش موسَّع يتسم بالشفافية حول أُطر التعاون المشتركة، علاوةً على تحديد أولويات المصالح المختلفة.
وفي الوقت نفسه، من الضروري عدم تطبيق معايير مزدوجة عند الدعوة إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية إذا ما كانت هناك رغبة حقيقية أن تتمتع السياسة الخارجية القائمة على المصالح والقيم بمصداقية حقيقية. ويشمل ذلك، على سبيل المثال، عدم مغازلة دول مثل النيجر؛ التي جرى الإشادة بها كشريك نموذجي باعتبارها آخر ديمقراطية متبقية في منطقة الساحل، على الرغم من أنها، وفقًا لاستطلاعات مؤشر الديمقراطية “فريدم هاوس”، كانت تتمتع بحرية جزئية فقط قبل الانقلاب.
وطالما أن الحكومات المعنية تشعر بالقلق إزاء الحدود وتهتم بملف الهجرة، وفي ظل التفاعل الصعب وغير المتسق دائمًا بين المصالح والقِيَم، لن يكون هناك نهج موحد لكل الشراكات الجديدة، بل سيكون هناك بحث شاق عن تحالفات جديدة مع حكومات إفريقية سواء بصورة فردية أو مؤسسية ودولية، اعتمادًا على المجالات ذات الصلة الخاصة بكلّ منها.
_________________________________
مراجع:
Afrobarometer (2019), ‘Updata-ing’ the Narrative about African Migration, Zugriff 22. November 2023.
Basedau, Matthias und Julia Grauvogel (2023), Ten Things to Watch in Africa in 2023, GIGA Focus Afrika, 1, Januar, Zugriff 23. November 2023.
Bundesrepublik Deutschland (2023), Wehrhaft. Resilient. Nachhaltig. Integrierte Sicherheit für Deutschland, Zugriff 22. November 2023.
FAO (2022), The State of Food Security and Nutrition in the World 2022, Zugriff 22. November 2023.
Französische Republik (2022), Nationale strategische Überprüfung, Zugriff 22. November 2023.
Matthay, Sabine (2021), Was der „vernetzte Ansatz“ beim Afghanistan-Einsatz gebracht hat – und was nicht, Deutschlandfunk, 3. Dezember, Zugriff 22. November 2023.
Plagemann, Johannes und Henrik Maihack (2023), Wir sind nicht alle: Der Globale Süden und die Ignoranz des Westens, Berlin: C.H. Beck.
Tull, Denis (2020), Deutsches und internationales Krisenmanagement im Sahel, Berlin: SWP, Zugriff 22. November 2023.
United Kingdom (2023), Integrated Review Refresh 2023: Responding to a More Contested and Volatile World, Zugriff 22. November 2023.
United Kingdom (2010), A Strong Britain in an Age of Uncertainty: The National Security Strategy, Zugriff 22. November 2023.
White House (2022), National Security Strategy, Zugriff 22. November 2023.
____________________________
هوامش:
- المعهد الألماني للدراسات العالمية ودراسات المناطق/ GIGA: هو معهد أبحاث دولي معني بدراسات مقارنة حول المناطق وتقييم أهميتها. يعمل به ما يقرب من 160 شخصًا، 90 منهم من علماء السياسة أو الاقتصاديين أو علماء الاجتماع أو باحثي السلام والنزاع أو المؤرخين. يعكف الأكاديميون على إعداد دراسات حول إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. ويعملون حول القضايا التالية: المساءلة والمشاركة، السلام والأمن، النمو والتنمية، والقوة والأفكار. وفريق “GIGA Focus” يقوم بإعداد تحليلات موجزة حول التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحالية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، فضلاً عن تقييم الاتجاهات العالمية، مع وضع توصيات محددة للعمل، تستهدف بشكل خاص صناع القرار السياسي وتحتوي أيضًا على جوانب رئيسية لممثلي وسائل الإعلام والجمهور المهتم.
- جوليا جراوفوجيل: حاصلة على درجة الدكتوراه من جامعة هامبورج ودرجة الماجستير في “أبحاث السلام والسياسة الدولية” من جامعة إيبرهارد كارلس في توبنجن. هي أيضًا زميل أبحاث أول بمعهد “GIGA” والمتحدث الرسمي باسم فريق البحث “GIGA Focus”. عملت مساعد باحث في مشروع “الانتشار والتعاون الدولي للأنظمة الاستبدادية – شبكة IDCAR” الممول من معهد لايبنتر، كما شاركت في مشروع بحثي بعنوان “العقوبات غير الفعّالة؟ العقوبات الخارجية واستمرار الأنظمة الاستبدادية” الممول من مؤسسة فريتز تايسن.
- الكتاب الأبيض: صدر لأول مرة في ألمانيا في 1994م، وهو الكتاب الذي يحدّد المحاور الأساسية لسياسة ألمانيا الدفاعية، والذي جرى تحديثه في 2006م وأخيرًا في 2016م.
_________________________
رابط التقرير: