بسمة سعد
باحثة في المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية
في خطوةٍ تحمل العديد من الدلالات حول إستراتيجية رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد تجاه منطقة القرن الإفريقي، وحول مكانة إثيوبيا الإقليمية في خضم التطورات السياسية والأمنية التي تشهدها دول القرن الإفريقي، ومحيطه الجغرافي؛ قام آبي أحمد بتوقيع مذكرة تفاهم مع جمهورية أرض الصومال في الأول من يناير 2024م، للاستحواذ على حصة غير محددة من ميناء بربرة، تفجَّرت على إثره الخلافات بين إثيوبيا والصومال، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تسبَّبت هذه الخطوة في توتُّر محدود في علاقات إثيوبيا مع دول القرن الإفريقي، التي أبدت رفضها لهذه الخطوة، وهو ما يدفع للتساؤل عن: دوافع ودلالات توقيع أديس أبابا مذكرة تفاهم مع أرض الصومال؟
انطلاقًا مما سبق، يهدف المقال لتقديم قراءة أولية لأبرز ما ورد من معلومات بشأن مذكرة التفاهم، إلى جانب تناول مواقف دول القرن الإفريقي، وكذلك حركة الشباب الصومالية من اتخاذ أرض الصومال هذه الخطوة المفاجئة، ناهيك عن مناقشة الدوافع المتبادلة التي تقف وراء تفضيل إثيوبيا وأرض الصومال توقيع مذكرة التفاهم المُثيرة للقلق والتوتر دون باقي دول القرن الإفريقي، وما تحمله هذه الخطوة من دلالات متعددة الأبعاد، وذلك على النحو التالي:
أولًا: قراءة في مذكرة التفاهم الموقَّعة بين إثيوبيا وأرض الصومال وموقف دول القرن الإفريقي
على الرغم من عدم ورود معلومات معلنة وتفصيلية حول بنود مذكرة التفاهم الموقَّعة بين إثيوبيا وأرض الصومال؛ حيث قالت السلطات الإثيوبية: إنها ستعلن التفاصيل كاملة رسميًّا خلال فترة وجيزة، إلا أن أبرز ما ورد من تفاصيل حول الاتفاق تتمثل في منح إثيوبيا منفذًا على البحر الأحمر على طول 20كلم، عبر الاستحواذ على حصة غير محددة من ميناء بربرة لمدة 50 عامًا، بالإضافة إلى إقامة قاعدة عسكرية([1])؛ حيث صرح مستشار آبي أحمد للأمن القومي رضوان حسين، بأن الاتفاق قد يُمكِّن إثيوبيا من الوصول إلى “قاعدة عسكرية مستأجرة” في البحر، لكنه لم يفصح عن تفاصيل إضافية حول هذا الأمر([2]).
ويأتي هذا نظير اعتراف إثيوبيا رسميًّا بجمهورية أرض الصومال في المستقبل، ومنح الأخيرة حصة في الخطوط الجوية الإثيوبية، مثلما جاء على لسان موسى بيهي عبدي رئيس جمهورية أرض الصومال غير المعترف بها دوليًّا منذ إعلان استقلالها من جانب واحد عن الصومال في العام 1991م([3]). ومِن ثَم، تُعد مذكرة التفاهم بمثابة بيان نوايا يُمكن أن يقود إلى اتفاقية مُلزمة قانونيًّا، تكشف عن محاولة إثيوبية لجس نبض دول القرن الإفريقي حول ردود فعلهم بشأن المساعي الإثيوبية للحصول على منفذ بحري واتخاذ خطوات فعلية تجاه هذا الأمر، بالإضافة إلى إثارة ما يُمكن أن يطلق عليه “الغيرة السياسية” لدى باقي دول القرن، بشأن حجم العوائد الاقتصادية والمالية التي ستتمتع بها أرض الصومال نظير توقيع مذكرة التفاهم، والتي كانت من الممكن أن تكون من نصيب أيّ منهم، لا سيما إريتريا باعتبارها أحد حلفاء آبي أحمد خلال حربه على إقليم تيجراي، وهي الأحق بجَنْي هذه المكاسب جراء دعمها القويّ لآبي أحمد خلال هذه الحرب.
فمن الجدير بالذكر، أن أديس أبابا تنفق رسومًا تُقدَّر بـ1.5 مليار دولار سنويًّا لاستخدام موانئ جيبوتي، وهو مبلغ ضخم بالنسبة لدولةٍ وجدت صعوبة في حل أزمة ديونها([4]). بل يُمكن القول: إن توقيع مذكرة التفاهم مع أرض الصومال كان بمثابة تذكير لإريتريا بخطأ تقديراتها بشأن مُقترح إثيوبي سبق أن قدمته الأخيرة إلى إريتريا، عرضت بموجبه أديس أبابا نحو 30% من الأسهم في شركة الخطوط الجوية الإثيوبية كورقة مساومة للوصول إلى الموانئ المرغوبة([5]) في إريتريا، لا سيما مينائي عصب ومصوع.
وفي الماضي، سبق أن أبرمت إثيوبيا اتفاقية في مارس 2018م، لتطوير ميناء بربرة، تمتلك بموجبها موانئ دبي العالمية 51% من المشروع، و30% لـموانئ أرض الصومال، بينما تبلغ حصة إثيوبيا 19%، لكن يبدو أن الاتفاقية لم ترَ النور([6])، فلجأت أديس أبابا إلى توقيع هذه الاتفاقية لترجمة طموحها في تسيير تجارتها البحرية عبر منفذ مطل على البحر الأحمر، تتمكّن من خلاله بنقل نحو 30% على الأقل من تجارتها مع جيبوتي عبر ميناء بربرة([7])، وبالتالي فتح المجال أمام أديس أبابا لتعزيز علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع أرض الصومال، وتحرّر أديس أبابا من اعتمادها الرئيسي على جيبوتي كمنفذ رئيسي على البحر الأحمر لتعاملاتها التجارية، ومِن ثَم اتخاذ أولى خطواتها لتسيير تجارتها البحرية.
ونما الناتج المحلي الإجمالي لأرض الصومال، التي يبلغ عدد سكانها 5.7 مليون نسمة، من 1.8 مليار دولار في عام 2011م إلى 3.38 مليار دولار في عام 2021م، وفقًا لأرقام إدارة الإحصاء المركزية في البلاد. لقد خططت الحكومة منذ فترة طويلة لتطوير ممر بربرة لبثّ حياة جديدة في الاقتصاد الذي كان يعتمد عادة على الزراعة والرعي.
ووقَّعت امتيازًا مدته 30 عامًا مع موانئ دبي العالمية لتطوير ميناء بربرة في عام 2016م، ومن المتوقع أن يصل الاستثمار إلى 442 مليون دولار عبر ثلاث مراحل تطوير. كما شاركت شركة بريتيش إنترناشونال إنفستمنت، وهي ذراع تمويل التنمية التابع لحكومة المملكة المتحدة، في ذلك، مما جعل بربرة أحد الموانئ الإفريقية الثلاثة التي تدعمها جنبًا إلى جنب مع موانئ دبي العالمية (الاثنان الآخران هما داكار في السنغال والسخنة في مصر).
أنفقت موانئ دبي العالمية بالفعل 250 مليون دولار لتعزيز القدرة في ميناء بربرة، الذي أصبح الآن قادرًا على التعامل مع 500 ألف وحدة سنوية مكافئة لعشرين قدمًا، وهو المقياس القياسي لسعة حاويات البضائع. كما أطلقت أيضًا منطقة حرة مجاورة في أواخر عام 2022م، والتي قامت بالفعل بالتسجيل كمستأجر لشركة الأغذية IFFCO ومقرها الإمارات العربية المتحدة. وفي الوقت نفسه، يقوم صندوق أبوظبي للتنمية بتمويل ممر بربرة، وهو الطريق الممتد من ميناء بربرة إلى موقع توغ وجالي، على الجانب الصومالي من الحدود الإثيوبية.([8])
ثانيًا: ما بين الرفض والغضب الكامن.. موقف دول القرن الإفريقي وحركة الشباب من توقيع مذكرة التفاهم
حتى الآن، لا تزال تتوالى ردود الفعل بشأن توقيع أرض مذكرة تفاهم مع إثيوبيا تمنحها تأجير ميناء بربرة لمدة 50 عامًا، ولكنها في العموم اتخذت مسارًا رافضًا لهذه الخطوة كالتالي:
1- رفض صومالي شديد وإحراج جيبوتي
عقب إعلان كل من أرض الصومال وإثيوبيا عن توقيع مذكرة التفاهم التي تمنح أديس أبابا منفذًا على البحر الأحمر؛ خرجت حكومة الصومال لتؤكد أن “جمهورية أرض الصومال جزء من أراضيها”، تبعها اتخاذ قرار باستدعاء سفيرها في إثيوبيا للتشاور؛ احتجاجًا على مذكرة التفاهم، كما عقد مجلس الوزراء الصومالي، برئاسة حمزة عبدي باري، اجتماعًا طارئًا، أصدر عقبه بيانًا قال فيه: “إن توقيع مذكرة التفاهم لا أساس له من الصحة، وهو اعتداء سافر على السيادة الداخلية لجمهورية الصومال الفيدرالية”، ودعا البيان الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والاتحاد الأوروبي والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد)، إلى اجتماع طارئ بهذا الخصوص.
فيما قال الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، في تدوينة على منصة إكس: “أدنّا الانتهاك غير المشروع الذي قامت به إثيوبيا لسيادتنا الوطنية وسلامتنا الإقليمية ورفضناه. لا يمكن، ولن يمكن لأحد، أن ينتزع شبرًا من الصومال. الصومال مِلْك للشعب الصومالي. هذا أمر محسوم”.
بينما قال رئيس الوزراء الصومالي: «ما من أحد يمكنه أن ينتهك أي جزء من أراضي الصومال أو بحره أو جوه»، ناهيك عن قيام الرئيس الصومالي في 7 يناير بتوقيع قانون يلغي مذكرة التفاهم([9]).
ويأتي تصاعد التوتر في العلاقة بين الحكومة الصومالية وحكومة أرض الصومال عقب استئناف المحادثات بين الجانبين بوساطة من الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلة في 28 ديسمبر الماضي، والتي تم خلالها الاتفاق على إقامة تعاون كامل في المسائل الأمنية، واستعادة السلام والاستقرار في مناطق النزاع، إلى جانب تعهد الجانبان بالاتفاق على خارطة طريق للمحادثات في غضون 30 يومًا([10]). لكن لم يُكتب لها السداد بتوقيع مذكرة التفاهم، التي تسبَّبت في إحراج الرئيس الجيبوتي الذي كان يخوض تجربة الوساطة بينما كانت أرض الصومال وإثيوبيا تُخططان لاتخاذ هذه الخطوة. لذا قام الرئيس إسماعيل عمر جيلي بتوبيخ السفير الإثيوبي لدى بلاده بسبب إخفائه تفاصيل المفاوضات مع أرض الصومال([11]).
2- صمت إريتري وغضب كامن
على الرغم أن إريتريا حبَّذت الصمت وعدم التعليق على الاتفاقية؛ إلا أنه مِن المُلاحَظ أن العلاقات الإثيوبية الإريترية في الآونة الأخيرة تشهد توترًا متصاعدًا على خلفية تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد الخاصة بحق الأمة الإثيوبية في الحصول على منفذ بحري على البحر الأحمر، مستشهدًا بمقولة لـ”علولا أنغيدا” (المعروف بـ”آبا نيغا”) القائد العسكري الإثيوبي في القرن التاسع عشر، الذي قال: إن “البحر الأحمر هو الحدود الطبيعية لإثيوبيا”، وذلك خلال خطابه الذي ألقاه في 13 أكتوبر 2023م أمام البرلمان، هذا إلى جانب ما ورد من تسريب حديث سابق لآبي أحمد، يقول فيه: إن “إثيوبيا ستعمل على تأمين الوصول المباشر إلى الميناء، إما سلميًّا أو بالقوة إذا اقتضى الأمر”([12]). وهي تصريحات من شأنها أن تُثير قلق دول القرن الإفريقي المطلة على البحر الأحمر (الصومال، إريتريا، جيبوتي) بشأن استعادة المنطقة مرحلة التوتر وعدم الاستقرار وحروب الوكالة على ضوء الطموح الإثيوبي بانتزاع منفذ بحري؛ سلميًّا أو بالقوة.
وبكلمات مقتضبَة وحازمة دون إشارة صريحة للجار الإثيوبي، جاء الرد الإريتري على تصريحات آبي أحمد في بيان من أربعة أسطر صادر عن وزارة الإعلام الإريترية، واصفًا الحديث حول المياه والمنافذ البحرية بأنها أحاديث القيل والقال، ناصحًا المتابعين بعدم الانجرار وراء تلك الأقاويل، مضيفًا أن الحكومة الإريترية لا تُعير تلك الدعوات أهمية تُذْكَر، وهو البيان الذي تبعه تعمُّد كلّ من أفورقي وآبي أحمد تجاهل بعضهما البعض خلال القمة السعودية-الإفريقية المنعقدة في شهر نوفمبر الماضي([13])، وهو ما يكشف عن رفض غير مُعلَن وغضب إريتري كامن بشأن توقيع إثيوبيا مذكرة التفاهم، يُنذر في حقيقته بتصعيد محتمل في الإقليم إثر السياسة الإثيوبية في المنطقة.
3- حركة الشباب تعلن عن رفضها لمذكرة التفاهم
يبدو أن المواقف الصومالية الإريترية الجيبوتية بشأن توقيع أرض الصومال مذكرة التفاهم مع إثيوبيا، باتت مشتركة مع حركة الشباب التي أعلنت عن رفضها لهذه الخطوة، معتبرة أن الصفقة “غير قانونية”، و”تنتهك السيادة الصومالية”، وأنها مدعومة من “المرتدين والخونة”، مثلما جاء على لسان المتحدث الرسمي باسم الحركة علي محمود راجي، الذي دعا كذلك جميع الصوماليين إلى “الوقوف دفاعًا عن بلدكم”، و”القتال ضد أولئك الذين يغزوون بلادكم، على غرار ما فتحه اليهود في فلسطين”. واصفًا تصريحات آبي أحمد بشأن حق إثيوبيا في الحصول على منفذ بحري بأنه “توسع صليبي إثيوبي”، ووعدت الحركة بالرد على أيّ تحركات إثيوبية داخل الأراضي الصومالية([14]).
ومن ثم، تعمل حركة الشباب من خلال تسجيل موقفها الرافض لتوقيع أرض الصومال مذكرة التفاهم مع إثيوبيا، على إلقاء نفسها في المشهد السياسي والأمني في الصومال، في خضم حالة الجدل والغضب الواسعين بشأن مذكرة التفاهم داخل الأروقة السياسية، إلى جانب طرح نفسها كقوة فاعلة مُنافِسة للحكومة يُمكن الاستناد إليها لحماية حقوق الشعب الصومالي، وسيادته على كامل أراضيه، وبالتالي توظيف هذا الحدث وما حققه من صدًى في تجنيد مزيد من العناصر للحركة، وتوسيع قاعدتها الشعبية التي تُعدّ إحدى الأدوات الرئيسية للتمركز وترسيخ النفوذ في الصومال، بل وكذلك التمدد في دول إقليم شرق إفريقيا.
ثالثًا: دوافع ودلالات توقيع الاتفاق الإثيوبي مع أرض الصومال
إن اتخاذ آبي أحمد هذه الخطوة المفاجئة، يُعدّ قرارًا يحمل العديد من الدلالات، كما يكشف عن دوافع متعددة ومتباينة وراء كل من إثيوبيا وأرض الصومال كانت سببًا رئيسيًّا لاتخاذهما هذا القرار الذي أثار موجة غضب لدى دول القرن الإفريقي، لا سيما الصومال، وهو ما يُمكن مناقشته كالتالي:
1- سجن الجغرافيا.. التخلص من العقدة الإثيوبية كدولة حبيسة
من المتعارف عليه، أن إثيوبيا دولة حبيسة في منطقة القرن الإفريقي منذ استقلال إريتريا عام 1993م، وتعتمد على ميناء جيبوتي في تمرير نحو 95% من تجارتها البحرية من صادرات وواردات، ما يرهن الاقتصاد الإثيوبي على متانة العلاقات بين البلدين، وحجم الاستقرار في الداخل الجيبوتي، لذا حاولت أديس أبابا خلال الأعوام السابقة تنويع منافذها البحرية على البحر الأحمر؛ لتحرّر اقتصادها وتجارتها من الاعتماد الوحيد على جارتها جيبوتي؛ خاصةً مع ما أطلقته قوات شعب تيجراي من تهديدات بقطع الطريق الرئيسي الواقع في إقليم عفر والواصل بين العاصمة أديس أبابا وميناء جيبوتي خلال الحرب الإثيوبية الأخيرة([15])، والذي فرض على القيادة الإثيوبية العمل على تأمين منافذ بديلة لميناء جيبوتي على البحر الأحمر والمحيط الهندي لتسيير تجارتها البحرية الخارجية.
يُضاف إلى ذلك، استند آبي أحمد في كلمته أمام البرلمان الإثيوبي في أكتوبر، إلى الكثافة السكانية الإثيوبية البالغة نحو 150 مليونًا كمُبَرِّر لتوقيعها مذكرة التفاهم مع أرض الصومال، باعتبارها عاملاً ضاغطًا على أديس أبابا يدفعها للبحث عن منافذ بحرية باعتبارها قضية وجودية لفك “سجن الجغرافيا” الإثيوبي، داعيًا دول القرن الإفريقي للبحث عن طريقة للتشارك المتبادل بطريقة متوازنة مع دول القرن الإفريقي في التمتع بمنافذ بحرية على البحر الأحمر([16]).
في هذا السياق، قام آبي أحمد في إطار إستراتيجيته للسيطرة على الموانئ المطلة على البحر الأحمر والمحيط الهندي بتوقيع سلسلة من الاتفاقات مع بعض دول الجوار الجغرافي مثل كينيا (ميناء لامو) والسودان (بورسودان) وكذلك جيبوتي وأرض الصومال، منحتها حصصًا في هذه الموانئ تُمكِّنها من تطويرها واستخدامها لتسيير تجارتها مع العالم الخارجي([17])، وذلك تزامنًا مع انتهاج آبي أحمد مسار تأسيس قوة إثيوبية بحرية لحماية تجارتها المارة عبر البحر الأحمر من جانب، وطرح نفسها كقوة عسكرية شاملة قادرة على حماية الأمن البحري لدول القرن الإفريقي من جانب آخر، وبالتالي تعزيز مكانتها في إقليم شرق إفريقيا كقوة عسكرية واقتصادية.
خريطة ميناء بربرة في أرض الصومال
المصدر: قراءات إفريقية
علاوة على ذلك، فإنه لطالما نظرت أديس أبابا إلى منطقة القرن الإفريقي وحوض النيل والبحيرات العظمى كمنطقة نفوذ إقليمي؛ اتساقًا مع طموحها ومشروعها الإقليمي للهيمنة الإثيوبية، وهو ما لا يُمكن تحقيقه دون التخلص من عقدتها كدولة حبيسة عبر تأمين منافذ بحرية متعددة، تضمن لها كذلك فرض نفسها في أي تكتلات أمنية لحماية الممر الملاحي الدولي المهم، بما في ذلك الانضمام إلى مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن الذي تأسس عام 2020م، والذي يضم مصر والسودان وإريتريا وجيبوتي والصومال من الضفة الإفريقية للبحر الأحمر، والسعودية والأردن واليمن من الجانب الآسيوي.([18])
2- الموقع الجيوسياسي لأرض الصومال
تتمتع أرض الصومال بأهمية ججيوسياسية بالغة تجعلها محط أنظار العديد من القوى الدولية والإقليمية؛ حيث تقع منطقة صوماليلاند على خليج عدن، وبالتحديد في شمال الصومال، وتحدّها إثيوبيا من الغرب وجيبوتي من الشمال الغربي، وخليج عدن من الشمال، وهو ما يجعلها في قلب التفاعلات الدولية والإقليمية الدائرة من أجل حماية حركة التجارة الدولية المارّة عبره.
هذا الموقع الإستراتيجي الممتاز لأرض الصومال قد يفسر ما تكتسبه من شرعية دولية ضمنية رغم عدم حصولها على اعتراف دولي، تنعكس في السماح بإقامة ممثليات دبلوماسية، أو معاملات تجارية مع العالم الخارجي، بالإضافة إلى إشادة وفد من الاتحاد الأوروبي بالانتخابات التي جرت في أرض الصومال، وتهنئته للشعب والحكومة ومفوضية الانتخابات والأحزاب السياسية على إجراء الانتخابات بنجاح([19]).
3- مكاسب متعددة لأرض الصومال نظير توقيع مذكرة التفاهم
ليس من المعقول أن تتَّجه أرض الصومال لاتخاذ هذه الخطوة المفاجئة التي ضربت أرض الصومال بموجبها مسار المباحثات الثنائية مع الحكومة الصومالية بوساطة جيبوتي، عرض الحائط، إلى جانب الإضرار بعلاقات هرجيسا الخارجية، لا سيما مع الصومال وجيبوتي، دون ضمان أرض الصومال حصولها على مكاسب متعددة تدفعها للمغامرة؛ فعلى الرغم من عدم ورود تفاصيل حول مذكرة التفاهم، إلا أن مذكرة التفاهم ستمنح أرض الصومال فرصة لتحديث بنيتها التحتية وإقامة الطرق والسكك الحديدية، وكذلك الاستفادة من كهرباء سد النهضة على وجه الخصوص([20])، ناهيك عن التلويح الإثيوبي بورقة الاعتراف بأرض الصومال كدولة مستقلة في مرحلة ما في المستقبل، مستغلًا في ذلك الجهود الحثيثة مِن قِبَل هرجيسا للحصول على اعتراف دولى بها كدولة مستقلة.
كما من المؤكد أن مذكرة التفاهم تؤسِّس لتعاون وشراكة أمنية وعسكرية بين الجانبين على غرار التحالف الثلاثي بين إريتريا وإثيوبيا والصومال، الذي وضع أسس التعاون والدعم بين الأطراف الثلاثة خلال الحرب الإثيوبية على إقليم تيجراي، قبل انهياره إثر توتر العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا والآن الصومال، وهو ما يُستدل عليه بتصريح آبي أحمد بشأن توقيع مذكرة التفاهم قائلًا: “إن الاتفاق يُعزّز أيضًا الشراكة الأمنية والاقتصادية والسياسية للطرفين المُوقِّعين”([21]).
