توصَّل المجتمع الدولي بعد صولات وجولات إلى الفيدرالية حلّاً لمشكلة الصومال المستعصية، وبدأ تطبيق النظام على أرض الواقع محاطًا بكثيرٍ من التحديات مصوَّبًا إليه كمّ هائل من الانتقادات، في ما يلي من السطور نقوم بجولة سريعة نُقيِّم فيها النظام الفيدرالي في الصومال بعد مرور ست سنوات على إنشائه.
في 2012م أجاز مجلس الشعب الدستور الصومالي الحالي، وتأسَّست بذلك اللامركزية السياسية في الصومال، حكمًا لم تعهده منذ استقلالها عن الاستعمار الإيطالي؛ لبقائها دولة بسيطة موحَّدة حتى سقوط النظام الشيوعي في 1991م، وأثناء مرحلة أمراء الحرب القَبَلِيِّين التي طُوِيَتْ باتفاقية امبغادي في نيروبي عام 2002م بموجبها انطلقت الفترة الانتقالية بتفاهمات سياسيَّة جديدة عالجت إشكالية تقاسُم السلطة بين القوى القَبَلِيَّة المتصارعة التي اشتبكت إثر إسقاط سياد بري حتى تآكلت لافتقادها إلى رؤية سياسية موحَّدة، ولكنها بقيت في الساحة مقطعة الأوصال، منهكة القُوَى من آثار الحرب المدمِّرة، وظلت تطمح لعل الزمان يجود عليها بمقابل ما بذلته من الغالي والنفيس.
ترتيبات إمبغادي أسست لنظام 4.5 بمقتضاه قُسِّم المجتمع الصومال لغرض تقاسم السلطة، وتمَّ تشكيل مجلس الشعب من أعضاء القبائل الحزبية التي اعترف بها ذلك النظام النَّاشئ نتيجة ضياع الثقة بين أبناء الشعب الواحد.
إنَّ سفينة الفترة الانتقالية انطلقت مُحاطَة بالأمواج المتلاطمة من التحديات؛ أهمها بناء المؤسسات، والتغلُّب على الفساد الإداري المتأصل والصعوبات المالية والتدخلات الخارجية.
في أولى انتخابات هذه الفترة انتخب البرلمان الصومالي حينها الراحل عبدالله يوسف رئيسًا للبلاد، وكان من أمراء الحرب في شرق البلاد، له بها نفوذ كبير من خلاله ساهم في تأسيس حكم ذاتي على أجزاء من مناطق الشرق التي تُعرَف حاليًا بولاية ببنتلاند الصومالية، وصار أول رئيس له، ثم تولى من بعده شيخ شريف أحمد، رئيس المحاكم الإسلامية سابقًا، وكانت المحاكم في اشتباك دائم مع حكومة عبدالله يوسف المدعومة لوجستيًّا وماليًّا مِن قِبَل المجتمع الدولي وإثيوبيا، ثمَّ انشقت حركة الشباب عن المحاكم الإسلامية، وأعلنت رفضها لحكومة الشريف، وظل الصراع المُسَلَّح بين الطرفين في أَوْج قوته.
إنَّ السِّمة الجامعة للنُّظُم المتعاقبة خلال هذه الفترة محدودية تأثير الدولة في حياة المجتمع، وعدم سيطرتها على معظم إقليم الدولة برًّا وجوًّا وبحرًا.
ثم أعلن المجتمع الدولي نهاية الفترة الانتقالية، وتشكلت حكومة كاملة الصلاحية بموجب دستور 2012م. وبمقتضى الدستور ذاته كانت الحكومة مُلْزَمَة بتأسيس النظام الفيدرالي في البلاد.
هل تناسب الفيدرالية الصومال؟
من المقرَّر في دراسات القانون الدستوري أن النظام الفيدرالي حالة استثنائية لمعالجة الإشكالات الناشئة عن التنوُّع العِرْقِيّ أو الثقافي أو الديني في مجتمعٍ ما، إذا خِيفَ أن يؤدِّي ذلك إلى تفكُّك الدولة وانقسامها على تلك الأُسُس. وفي انطباق تلك الخصائص على الصومال يرى بعض المحلِّلين أن الشعب الصومالي في عافية من التنافر العنصري بين مختلف مكوناته، فهو واحد في دينه وثقافته وتاريخه، فلا مُبَرِّر لفرض الفيدرالية عليه، وما كان من خلافات قَبَلِيَّة أو أيديولوجية هنا وهناك يمكن معالجته بترسيخ مفهوم الدولة الحديثة، ورفع مستوى معيشة المواطن، والحدّ من التدخلات الإقليمية والدولية المغرضة في شؤون البلاد الداخلية.
ولو افترضنا جدلاً أجدرية النظام الفيدرالي في الصومال فكيف بإمكان مثل هذه الدولة الهشَّة التي لم تتعافَ بعدُ من آثار الحرب الأهلية، بل لا يزال شعبها تحت نيران الحركات المسلحة ذات التوجهات الأيديولوجية المختلفة، أن تتمكن من إدارة نظام فيدرالي بتعقيداته المؤسسية؟
أضف أن الحكومات المتعاقبة لم تتمكن من ضبط الأمور في العاصمة ولولا استعانتها بالمجتمع الدولي وبعض الفصائل الدينية لما طاب لها المقام بها. هذا ما يتساءله بعض المحللين.
ويؤكد هذا الاتجاه ما يراه أبوبكر أحمد علي الغزالي، أستاذ القانون الدستوري بجامعة بنادر الصومالية، أن الفيدرالية لا تصلح للصومال لأسباب؛ أهمها غياب سلطة مركزية مُؤَهَّلة تشرف على أداء الولايات، والتدني الشديد في الوعي بماهية النظام الفيدرالي في الأوساط الشعبية والسياسية في البلاد، مضيفًا أنَّ النظام الفيدرالي قد فشل في تحقيق الاستقرار، وإعادة الثقة بين مُكَوِّنَات الشعب الصومالي، وتجاوز ما خلَّفته الحروب الأهلية من المظاهر المناوئة لمفهوم الدولة الحديثة، من القَبَلِيَّة والمحسوبية والفساد الإداري، وأن استحداث النظام الفيدرالي ما كان إلا تفاديًا لتفكُّك كيان الدولة الصومالية باستيعاب الأقاليم التي أعلنت حكمًا ذاتيًّا بعد انهيار الدولة المركزية.
التحديات التي تواجه تطبيق النظام
صحيحٌ أن نُظُمًا ذاتية قامت أثناء الحرب الأهلية، وتَمَكَّنَتْ من ممارسة أدوار الدولة الحديثة في المناطق التي وقعت تحت سيطرتها، في الشرق نشأت دويلة بونتلاند، وفي الشمال صوماللند، ودورها في خلق مناخ صحيح نشطت فيه التجارة، وانتعشت حياة من بها من الصوماليين أمر إيجابي يستحق الإجلال والتقدير.
ولكن لا يمكن إقرار القواعد الفاسدة التي انْبَنَتْ عليها هذه النُّظُم، فاعتمادها القَبَلِيَّة في تشكيل مؤسساتها مثلاً أمرٌ لا يقبله منطق الدولة الحديثة، وبالتالي ليس من الرشد السياسي شرعنة مثل هذه النُّظُم قبل غربلتها، وإصلاح ما كان منها فاسدًا، وإبقاء ما كان صالحًا.
والحقيقة أنَّ الحكومة الحالية من الضعف بحيث لا تتأهل لذلك الدور، فتلجأ دائمًا إلى مجاملة تلك النُّظُم اتقاء شرِّها؛ إذ بإمكانها فعل الكثير مما يمكن أن يُقْلِقها لأن المركز يعتمد عليها في محاربة حركة الشباب، وضبط الأمن في مناطق نفوذها.
وبهذا الصدد، وأثناء خطابه أمام جمعٍ في لندن، أبدى رئيس بعثة الأمم المتحدة في الصومال تخوُّفَه من أثر النظام الفيدرالي على الأقليات القَبَلِيَّة في الولايات، ونَبَّه على ضرورة إشراكها في الحكم وعدم تهميشها (1).
إن تسيس القَبِيلَة أبرز ما يُعيق الفيدرالية في الصومال ويُهدِّدُها بالفشل ما لم يتم كبح جماح القَبِيلَة، وردّها إلى نصابها الطبيعي، وخاصة أن القَبَلِيَّة وتسييس القَبِيلَة أمرٌ لم تَنْجُ منه حتى الطَّبَقَة المثقَّفَة في أروقة الجامعات مما سيجعل التخلص منها أمرًا في غاية الصعوبة، ولكن يمكن تحييد القَبِيلَة لصالح الدولة المدنية الحديثة بإيجاد حكومة مركزية فعَّالة تهدف إلى توصيل الخدمات إلى الأرياف، وتكتسب بذلك ثقة المواطنين.
فالقَبِيلَة مصدر قوة واعتزاز لدى المواطن الصومالي العادي لا يمكنه التخلّي عنه إلا بعد توفُّر كيان بديل يُطَمْئِنه على مستقبل حياته، وهذا الكيان هو بالطبع الدولة المدنية الحديثة التي تقدم لمواطنيها الخدمات الأساسية من الأمن والتعليم والصحة، بعيدًا عن المحاباة والجهوية.
وهل يمكن الحلم بدولة تلك مواصفاتها في الصومال؟ نعم يمكن ذلك، وكيف لا والشعب الصومالي مسلم الديانة، مؤمن بالنظام الإسلامي، ولولا الأغاليط التي ابْتُلِيَتْ بها الشعوب الإسلامية مؤخرًا من العلمانية والديمقراطية الجائرة لما اختلط عليه الأمر، فيرتضي نُظُمًا قمعيَّة تتخذ من القَبِيلَة وسيلة إلى الظلم والقهر.
وأظن الأوان قد حانَ لتُرَدَّ القَبِيلَة إلى دورها الشرعي الذي هو التعارُف والتعاون، بكسر الأنشطة السرية للقبائل، واستبدالها ببرامج بَيْنِيَّة تهدُف إلى دَمْجها، وإعادة ترتيب العلاقات بينها، وتشجيع برامج إعلامية تُعَلِّم الجيل الحديث العلاقات الاجتماعية والأخوية بين مختلف القبائل الصومالية، وتشجيع التزاوج بين أبنائها.
والخلاصة أنَّ توثيق العلاقات التاريخية المشتركة بين القبائل الصومالية أمرٌ يستحق أن يُهْتَمَّ به بدلَ الافتراضات الفَضفاضة بأنَّ الشعب الصومالي شعبٌ واحدٌ، وأن الأمور بخير، وهي افتراضات لا يُطلقها إلا مَن كان بعيدًا عن المسرح الصومالي، ولم يخبر طبيعة هذا الشعب عن قربٍ. وعلى وزارة الثقافة وأذرعها الإدارية إطلاق مبادرات بهذا الصدد لكسر الانغلاق القَبَلِيّ الذي يحول القبائل إلى قنابلة قابلة للانفجارة في أية لحظة.
إنَّ مشكلة تقاسم السلطة في النُّظُم الولائية تظل ماثلة رغم مرور سِتّ سنوات على صدور الدستور الجديد الذي أنشأ النظام الفيدرالي في الصومال كما أسلفنا. وما حصل في ولايتي جوبلاند وغلمدوك خير دليل على ذلك، فالأولى نشأت في ظروف غامضة، وخرجت من رحم صراعات قَبَلِيَّة دامية لم تُحْسَم إلا باستقواء أطرافها بالخارج مثل كينيا، والثانية لا تقوم إلا مُتَخَبِّطَة فاشلة في جمع الفُرَقَاء فيها على برنامج سياسي مستدام يرتاؤه الجميع، بل ازداد الطين بلّة حين انشقّ الصف الصوفي السياسي فيها، فإذا هم فريقان يقتتلان، وما جرى في مدينة حرالي من سفك الدماء، وتشريد الأهالي؛ خيرُ دليلٍ على ذلك.
لقد تكرَّر كثيرًا في الآونة الأخيرة لقاءات جمعت ولاة الولايات الأربع التي تشكَّلت حتى الآن، أغلب ما يدور فيها تهديد السلطات الفيدرالية في مقديشو بإيقاف التعاون معها، والتمرد على توجيهاتها.
وكان أحمد إسلام والي جوبالاند من أشدهم تحمسًا لهذا الاتجاه لقوة مركزه الحربي.
وقد اجتمع الولاة في مدينة كسمايو؛ حيث أصدروا بيانات تدين السلطات الفيدرالية، وتدعوها إلى التوقف عن التدخل في شؤون الولايات.
وفي ظني أن مثل هذه المواقف منشؤها غموض في الآليات القانونية الضرورية لقيام النظام الفيدرالي أخطرها الدستور الذي أدَّى إلى تداخل اختصاصات المستويين، كما أن الدستور أحال كثيرًا من المسائل التنفيذية إلى البرلمان ليضع لها تشريعات مناسبة، الأمر الذي لم يتحقق بالسرعة المطلوبة لخللٍ في الهيئة التشريعية في المستويين على حدٍّ سواء، فبعض الولايات لم تستقر مؤسساتها بعدُ بل ليس لسلطاتها وجودٌ على أرض الواقع، اللهم إلا في عواصم الولايات وأريافها.
وقد انطلقت الفيدرالية فما الحل؟
لا جَرَم أن المركز قد بدأ يشعر بصعوبة مهمة لامركزية الحكم، وقد ثارت فعلاً خلافات تتعلق بالسياسة الخارجية في الآونة الأخيرة، حيث استقلت بعض الولايات بإنشاء علاقات ثنائية مع دول الجوار، واتخذت قرارات بهذا الشأن بعضها تتعلق بالأمور السيادية.
والحق أن المركز يحاول كَبْح جماح بعض الولايات بإنشاء خطوط تنسيق في المجالات المختلفة بإرسال مُنَسِّقِين مِن قِبَله يتعاونون مع سلطات الولايات في ضبط الأمور، والغريب أن بعضها ترفض هذا التنسيق، وردُّ ولاية جوبالاند مُنَسِّقِين من النوع المذكور غير مرة خيرُ شاهد على هذا، ويدل بوضوح على تدنِّي مستوى الثقة بين مستويي الحكم في البلاد.
ومن الضروري تصحيح الوضع برفع مستوى التنسيق والرقابة على الولايات، وتضمين الدستور بندًا بإمكان سحب الصلاحيات منها في حالة فَشَلِها في تنفيذ السياسات العامة للدولة، كما هو الحال في كثيرٍ من دساتير الدول الاتحادية.
وأهم ما يجب على المركز التأكُّد منه حالة الأقليات القَبَلِيَّة في الولايات؛ كون تسيس القَبِيلَة أساس الكثير من الأزمات السياسية في الصومال، وعليه مراجعة القرارات التي اتُّخِذَتْ في هذه الولايات أثناء غياب الحكم المركزي الفعَّال، خاصةً فيما يتعلق بالتقسيمات الإدارية فيها، فهناك الكثيرُ من المحليات تم إنشاؤها على أُسُس قَبَلِيَّة، وكذلك التعيينات السياسية فيها، وهذه المسائل ضروريةٌ لغرض توزيع الثروة بين الولايات أولاً، وإيصال نفوذ المركز إليها ثانيًا.
ختامًا:
إنَّ النظام الفيدرالي لا إشكال فيه؛ إنْ طُبِّقَ مصحوبًا بضمانات ترفع فاعليته، وكون الشعب الصومالي واحدًا في كثير من الأمور لا يجعل هذا النظام غير مناسب له، فشعب دولة الإمارات العربية المتحدة لا يختلف كثيرًا عن الشعب الصومالي، فقد طبّق النظام الفيدرالي بكفاءة عالية يشهدها الجميع.
إلا أنَّ الفيدرالية المفاجئة دون فتح قنوات الحوار والدراسة لأهل الاختصاص أدت إلى انتكاسات سياسية ومؤسسية واضحة في الصومال، كان من الأفضل ترك النظام المركزي تدريجيًّا، وتحويل الصلاحيات إلى الولايات شيئًا فشيئًا بدل هذه الجرعات الزائدة التي ضررها أكبر من نفعها.
على المركز استعادة هيبته وصلاحياته المغصوبة، ومراقبة الولايات عن كَثَب، وإرغامها على قبول التنسيق معه. وأظن بفعل ذلك ومعالجة التحديات الواردة أعلاه يمكن تصحيح مسار الفيدرالية في الصومال.
الهوامش والاحالات:
(*) باحث كيني متخصص في شؤون شرق إفريقيا .
(1) https://somalianewsroom.com/is-federalism-the-best-path-for-a-state-like-somalia/