قرَّرت السلطات الرواندية يوم السبت إطلاق سراح 2140 سجينًا – بمن فيهم أحد زعماء المعارضة البارزين – وهي فيكتوار إنغابيري, والمغنِّي الشعبي كيزيتو ميهيجو, وذلك بعد أن وافقت الحكومة على الإفراج المبكِّر عنهم دون تقديم أسباب بشأن القرار.
وإذ يرى البعض أن قرار إطلاق سراح السجناء لن يُوقِف قَمْع حكومة الرئيس بول كاغامي للمعارضة وأنشطتها, إلا أنَّ آخرين يرون أنه إشارة جيدة تصبُّ في مصلحة الإصلاحات التي تقودها إدارة كاغامي، وأنه سيعزز التطورات التي تشهدها رواندا خلال 23 عامًا الماضية.
وعلى الرغم من أن أخبار اعتقال المعارضين والمنتقدين في الدولة الواقعة في شرق إفريقيا غالبًا ما تتصدر عناوين الصحف العالمية, إلا أنَّ البلاد قد حقَّقت سلسلة نجاحات رغم التحدِّي المتمثل في إعادة بناء بلد عانى من الإبادة الجماعية المروِّعة.
تحقيق العدالة والاهتمام بالشباب
يُقدَّر عدد القتلى ضحايا الإبادة الجماعية في رواندا من 7 أبريل إلى منتصف يوليو 1994م بما بين 500،000 و1،000،000 رواندي –يُشَكِّل التوتسي حوالي 70 في المئة منهم-. بينما يُقدَّر عدد الجناة أو الذين شاركوا فيها بحوالي 150,000 شخص، مما يعني أن التحدِّي الأكبر يتمثل في تحقيق العدالة للقتلى, والمصالحة بين جميع السكان لإعادة البناء ولمِّ الشمل.
ومع أنَّ عدد الجناة كثيرٌ, إلا أنَّ النسبة الكبرى منهم لم يُحاكَم بعدُ مِن قِبَل نظام العدالة الجنائية. أما الذين اعترفوا بجريمتهم – وهم الذين كانوا يعيشون في الغالب في المناطق الريفية بين الذين قُتِلُوا – قد حُوكِمُوا في محاكم قروية خاصة تسمى “gacacas“. ولأن الحكومة تدعم المحاكمة إلا أنها أيضًا تُشَجِّع السكان الناجين في جميع أنحاء البلاد على العفو، ومنح الجناة فرصة العودة إلى مجتمعاتهم المحلية.
وقد دفَع الحكومة إلى وضع استراتيجيات وخطط تهتم وتستهدف الشباب كالتعليم وغيره؛ كون ثلثي سكان رواندا أقل من 25 سنة، ويبلغ متوسط العمر المتوقع 55 سنة فقط. وقد وصفت اليونسكو رواندا كواحدة من أفضل ثلاثة بلدان على مستوى العالم من حيث تحسين وتسهيل الوصول إلى التعليم. فكانت نسبة 97٪ من أطفال رواندا اليوم يرتادون المدرسة الابتدائية، وهي أعلى معدل في إفريقيا.
ووفقًا لـ”إيما هوارد”, يلاحظ أيضًا أنَّ هناك محاولات في استخدام التعليم وبيئته لتوعية الشباب وتربيتهم على نَبْذ العنف، وترك كل ما قد يثير الانقسام. فكان التلاميذ لا يَعَرِّفُون أنفسهم كالهوتو أو التوتسي؛ إذ يُطلب منهم التركيز على بناء مستقبل مشترك لرواندا.
وكل ما سبق لا يعني أن رواندا اليوم لا تواجه التحديات؛ لأن ارتفاع معدل بطالة الشباب إلى 16.7 في المائة في العام الماضي يعني أنه لا يزال هناك الكثير مما يجب عمله لدعم الذين سيقودون النمو الاقتصادي في البلاد، وخصوصًا فيما يتعلق بسَدِّ فجوة المهارات المطلوبة في سوق العمل بالبلاد.
قصة نجاح في التعليم:
في عام 2015م, أعلنت رواندا أنها ستنفق 20٪ من ميزانيتها الإجمالية على التعليم بهدف توسعة فرص الوصول إليه. وكان حجم الميزانية السنوية للبلد وقتذاك يبلغ 2.47 مليار دولار؛ وبالتالي استهلك التعليم حوالي 494 مليون دولار.
“إن 20٪ من ميزانيتنا تذهب إلى التعليم، وستوفر 12 عامًا من التعليم المجاني للجميع”؛ قال الرئيس بول كاغامي خلال مشاركته في قمة أوسلو حول التعليم من أجل التنمية في النرويج.
إن هذه المبادرة الطَّمُوحة جعلت رواندا قصة نجاح، ليست فقط لإفريقيا, ولكن لكل العالم, حيث دعت الأمم المتحدة حكومات العالم إلى تبنِّي أسلوب رواندا في تعزيز التعليم للجميع عن طريق ضخّ جزءٍ أكبر من ميزانياتها في التعليم.
كما أن الرئيس كاغامي أكَّد على أن استراتيجية حكومته تشمل أيضًا إشراك المجتمع المحلي في تعبئة الموارد لتمويل هذا القطاع. “يجب أن نشجِّع المجتمعات المحلية على المشاركة بنشاط في توسيع الوصول إلى التعليم”؛ هكذا قال في القمة التي سبقت الإشارة إليها.
يُذكر أنه قبل الإبادة الجماعية عام 1994م، كان الوصول إلى التعليم محدودًا ومنحصرًا على أُسُس عرقية، مع أقل من 2000 خريج جامعي في 30 عامًا.
الاقتصاد والإصلاح الزراعي
لقد توقَّع صندوق النقد الدولي نمو اقتصاد رواندا بنسبة 7.2 في المائة في 2018م، وذلك اعتمادًا على قطاع الخدمات – بما فيها السياحة والمؤتمرات – والزراعة وانتعاش في أنشطة البناء. وقد نما الاقتصاد في عام 2017م بنسبة 6.1 في المائة، متجاوزًا التوقعات السابقة التي بلغت 5.2 في المائة.
واستندت رواندا في إعادة بناء اقتصادها منذ 1994م على ثلاثة مصادر رئيسة: تصدير الشاي والقهوة, والمِنَح الأجنبية التي تُشَكِّل 20٪ من الدخل السنوي الإجمالي في عام 2011م, والأنشطة السياحيَّة التي تجري معظمها في الغابات المطيرة والتي تُعَدُّ موطنًا لقرابة 1000 من الغوريلا الجبلية النادرة. بل في عام 2010م اختار البنك الدولي تسمية رواندا كأكبر مكان لجذب وإنجاح الأعمال التجارية.
ويعمل أكثر من 70 في المائة من سكان رواندا في القطاع الزراعي، ولذلك انخفضت مستويات الفقر عندما ارتفعت إنتاجية الأغذية. فمن عام 2010م إلى عام 2014م ارتفعت قيمة إنتاج الغذاء من 1.2 مليون دولار إلى 2 مليون دولار، بزيادة 60 بالمائة.
وانخفض معدل الفقر من 59 في المائة عام 2000م إلى 39 في المائة عام 2014م, بحسب وزارة الزراعة والموارد الحيوانية الرواندية. وبحلول عام 2015م بلغ إجمالي عدد الأُسَر الآمِنَة غذائيًّا 80 في المائة، مقارنةً بنسبة 65 في المائة فقط في عام 2009م.
وبحسب الكاتبة “غريس إليسون”, فقد أشار الخبراء إلى أنَّ النمو السريع في الإنتاجية الزراعية والأمن الغذائي كان بسبب مجموعة من الممارسات والإصلاحات الحكومية المتعددة، مثل برنامج تكثيف المحاصيل، وقانون تدعيم استخدام الأراضي، اللذان نُفِّذَا في عامي 2007 و2008م على التوالي؛ ما زوَّد المزارعين بالموارد والتدريب الذي يحتاجونه لزيادة الإنتاج.
كما أن “سواني هانت” مؤلفة كتاب “المرأة الرواندية” قد تطرَّقت إلى نقطةٍ مهمةٍ أخرى, وهي أن لقانون عام 1999م المتعلق بالميراث والممتلكات الزوجية دورًا فعَّالاً؛ حيث ألغى القانون ما كان محظورًا في السابق؛ وأصبح للمرأة الحق أن ترث الأرض من زوجها أو أفراد الأسرة الآخرين. ولأن المرأة كانت تهيمن دائمًا على الصناعة الزراعية، فقد ارتفعت الإنتاجية عندما أصبحن مُلَّاكًا للأراضي.
قصة النجاح في الرعاىة الصحية:
قامت رواندا على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية ببناء نظام رعاية صحية شبه عالمي يُغَطِّي أكثر من 90 في المائة من السكان، بتمويل من عائدات الضرائب والمساعدات الخارجية والأقساط التطوعية المقاسة بالدخل.
وفي حين لا يُعَدُّ النظام الصحي في رواندا مثاليًّا, إلا أنَّ الوصول إلى الرعاية الصحية قد تَحَسَّنَ بشكلٍ كبير حتى مع انخفاض العبء المالي المفروض على الروانديين العاديين. واليوم يزور الروانديون -في المتوسط- الطبيب مرتين كل سنة، مقارنةً بمرة واحدة كل أربع سنوات في عام 1999م.
ووفقًا لدراسةٍ أُجريت في عام 2014م بقيادة الدكتور “بول فارمر” من كلية هارفارد للطب, والدكتورة آغنيس بيناغواهو – وزيرة الصحة السابقة في رواندا, فإنَّ دولة رواندا تتمتع بتطعيم أكثر من 97 في المائة من الرُّضَّع ضد الديفتريا والكزاز والسعال الديكي والتهاب الكبد “ب”، والنزلة النزفية من النوع “ب”، وشلل الأطفال والحصبة الألمانية والمكورات الرئوية والفيروسات العجلية.
وانخفض في عام 2015م معدل وفيات الرضع، لأول مرة، بما يقرب من ثلاثة أرباع منذ عام 2000م إلى 31 لكل 1000 ولادة، وهذا يفوق بكثير معدل الانخفاض في عدد من الدول الإفريقية, الأمر الذي جعل نموذج رواندا فكرة استحوذت على مُخَيِّلَة صانعي السياسة في جميع أنحاء العالم. فصارت البلاد تُلْهِمُ دولاً كثيرة؛ حيث انضمت إليها في ذلك كلٌّ من غانا وتايلاند والمكسيك والصين, والتي تُطَوِّر أنظمة رعايتها الصحية الشاملة ضمن حدودها السياسية والمالية، ليتمكن الجميعُ من الوصول إليها.
الحوكمة: قمع المعارضين وإطلاق سراح السجناء
كان بول كاغامي عضوًا وقائدًا بارزًا في الحكومة الرواندية منذ الإبادة الجماعية. وقد نشأ (وهو التوتسي) كلاجئ في أوغندا المجاورة وقاد الجيش الوطني الرواندي في مقاومته لمليشيات الهوتو التي تسبَّبت بمجزرة البلاد. وأصبح نائبًا للرئيس بعد انتهاء الإبادة الجماعية في يوليو 1994م، وانتُخِبَ رئيسًا في العام 2000م.
نجح كاغامي عام 2015م في تغيير الدستور عن طريق استفتاء كي يبقى في منصبه حتى عام 2034م. وأُعيد انتخابه رسميًّا في انتخابات 2017م التي فاز فيها بنسبة 99 في المئة من الأصوات. وقد رفض المراقبون الدوليون هذه الانتخابات حيث وصفوها بـ”الخدعة”.
وعلى الرغم من أن كاغامي لا يزال يتمتع بشعبية كبيرة داخل رواندا، وخصوصًا بسبب إصلاحاته الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن أسلوب حُكْمه وسجلاته في قَمْع المعارضة وسَجْن المنتقدين قد أثارت انتقادات الغرب. وكان ردّ فعل كاغامي الدائم أنه لن يتلقى أيّ محاضرات من الدول الغربية ما داموا فاشلين بشكل شامل في التدخل أثناء الإبادة الجماعية.
ولم يقدم كاغامي وحكومته أي توضيح بشأن السجناء والمعارضين الذين أطلق سراحهم السبت الماضي, الذين أثار اعتقالهم إدانة دولية. وبدلاً من ذلك, أصدر مجلس الوزراء ووزارة العدل الرواندية بيانات مقتضبة ليلة الجمعة، قالوا فيها: إن كاغامي قد منح الرأفة إلى 2140 شخصًا، وأقرّها مجلس الوزراء.
وإذ لم يتضح ما إذا كان كل الذين أطلق سراحهم مسجونين لِتُهَمٍ سياسيَّة, إلا أن فيكتوار إنغابيري – زعيمة حزب “القوات الديمقراطية الموحدة” المعارض, والتي عاشت لسنوات في أوروبا قد عادت إلى رواندا عام 2010م، وأعلنت منافستها ضد كاغامي في الانتخابات الرئاسية. وتحدثت فيكتوار أيضًا عن الإبادة الجماعية والتوترات بين الجماعات العِرْقِيَّة من الهوتو والتوتسي التي غذَّتها المجزرة – وهما موضوعان يُحْظَر الحديث عنهما في رواندا.
وفي غُضُون بضعة أشهر من عودتها, سُجِنَتْ فيكتوار وأُجْبِرَتْ على الخروج من السباق الرئاسي. وفي عام 2012م، أُدينت بتهمة التآمر لتقويض الحكومة وإنكار الإبادة الجماعية، وحُكِمَ عليها بالسجن ثماني سنوات. غير أن منظمة هيومن رايتس ووتش تقول: إن محاكمتها شَابَتْهَا استخدام أدلة مشكوك فيها وإمكانية إكراه الشهود.
أما المغني ميهيغو – الشخصية الثانية من 2140 سجينًا الذين أُطْلِقَ سراحهم, فقد أصدر في عام 2014م أغنية تحدث فيها عن الإبادة الجماعية، واعتُقِلَ بعد سلسلة من الاستجْواب مِن قِبَل الشرطة. وفي وقت لاحقٍ، أقر ميهيغو بأنه مذنب في التآمر لقتل الرئيس كاغامي وجرائم أخرى، حتى وإن كانت هيومن رايتس ووتش تؤكد أنه تعرَّض للضرب وأُجْبِرَ على الاعترف.
ولا تزال ديان رواغارا محتجزة في السجن حتى اليوم، وهي شخصية أخرى حاولت تحدِّي الرئيس بول كاغامي لفترة طويلة في انتخابات العام الماضي، لكنها استُبْعِدَتْ من السباق بدعوى أنها زَوَّرَتْ بعض التوقيعات على أوراق ترشيحها. وهي مزاعم أنكرتها. وفي وقت لاحق اتُّهمت رواغارا بالتحريض على العصيان ضد الدولة.
وإذ ستتواصل انتقادات الغرب لـ”بول كاغامي”, إلا أنه سيكسب حلفاء جددًا داخل رواندا لقراره بإطلاق السجناء. بل قد يكون القرار لهذا السبب؛ حيث انخفض معدل شعبيته مقارنة بـ 6-7 سنوات الماضية التي حاز على ثناء دولي لإحلاله الاستقرار، لكنه اليوم يُتَّهَمُ بالاستبداد.
وعليه, فإن أمام كاغامي خياران؛ هما أن يقود إصلاحات سياسية حقيقية ومصالحة مع القادة المعارضة؛ أو أن يواصل خطواته في إسكات المعارضين والمنتقدين؛ وهذا سَيُصَعِّب عليه إدارة البلاد في السنوات القادمة, خصوصًا أن أحزاب المعارضة الرواندية قد فازت مؤخرًا بأربعة مقاعد في الانتخابات البرلمانيَّة الأخيرة – وهو عددٌ كافٍ بالنسبة المعارضة لبَدْءِ نِضَالٍ طويلٍ ضد كاغامي وحكومته.
المصادر:
- Binagwaho, A., Farmer, P. E., Nsanzimana, S., Karema, C., Gasana, M., de Dieu Ngirabega, J., & Gatera, M. (2014). Rwanda 20 years on: investing in life. The Lancet, 384(9940), 371-375.
- Emma Howard (2014). Rwanda, 20 years on: how a country is rebuilding itself. The Guardian Uk, available on:
- Grace Elletson (2018). In Rwanda, agricultural reforms boost food security and slash poverty. CSMonitor, available on:
- MINECOFIN RW (2018). Rwanda’s economy registered 10.6% growth in first quarter of 2018. African Market, available on: