د. محمد الأمين سوادغو (*)
ليس هناك ثورةٌ بدون وعي ثوري، وليس هناك ثورة بدون إرادة ثوريَّة، ولن تنهض الإرادة بدون روح الوطنية الحقّة النابض في جسم الثَّائر،وإذا لم يحرِّك المواطن نبضات الوعي السِّياسي والاجتماعي والإنسانيّ والاقتصادي ليثور لاسترداد حقوقه؛ فإنَّه حتماً سيحركه وعي الجوع والجلد؛ وعندئذ لا يمكن وصفه بالثَّائر الوطني؛ لأنّ الثَّائر الوطني هو الَّذي يثور شبعاناً لاسترداد حقوقه وحريته المسلوبة.
الثَّورةُ وعْيٌ متكاملٌ عند الشُّعوب المقهورة، وهي علاج ناجع للشعوب المغلوبة على أمرها، تنزع الذل والمهانة، والفقر والجهل والمرض، تحارب العرى والظمأ والجوع، والوهم الناصب، تصبح حقاً من الحقوق الملحَّة إذا أصبحتْ الدِّيكتاتوريَّة حقيقةً واقعيةً، وهي وسيلة لتحقيق مشروع معين وليستْ غاية في حدّ ذاتها… وهي ثوب مطرز بخيوط الإنصاف لتحقيق العدل والمساواة بين أبناء شعب واحد… وهي قلم ذهبي يسطر تاريخ المقهورين بكرمٍ وشرفٍلا يمكن التَّنبؤ بوقتها؛ لأنَّها إرادة شعبية تثور وقت الثورة، لصالح الشَّعب، وتنتهي بتحقيق أهدافها.
الثورةُ مفتاحٌ فولاذي يفتح المدن للتَّغيير الَّذي يفضي إلى تحرير الإنسان المقهور المظلوم من بطش مجموعة ظالمة أو حاكم ديكتاتوري سفَّاح قاتل، ونجاحها من عدمها مرهون بديباجة الثوار وأخلاقهم، فاشتعالها بصمةٌ واضحةٌ يُعرف من خلالها وعي المواطن ومدى إدراكه بكل مايخصّ حياته وحياة الآخرين… أن تكون حرًّا في هذا العصر يعني أن تكون ثورياً مُفلقاً، واعياً لما يجري حولكَ وحول غيركَ؛ تميِّز بين قُبة العدل والظلم، وسياسة العادل والظالم.
إنَّ العمل الجماعي وحده يحرر الإنسان ويسمو به؛ فـ«الثورة –مهما كان مصدرها– لا تصبح ذات نتائج إلا بعد هبوطها إلى روح الجماعات، فالجماعة تتم الثورة ولا تكون مصدرها، وهي لا تقدر على شيء ولا تريد شيئاً وإن لم يكن عليها رئيس يقودها، ولا تلبث الجماعات أن تجاوز الحدّ الَّذي حُرِّضتْ عليه، وإن كان التَّحريض لا ينشأ عنها أبداً »(1)
لقد كان العمل الجماعي الثوري مصدر إلهام الرجال القدامى الصادقين من بين الأفارقة، فعملوا فيه ونجحوا في خدمة ببلدانهم من نهب المستعمرين فـ«الحقائق التي تستند إليها مضطهدوا الأفارقة ومستغلوهم بصورة عامّة، زعمهم أنَّ الرَّجل الأسود عاجز عن العمل الجماعي. لكن الأحداث وتوالي الأزمة قد برهنت على النقيض من هذه المزاعم الباطلة، والغريب أن العناصر الأجنبية في هذه البلاد ظلت تحمل هذه الرأي الذي ينطوي في طبيعته على هذه النظرة الامتهانية…وقد يبدو الأفريقية غافلاً عن مصالحه، نائماً عنها، إلا أنه أفاق من سباته، فإنّه يناضل عنها بعزيمة وقوّة…»(2).
جاءت الثورات الأفارقة لترد النور الذي أطفأه الرجل الأبيض المستعمر، حيث « أطفأ الرجل الأبيض (المستعمر) نور عيوننا وجاء الآن يتهمنا بعدم القدرة على البصر»(3)
إنّ الثورةُ تعبيرٌ حماسي عفوي أو منظم، بغية تحقيق أهداف نبيلة، لوضع أسس حقيقة بين الأنا والآخر؛ ولهذا تجد أنّ« الثوري مصمم ومثابر في عمله الَّذي ينمو بلا انقطاع ولا نهاية، والثَّوري هو من يتخذ من حبّ الحقيقة، الحقيقة التَّاريخية، والحقيقة الاجتماعية، والحقيقة الإنسانية، دليلاً له… الثوري لا يتهرب من مصائب الحياة بل يجابها بشجاعة ويتدارسها بجدّ، ويجد لها الحلول الملائمة»(4).
وبهذا المبدأ، جابه الأفارقة بكل بسالة وشجاعة منقطع النَّظير المستعمر الأوروبي الامبريالي بثورات شديدة متتالية؛ بعد الحرب الكونية الثَّانية، وانتشرت الحركات الثوريّة التَّحرريَّة المطالبة باستقلال كل ربوع أفريقيا من قبضة المستعمر انتشار الهشيم في طول القارة الأفريقية وعرضها، وشارك فيها كل أطياف الشُّعوب؛ فدفنوا إحن الماضي المؤلم، وتحوّلتْ«ريح التَّبدّل» إلى عاصفة عنيفة تجرف أمامها الاستعمار القديم في أفريقيا؛فسقطتْ الأقنعة الزَّائفة لسلب ثروات القارة الغنية، تحت عباءة «تحضير أفريقيا»؛ فتحصل الأفارقة على حريتهم واستقلاليتهم الديموغرافية والجغرافية بين عام (1944 ـ 1964م)، وإن كانتْ مجرد بداية إلى ميدان الحريَّة، لكن ردّ كرامة الإنسان الإفريقي وأصبحتْ أفريقيا للأفارقة،يحكمها أفارقة لصالح الأفريقيين، وأخرج المستعمر من أفريقيا مكرهاً مرغماً .
سأتناول في هذا المقال إلى الموضوعات التالية:
– الوضع الجغرافي والسِّياسي لجمهورية بوركينافاسو
– أسباب ثورة 30 أكتوبر في بوركينافاسو، وسقوط بليز كومبوري
– رؤية مستقبلية لتطورات الأحداث بعد ذهاب بليز كومبوري
الوضع الجغرافي والسِّياسي لجمهورية بوركينافاسو
أولا: الوضع الجغرافي:
بوركينافاسو دولة في« بلقان أفريقيا»، أو كما سمّاه بعض الكتّاب بـ « مقبرة الرَّجل الأبيض»،أي وسط غرب أفريقيا ،تحدها من الشَّرق النيجر ،ومن الشِّمال والغرب مالي،ومن الجنوب غانا، والتوغو، وبنين، وكوت ديفوار،وتبلغ مساحتها: 274.120 كم 2، سماها الرّحالة الفرنسيون ومؤرخوها قبل الاستقلال «فولتا العليا»، نسبة إلى نهر «فولتا العليا» التي تمر بالمنطقة مقابل «فولتا الصغرى» و«فولتا الوسطى»، أو نسبة إلى الأنهار الثلاثة التي تمر في غرب البلاد وهي: «فولتا الأسود»،و«فولتا الأبيض»،و«فولتا الأحمر»، وبقي الاسم هكذا إلى أنْ غيَّره الثوري المناضل توماس سنكار،الرَّئيس الخامس لبوركينافاسو في ثورة 4 أغسطس عام1983م إلى«بوركينا فاسو» وتعني:«بلد الأحرار»،أو«وطن الأشراف»، أو« بلد الطاهرين»، ويبلغ عدد سكانها قرابة 15 مليون، وهي مستعمرة الفرنسية، دخلتْ إليها فرنسا قبل1856م في سعيها لنهب خيرات أفريقيا، ولُغتها الرَّسمية «الفرنسية»، وعملتها«فرنك سيفا»، وتوجد بها لهجات كثيرة تصل إلى حوالي« 60 لهجة» بعدد القبائل، وأكثر اللَّهجات استعمالاً هي:موري والجولا، والفولانية، وغُورماتْسِي، وسينوفو وغيرها.