خلاصة القول: يبدو أن منطقة القرن الإفريقي منذ تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بشأن حق الأمة الإثيوبية في الحصول على منفذ بحري، مرورًا بتوقيع مذكرة تفاهم مع أرض الصومال، وهي على وشك بدء جولة جديدة من الاضطراب وعدم الاستقرار في المنطقة، يُغذيها الطموح الإثيوبي لترسيخ هيمنته ونفوذه الإقليمي، مستغلًا عددًا من الأزمات والتطورات الإقليمية والدولية التي تتصدر أجندة المجتمع الدولي، والتي يأتي على رأسها الحرب على غزة، وما فرضته من تداعيات أمنية خطرة على الإقليم، وعلى حركة الملاحة الدولية المارَّة عبر البحر الأحمر، بالإضافة إلى الحرب السودانية السودانية إثر الاقتتال العسكري الدائر بين الفريق أول عبد الفتاح البرهان قائد الجيش السوداني وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو(حميدتي)، وهي جميعها تطورات توفّر بيئة هشَّة مناسبة لتنامي وترسيخ نشاط حركة الشباب الصومالية.
………………………………………………………………….
[1]– لماذا يرفض الصومال سيطرة إثيوبيا على ميناء بربرة؟.. 5 نقاط توضح ذلك، الجزيرة، 2 يناير 2024م.
https://www.ajnet.me/politics/2024/1/2/%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%8A%D8%B1%D9%81%D8%B6-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%88%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%B3%D9%8A%D8%B7%D8%B1%D8%A9-%D8%A5%D8%AB%D9%8A%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D9%89
[2] – الصومال يصف اتفاقًا بين إثيوبيا وأرض الصومال بالعمل العدواني، بي بي سي عربي، 2 يناير 2024م.
https://www.bbc.com/arabic/articles/cl50zdx39w4o
[3] – عيدروس عبد العزيز، إثيوبيا وأرض الصومال… الأمن مقابل منفذ البحر، الشرق الأوسط، 2 يناير 2024م. https://2u.pw/jcmuBCo
[4] Abdi Latif Dahir ,Why a Port Deal Has the Horn of Africa on Edge, New York Times,2 January 2024
https://www.nytimes.com/2024/01/02/world/africa/ethiopia-somaliland-port-deal.html
[5] – حمدي عبد الرحمن، لماذا تسعى إثيوبيا إلى إعادة بناء قوتها البحرية؟، مركز المستقبل للدراسات المتقدمة، 31 أغسطس 2023م.
[6] – عيدروس عبد العزيز، مرجع سبق ذكره.
[7] – المرجع السابق.
[8] Somaliland’s road to recognition passes through Ethiopia
[9] – الصومال يوقع قانونًا يلغي الاتفاقية بين إثيوبيا وأرض الصومال، دويتشة فيله، 7 يناير 2024م، https://n9.cl/knm27
[10] – اتفاق على استئناف المفاوضات بين الصومال وأرض الصومال، فرانس 24، 30 ديسمبر 2023م، https://2u.pw/upSUQXj
[11]– عبد الرحمن أبو الغيط، لماذا يرفض الصومال سيطرة إثيوبيا على ميناء بربرة؟.. 5 نقاط توضح ذلك، مرجع سبق ذكره.
[12] – مصطفى أحمد، لأجل المياه الدافئة.. هل يُشعل آبي أحمد حربًا في البحر الأحمر؟، الجزيرة، 23 ديسمبر 2023م، https://n9.cl/s74sl
[13] – مصطفى أحمد، مرجع سبق ذكره.
[14]– Shabaab says it rejects Red Sea access deal between Ethiopia and Somaliland, The Foundation for Defense of Democracies, 2 January 2024,
[15] – أحمد عسكر، لماذا تسعى إثيوبيا لامتلاك منفذ بحري؟، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، 31 مارس 2023م.
https://acpss.ahram.org.eg/News/18849.aspx
[16]– عبد الرحمن أبو الغيط، مرجع سبق ذكره.
[17]– أحمد عسكر، مرجع سبق ذكره.
[18]– عبد الرحمن أبو الغيط، مرجع سبق ذكره.
[19] – عيدروس عبد العزيز، مرجع سبق ذكره.
[20] – المرجع السابق.
[21] – المرجع السابق.