اسم« بوركينا فاسو» مكوّن من اللُّغات الثَّلاث الأكثر أعراقاً في البلد؛ لغة مُوري، وهم السُّكان الأصليون والغالبية، ولغة جُولاَ أو البَمبارا، واللُّغة الفلاتية، فكلمة بوركينا بلغة موري) لغة الشعب الموسي( تعني الحر. (Burkina)
وفاسو بلغة الشعب الجولا – تعني وطني الأم. وإن كانت الترجمة الحرفية تأتي بمعنى وطني الأب (Faso) ، و (bè)بلغة الفولانيين- تعني من ينتسب إلى بوركينا. وهكذا فإن اسم دولة بوركينافاسو مكوّن من أشهر لغتين فيها، والنسبة مأخوذة من اللغة الثالثة.ويرجع الفضل في ذلك إلى القائد الثائر توما سنكارا، حيث غير اسم الدولة والنشيد الوطني لتعبر عن الهوية البوركينبية، فتُومَا اسم داوٍ بين الأسماء اللامعة في أفريقيا، التي رفعتْ راية النِّضال في سبيل تحرير القارة الأفريقية كلّها من الاستعمار وميلشياتهم في أفريقيا، فكافح بشتى الطرق، وحقّق لبلده ميزة عالية؛ فأخرجها من بوتقة التَّبعية والخضوع لفرنسا إلى دولة مشهورة لها وزنها بين جيرانها على الرغم من فقرها وصغر حجمها، وقُتل غدراً من مجند فرنسي بوركينبي يُقال له بليز كومبروي، رفيقه وأقرب الأصدقاء إليه في 15 أكتوبر عام 1987م.
ثانياً: الوضع السياسي:
لما فشل المستعمر الأوروبي في الهيمنة على أفريقيا رجع إلى صناعة قادة بمثابة موظفين عند المستعمر الغربي؛ فأينما حلّ المستعمر ، صنع قادة يتم تجنيدهم في غرف مغلقة للسيطرة على أفريقيا وتعويض ما خسروه عسكرياً، وكان لبوركينافاسو نصيبٌ في هذه الخطة الاستعماريَّة الخطيرة، فعاشت في انقلابات بعد استقلالها إلى هذا اليوم.
بوركينافاسو دولة العسكريين، يسود عليها لغة الانقلاب، ليكون أمام المتابع مشهدين لا ثالث لهما، وهو حاكم انقلابي يصل إلى الحكم عبر انقلاب أو حاكم ديمقراطي ينقلب زملاءه عليه،وسأوضح للقارئ الوضع السياسي لبوركينافاسو منذ الاستقلال عام 1960 إلى 2014م بطريقة موجزة.
1 ـ موريس يَامِوْغُو Maurice Yaméogo،أوَّل رئيس لبوركينافاسو بعد الاستقلال، وهو نصراني، وهو مَن قرأ بيان الاستقلال، استمر في السُّلطة ستة سنوات، من 1960 إلى 1966م، لتنتهي فترة حكمه بانقلاب عسكري.
2- الحاج أبو بكر سنجويللا ميزاناElhaj Aboubacar Sangoulé Lamizana)، الرئيس الثاني لبوركينافاسو، وهو مسلم ، حكم ما بين 1966م إلى 1980، استمر في السلطة(14) سنة، وانتهت فترة حكمه هو الآخر بانقلاب عسكري.
3 ـ سي زربو (SayeZerbo)، الرئيس الثالث لبوركينافاسو،وهو نصراني، حكم ما بين (1980 إلى 1982م) استمر في السلطة سنتين فقط، لتنتهي مدّة حكمه أيضا بانقلاب عسكري.
4 ـ زَانْ بَاتِيسْويدراغو Dr. Jean-Baptiste Ouédraogo))، رابع رئيس لبوركينافاسو، وهو نصراني، والذي انتهت فترة رئاسته كذلك بانقلاب عسكري سنة 1983م.
5 ـ توماسسنكارا( Thomas Sankara)، الضابط الثوري والمناضل الكبير، وهو نصراني، انتهت فترته حكمه بانقلاب عسكري سنة 1987م.
6 ـ بليز كومبوري (Blaise Compaoré) سادس الرئيس لبوركينافاسو، تولى السلطة من سنة 1987 إلى 2014م، وخرج عليه شعبه وأطاحوا به، ليتول من بعده أصدقائه العسكريين، يأتي الحديث عنه.
أسباب ثورة 30 أكتوبر في بوركينافاسو، وسقوط بليز كومبوري
الذي لا يرجع إلى التاريخ لا يمكنه قراءة الحاضر، ولا يمكنه أن يوفق في قراءة المستقبل ووضع خطط له بشكل صحيح، لنرجع قليلا إلى الحياة السياسة لـ بليز كومبوري، لنقف على أهم المطبات السِّياسة في فترة حكمه ثم ننخرط في أسباب سقوطه وخلفياته الفكرية والاجتماعية والدينية.
من هو بليز كومبوري:
بليز كومبوري يحمل (63) ربيعاً، ولد في 3 فبراير عام 1951م، في مدينة زينياري شمال مدينة وغادوغو عاصمة بوركينافاسو، أهم محطات حياته السياسية:
1 ـ بداية حكمه: وصل بليز كومبوري إلى السلطة بانقلاب عسكري على زميله توماس سنكارافي 15 أكتوبر 1987م، حكم الدولة (3) سنوات بدون انتخابات، وانتخب ديمقراطيا رئيساً لأوّل مرّة في عام 1991م، بعد تأسيسه حزبه ODP-MT ، وقد قاطعت المعارضة هذه الانتخابات كلياً.
2 ـ مدة بقاء في السلطة: حكم بليز كومبوري(27) سنة و15 يوماً، من 15 أكتوبر 1987م إلى 30 أكتوبر 2014م،انتخب لولايتين استمرتْ كل منهما سبع سنوات، ولولايتين أخريين استمرتْ كل منهما خمس سنوات، أن يترشح إلى الانتخابات الرئاسية في2015 م.
3 ـ بليز كومبوري عسكري بعد أن كان حارس منزل الرئيس SangouléLamizana)، درس الابتدائية في مسقط رأسه زياري، ثم مدرسة المبشرين بمدينة فادا، ثم كلية المعلمين لينال الثانوية فيها، والتحق بالجامعة إلا أنه كان فاشلاً، إخفاقاته جعلته يتجه إلى العسكرية، حيث تدرب في الكاميرون ثم فرنسا وألمانيا والمغرب وغيرهما.
4 ـ أصبح شهر أكتوبر شهر كابوس لبليز كومبوري ، بعد أن كان شهر يتذكر فيه توليه على الحكم، ليكون شهر أكتوبر شهر فرح وحزن له في نفس الوقت.
أسباب بقاء بليز كومبوري في السلطة لهذه المدّة:
هناك عدة عوامل ساعدتْ بليز كومبوري في البقاء على السلطة لهذه المدة الطويلة أهمّها:
1ـ نجاحه في كتم صوت أنصار توماس سنكارا بالمغريات، وشراء الثائرين منهم بأموال، وتهميش الوطنيين منهم بدهاء، وإبعاد النشطاء منهم عن السياسة كلياً بسياسة الثعلب، وطمس كل ما له علاقة بحياة بتوماس سنكارا، واتفاقه مع فرنسا لاستضافة أسرة توماس سنكارا ومنح قصر لهم هناك، زوجته وأولاده لا يزالون يقيمون في فرنسا إلى هذا الوقت؛ فأصاب أنصار توماس سنكارا استياء وخمولاً لقبول أسرة سنكارا أن تكون في فرنسا التي اغتاله بطريقة بشعة.
2ـ هدوءه وذكاءه، يتفق السَّاسة والمتابعون لسياسات قادة الأفارقة أنَّ بليز كومبوري من القادة الأذكياء، يتمتع بذكاء حادّ، لبيب وفطن، قليل الكلام، كثير التَّخطيط والتَّنفيذ، شجاع لا يتردد في اغتيال مَن يتطاول عليه ولو كان مجرد تلميذ في المدرسة الابتدائية.
3ـ دعم حلفاءه له، لقد دعمه حليفه الرئيس السابق لجمهورية كوت ديفوار “فليكس أوفويبويي”، وهو مهندس عملية الانقلاب على توماس سنكارا، حيث زوّجه بابنته بالتبني كانتْ تحت رعايته اسمها (سَنْتَالْ)، وجد منه دعماً مادياً ومعنوياً؛ ليصمد على السّلطة إلى وفاة فليكس عام 1993م، صاحب أكبر كنسية كاثوليكية في غرب أفريقيا، بناها على هيئة مبني فاتيكان في روما، بأموال تقدر بمليارات دولارات في مدينة ياموسوكورو العاصمة السياسية لكوت ديفوار.
4ـ احتواءه المحكم لقادة الأديان في بوركينافاسو والإنفاق عليهم، وتقديم حوافز ماديّة ومعنويّة مجزيَّة لهم، لقد تم اختيار كبار القساوسة والمسلمين كمستشارين له، كل في مجاله، حيث لديه مستشار خاص من النصارى وكذلك من المسلمين ومن اللادينيين (عباد الأصنام والأوثان)، وقرب منه الملوك والسّلاطين القبليين (حكّام التَّقليديين)، أغلبيتهم أعضاء في حزبه، اختار بعضهم نواباً لحزبه في البرلمان.
5ـ سيطرته التامَ على كل التجار والأغنياء في بوركينافاسو، تمكَّن الرَّئيس بسياسته الذَّكية السَّيطرة على الأغنياء وكبار التّجار، وأصبحوا جنوده وأصدقائه في السرَّاء والضرَّاء، يحاربون معه في كل الجبهات السِّياسية والاقتصاديَّة والأمنية، سهَّل لهم التّحرّك بكل أريحية بخلاف التجار الصغار.
6ـ السَّيطرة التامّ على كبار الضباط وتحويلهم إلى تلاميذه، واختيار النخبة منهم لحراسته، والاهتمام بقادتهم، فأصبح الرجل الثاني بعده العقيد “زلبيرجنغيري” قائدا ًللحرس الرئاسي .
7ـ خصخصة الدولة كلّها، وربط علاقات وطيدة بينه وبين مدراء الشركات العامة والخاصة في الدولة مع العلم أن أغلبها من الوافدين.
8ـ احتواء المعارضة وتحويلها إلى حليف، وعرقلة التحالف فيما بينها، لقد حوّل الرئيس أكبر المعارضة في التاريخ الحديث لبوركينافاسو إلى حليف جادّ له، وهو حزب ( RDA ) شعارها الفيل، وشكَّل أحزاباً شكلية صورية لتلميع الصورة الديمقراطية الزائفة في بوركينافاسو، وإظهار نفسه على الصعيد الدولي بإعتباره رجل ديمقراطي يرسخ مبدأ التّداول السلمي للسلطة.
9ـ تأسيس تحالفات جديدة له في المنطقة، فساند بعض المجموعات المسلحة لتغيير الحكم في بلدانهم، ودعم بعضهم عسكريا ولوجستياً، وقام بتدريبهم في بوركينافاسو، فالقيادة الجديدة في كوت ديفوار من هذه المجموعات المسلحة، فالذين أطاحوا بالرئيس لوران غاغبوا في كوت ديفوار دُرِّبوا من بوركينافاسو وبقيادة الرئيس بليزكومبروي نفسه، ودعم عسكرياً أيضاً رئيس جمهورية توغو فُورْياديما ابن الرئيس الراحل ياديما، حيث أفشل الانقلاب الّذي دبر له شقيقه بعد وفاة والدهم.
10- تنصيب نفسه بحكمة بالغة وسيطاً لأكثر من ملف في أفريقيا، في توغو، وفي كوت ديفوار، وغينيا كوناكيري، وفي دارفور، وفي شمال مالي.
أسباب قيام ثورة 30 أكتوبر في كل كبريات مدن بوركينافاسو:
هناك عدة أسباب تراكمتْ إلى حتى فجرتْ ثورة 30 أكتوبر في بوركينافاسو أهمها:
1 ـ الغضب الشعبي على قتل توماس سنكارا:
لا يحظى السيد بليز كومبوري بحبّ الشعب البوركينبي كما يروِّج له الإعلام الوطني والخاصة المأجور منذ اغتيال توماس سنكارا، فهناك مدناً وقرى أعلنوا غضبهم للرئيس منذ توليه الحكم بشكل علني لاغتيال رفيق دربه توماس سنكارا، حيث اغتيل في ظروف غامضة؛ لخدمة المستعمر الفرنسي الذي أضر بالشعب البوركينبي وأذاقهم لباس الذل والمهان.
وكان سنكارا قد وقف كالطود الشامخ أمام مشاريع فرنسا في بوركينافاسو، مما اضطرت فرنسا إلى تجنيد بليز كمبوري لدعم مشاريعها، حيث عبّرت عن استيائها من مختلف خطابات ومشاريع توماس سنكارا منذ أيامه الأولى، وارتفع سقف تحفظ فرنسا على توماس سنكارا مع إقبال الشعب البوركينبي عليه وحبّهم له، وترحيبهم بالشّعارات التي يرفعها المناهضة للامبريالية الغربيَّة في كل المناسبات الوطنية والإقليمية والدولية.
إنَّ اغتيال توماس سنكاراكان بمثابة عقوبة له على “تطاوله” – حسب قولهم- على القوى الغربيّة ووكلائها المحليين، وكشف تآمرهم على أفريقيا ، فتم الاغتيال انتقاما منه وحتى يطمس صوت حق نادر في أدغال أفريقيا، بالتعاون مع هؤلاء الوكلاء المحليين، حيث ثبت مؤخراً انطلاقاً من بعض التَّحقيقات الصحفية أنَّ عددا من الدول والأنظمة ساهمتْ في تدبير اغتيال توماس سنكارا.
لقد أثار تحقيق وثائقي تلفزيوني أعده الصحفي الإيطالي “سيلفيستر ومونتانارو” وبثته القناة الإيطالية “راي 3” يوم 15 يوليو 2009م، قضية اغتيال توماس سنكارا واتهم التحقيق الوثائقي فرنسا والمخابرات الأميركية وعدة شخصيات أفريقية بالتواطؤ في تدبير وتنفيذ اغتيال سانكارا.
اعتمد التحقيق على عدة شهادات لبعض قادة الأفارقة السابقين واقرباء المناضل توماس سنكارا، فأدلت السيدة مريم زوجة توماس سانكارا بشهاداتها، وكذلك جوال هوار تايلور زوجة سابقة للرئيس الليبيري شارلز تيلور، و”ومومو جيبا” القائد السابق لأركان الجيش الليبيري.
وقد أكدوا جميعا بما لا يضع مجالا للشك ضلوع فرنسا والمخابرات الأميركية وبليز كومباري، وبمساهمات ودعم غير مباشر لعدد من الأسماء الأخرى أمثال الرئيس الراحل لجمهورية كوت ديفوار فليكس أوفوي بوي، و الرئيس التشادي وغيرهم، فتم تصفية توماس سنكارافجر 15 تشرين الأول 1987م، بخطط مستوردة جاهزة، وضعت بعناية فائقة، فاغتيلت أحلام بوركينافاسو، وبعد اغتياله بأيام تم تصفية كل زملاءه المخلصين، ثم خرج صديقه ورفيق دربه بليز كومباوري إلى الصحافيين ليعلن ترأسه الدولة بمباركة فرنسية ولم يترك سنكارا في بيته بعد موته أكثر من دراجة هوائية وبعض الأدوات التي لا تتجاوز كلها 50 دولارا أمريكيا.
بقيت صورة توماس سنكارا في ذهن الشعب وبخاصة كل من عاش في فترته التي تعتبر فترة ذهبية نادرة تركت بصماتها في حياة السياسية والاجتماعية لبوركينافاسو.
2 ـ ظهور طبقة بروجوازية في بوركينافاسو:
يعاني الشعب البوركينبي من فقر مدقع، وانفلات أمني كبير، وانقطاع كهربائي مستمر، وفي المقابل هناك طبقة مترفة تتلاعب بالأموال ، حتى أنك تجد رئيس بلدية في بوركينافاسو أكثر ثراءً من وزير فرنسي .
3 ـ تهميش الشباب والطلاب:
لم يكن علاقة بليز كومبوري جيدة مع الشباب والطلاب منذ وصوله إلى السلطة، ركز دائما على الطبقة العليا في المجتمع، وأدرك الشباب وبخاصة الطلاب في بوركينافاسو ذكاء الرئيس ولعبته المحكمة للسيطرة على مفاصل الدولة بشرائه كل عقول الدولة ليصبح هو القائد الأوحد، من دخل في طاعته أكل وشرب وشبع، ومن عارضه تحولت معيشته إلى الضنك؛ فكرهه الطلاب والشباب ، وهم أكثر الناس دعوة للتظاهر ضدّه، لقد عقد الرئيس أكثر من لقاء مع الشباب ووعدهم بدعم وتوفير فرص عمل لهم إلاّ أنّ كلّها مجرد وعود لم تتحقق.
4 ـ الإعلان عن تعديل الدستور
كان الإعلان عن تعديل دستوري يتيح للرئيس المشاركة في الانتخابات 2015م، لقد شهد الدستور البوركيني أكثر من تعديل ، آخره في 1991م، مما مكّن الرئيس الخوض في الانتخابات مع تقليص صلاحية الرئيس من (7) سنوات إلى (5) سنوات.
5 ـ موقف النصارى السلبي من مشروع تعديل الدستور:
سحب النصارى تأييدهم لمشروع الرئيس في تعديل الدستور يتيح له الترشح للرئاسة في عام 2015م، وهم شريحة مهمّة في الدولة، على الرغم من أنهم أقلية إلا أنهم فصيل مؤثر في المجتمع ، لديهم علاقة قوية مع الفاتيكان والعالم الغربي.
وكان لتأييد المسلمين له علناً من خلال خطاب متلفزة، وهذا خطأ فادح ارتكبه المسلمون في بوركينافاسو، أثر كبير في زيادة غضب النصارى عليه؛ فعملوا جاهدين على ضرورة ذهابه.
هروب الرئيس:
في يوم الثلاثاء الموافق 28/ 10/ 2014 تظاهر في العاصمة واغادوغو، وفي أهم مدن الدولة ما لا يقل عن مليون شخص، ترجم الشعب غضبهم على الرئيس وعدم استعدادهم للعيش تحت حكم بليز كومبوري بعد أن حكم 27 سنة ولم ينتبه الرئيس إلى أصوات الشعب فخرجوا مجدداً يوم 30/10/2014م، مما اضطر الرئيس إلى سحب مشروع تعديل الدستور وتجميد البرلمان واستقالة الحكومة ووصل به في النهاية إلى الاستقالة .
موقف المعارضة و الحزب الحاكم من ترشح بليز:
الطغاة دائماً يستعينون بفقهاء الدساتير المأجوريين لوضع بنود غامضة متناقضة في الدساتير يمكنهم تفسيرها والاعتماد على بعضها لخدمة مآربهم، وهذا ما حدث في بوركينافاسو، تمسك الشعب والمعارضة بمادّة (37) التي تنص على انتهاء فرصة الرئيس نهائياً بعد انتخابه فترتين رئاسيتين، وذلك بعد تعديل الدستور 1991م بأمر من الرئيس بليز نفسه وتحت إشرافه، وقد قضى هذه الفترة مرتين، قانونياً لا يجوز أن يشارك في الانتخابات مرّة أخرى وأن يحكم غيره، ومن جهة أخرى يرى أنصار الرئيس أنّ الشعب منقسم في الأمر، وتجد في نفس الدستور وخاصة في مادة (49)، و(161) إلى (164) نصوصاً تسمح للرئيس باللجوء إلى الاستفتاء في حالة انقسام الشعب حيال قضية وطنية ما؛ لتبرير موقفهم؛ فكلا الطرفين (المعارضة وحزب الحاكم) يحتفي بحق أو بباطل بالدستور؛ إذ يحاول كل واحد منهما إضفاء الشّرعية على أقواله وأفعاله.
أسباب تعميق الأزمة وتفاقمها انقسام الشَّارع في البداية:
يقف المتتبع في الساحة البوركينبية على تعدد آراء المحللين السياسيين في أمر ترشح الرئيس بليز لعدة آراء مختلفة أهمّها:
1 ـالرئيس بليز لا يرغب في الترشح لفترة مقبلة، حيث يدرك جيداً معاناة الشعب البوركينبي وكرههم لنظامه، كما يدرك بوضوح ما سيؤول إليه تعديل الدستور،وهي حرب خاسرة.
2 ـ ويرى البعض أن مصلحة الدولة تقتضي بقاءه حيث لا منافس ولا معارض حقيقي له، وبالتالي عمل للترقية بالدولة فحول البلد إلى عاصمة جميلة وقبلة للأحرار في المنطقة.
3 ـ وذهب آخرون إلى أنّ الرئيس نفسه لا يريد ترك الكرسي أبداً بعد أن ذاق حلاوة السلطة لمدة سبع وعشرين سنة (27 سنة).
4 ـ وتوصل بعضهم إلى أنّ الرئيس بليز شبع من السلطة؛ إلا أن بقاءه ضروري لتبعات سياسية؛ فبعض الشعوب في المنطقة ينتظرون سقوطه للشماتة به، لوقوفه مع بعض التَّيارات المعادية لقضاياهم، فهو متهم من الشَّعب المالي بنصرة زعماء الطوارق وإيواءهم، ومتهم من أنصار لرون جباجبوا في كوت ديفوار بنصرة الرئيس الحالي (الحسن وتارا) وأنصاره عسكرياً، كما وقف مع موسي داديسكمارا في غينيا كوناكيري أمام معارضيه وأسكنه في العاصمة وغادوغ وبعد أن تعرض لمحاولة اغتيال في كوناكيري من أحد حراسه، بعد قتل متظاهرين الفلاتة وغيرهم في كوناكيري بالعشرات.
الخلفيات الفكرية والدينية للثورة الشعبية في بوركينافاسو:
يعتقد من يتابع الأحداث الحالية في بوركينافاسو أنّ له علاقة بالصراعات الطائفية أو الاثنية، وهو مخطئ، أجزم القول بأنّ الأزمة الحالية في بوركينافاسو ليست طائفية ولا عرقية منذ بدايتها وحتى الآن، فهي قضية قانونية بحتة، حيث يقوم الرئيس بمحاربة الدستور الذي أقرّه في فترة من الفترات، في ظل معاناة الشعب من الطغيان والظلم مما تسبب في رفض الجماهير مشروع الرئيس، الشعب يطالب بتوفير الأمن والاستقرار في كل ربوع البلد ، ومن ثم العمل على العدالة والمساواة والنهضة بالتعليم والصحة والكرامة المدمرة حالياً عمداً من الرّئيس وأنصاره.
ماذا بعد ذهاب بليز كومبوري ؟ هل هناك بديل نظيف ؟ أو أمامنا فوضى عارمة؟
نؤمن بالقول القائل إنّ الثورة هي احتفال المضطهدين، وهي دائما في أيدي الشباب يرثونها، وتنجح عندما تتمكن من طرد الوجوه القديمة الطاغية الظالمة لتحل محلها الوجوه الجديدة النظيفة، وهذا ما يخاف الشعب البوركينبي عدم تحققه ، مبعث هذه المخاوف هي أن الرئيس المعزول بوركينافاسو لم يلبث وأن غادر البلاد حتى ظهر من ثكنات الرئيس نفسه تصريحات عسكرية متناقضة كل واحد ينصب نفسه رئيسا للبلاد.
1 ـ ظهر قائد الأركان نابيريهونوري تراوري NabéréHonoréTraor، ينحدر من مدينة بوبوجولاسو ، العاصمة الاقتصادية لبوركينافاسو، أكثر مدن كرها للرئيس المعزول بليز كومبوري.
2 ـ وظهر بعده العقيد يعقوب أسحاق زيدا، قائد في الحرس الرئاسي الخاص بالرئيس المعزول، وهو من نفس المدينة للرجل الثاني بعد الرئيس وهو مع أقرب الناس ثقة بالنسبة للرئيس.
3 ـ هذه التطورات جعلت هناك قناعة لدى البعض أن السيناريو المصري المؤسف يلوح في الأفق في بوركينا فاسو ، حيث ذهب الرئيس المعزول حسني مبارك وهو من أصول عسكرية وليستقر أمر الحكم في يد أحد تلميذه عبد الفتاح السيسي، والذي أعلن عندما جاء أنه أتى لحماية الدولة وسرعان ما أصبح طالب سلطة فقمع الديمقراطية والديمقراطيين، وسجنهم وسامهم سوء العذاب، وقد تكرر هذا مراراً في أفريقيا، عندما مات الرئيس الغيني الكوناكيري لاسنا كونتي تنفس الشعب الصعداء بذهاب رجل خرب هذا البلد الغني بمواردها الطبيعية، إلاّ أنّه سرعان ما استولى بعض الضباط على السلطة وحولوا الدولة إلى ثكنة عسكرية وخانوا بعضهم بعضاً وأدخلوا الدولة في صراعات دامية مع الجيش ومات على إثرها أكثر من 170 مواطن غيني، وكذلك في جمهورية مالي وغيرها.
4 ـ يبدو أن هناك تيارات تنادي برفض حكم العسكر واختيار رئيس مدني من المعارضة أو من المجتمع المدني لقيادة الدولة في هذه المرحلة الانتقالية الحرجة، والأيام القادمة تخبرنا ماذا ستسفر عنه هذه المطالب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات والهوامش:
(*) طالب دكتوراه من بوركينافاسو ، متخصص في الشؤون الأفريقية، لديه العديد من المقالات المنشورة في مجلات عربية وأفريقية .
(1) روح الثورات، والثورة الفرنسية، غوستاف لوبون، ترجمة: عادل زعيتر، منشورات كلمات عربية للترجمة والنشر، مصر، القاهرة، ط1، 2012م، ص: 26.
(2) باسم الحرية، إيضاح للعقائد الأفريقية، كوامي كروما، تعريب: خيري حماد، منشورات دار الطليعة، بيروت لبنان، ط1، 1988م، ص: 19.
(3) ملكوم إكس، سيرة ذاتية، إليكس هاليي، ترجمة: ليلى أبو زيد، دار بيسان للنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، ط1، 1996م، ص:301.
(4)إفريقيا والثورة، أحمد سيكو توري، ترجمة: مجموعة من الاختصاصيين، مراجعة: أديب اللجمي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق/ ط3، 1968م، ص: 10 – 11.