مقدمة:
عرفت قارة إفريقيا تاريخيًّا انتشار ظاهرة الانقلابات العسكرية، الأمر الذي مثَّل تحديًا كبيرًا للمنظمات الإقليمية، بدايةً من الاتحاد الإفريقي كمظلة أكبر للمنظمات الإقليمية، مرورًا بالمنظمات الفرعية الأخرى في القارة، فالانقلاب العسكري يُقيل رؤساء الدول ويُعيد هيكلة مؤسساتها، مما قد يؤدي إلى حالة من الفوضى، ويُؤثر بشكل متزايد على مواقف المنظمات الإقليمية وقدراتها على تنفيذ أجنداتها، التي يتعين عليها التعامل مباشرةً مع الحكومات الجديدة في هذه الدول.
ومثَّل عودة الانقلابات في إفريقيا مؤخرًا أمرًا مثيرًا للدهشة من عدة جوانب؛ خاصةً أن هناك مَن كان يرى أن الانقلابات تبدو وكأنها أصبحت شيئًا من الماضي؛ إلا أن الانقلابات التي تصاعدت منذ عام 2020م، مرورًا بـ”انقلابي النيجر والجابون” في يوليو وأغسطس 2023م؛ أدّى إلى تصاعد الحديث عن ظاهرة الانقلابات مرة أخرى وخطورتها في إفريقيا وإمكانية التعامل معها؛ سواء على المستوى الإفريقي أو على المستوى الدولي، خاصةً أن الانقلابات جميعها اتَّسمت بصفات تكاد تكون واحدة ومتكررة من حيث الأسباب والسيناريوهات التي مرت بها.
ولقد كان لهذه الانقلابات انعكاسات على طبيعة عمل المنظمات الإقليمية في إفريقيا كالاتحاد الإفريقي والإيكواس؛ لكون هذه الانقلابات تأتي تعبيرًا عن فشل هذه المنظمات، وعدم قدرتها على تحقيق قدر من الاستقرار داخل الدول الإفريقية، ما يعني مواجهتها لتحديات كبيرة في كيفية التعامل مع هذه الانقلابات التي جاءت بتأييد شعبي وبمبررات مشروعة، لذلك تُناقش هذه الورقة تحديات المنظمات الإقليمية الإفريقية في مواجهة الانقلابات العسكرية، وسُبُل تفعيل دورها من أجل تعزيز الاستقرار والتنمية المستدامة في القارة.
أولًا: تحديات التعامل الإقليمي مع ظاهرة الانقلابات في إفريقيا
تُعد الانقلابات العسكرية من أبرز التحديات التي تُواجه الاستقرار السياسي في العديد من الدول الإفريقية؛ حيث شهدت القارّة الإفريقية منذ الاستقلال أكثر من (200) انقلاب عسكريّ، نجح منها (106) انقلابات. وقد أدّت هذه الانقلابات إلى زعزعة الاستقرار السياسي والأمني، وتراجُع التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مُشكِّلةً تحديًا كبيرًا أمام مسار التحول الديمقراطي في إفريقيا، وقد كان للتنافس القوي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي دور في ذلك، وفي تصاعد حدة الانقلابات بعد الاستقلال الإفريقي، واستمرت قضايا الانقلابات العسكرية في حالة تصاعد حتى نهاية الحرب الباردة، وصولًا لعام 2000م، والتي يُشار إليها على أساس أنها قاعدة لمكافحة الانقلابات العسكرية في القارة([1]).
وبشكلٍ عامّ يُمكن الإشارة إلى أبرز تحديات التعامل مع ظاهرة الانقلابات العسكرية في إفريقيا على النحو التالي:
1- نقص وضعف أدوات المنظمات الإقليمية الإفريقية في معالجة مشكلات القارة:
لقد كشفت الانقلابات العسكرية التي شهدتها دول إفريقيا جنوب الصحراء أن هناك نقصًا في الآليات القانونية الواضحة في التعامل مع المشكلات الإفريقية المزمنة، خاصةً أنَّ الانقلابات العسكرية التي شهدتها القارة جاءت تعبيرًا عن القصور في عملية التحول الديمقراطي([2](، وخلقت هذه القضايا حالةً من السخط العام خاصةً بين فئات الشباب الإفريقي، وبات يُنْظَر للمنظمات الإقليمية في إفريقيا على أنها تعاني من تراجع في دورها، وكأنه لا جدوى منها؛ لعدم قدرتها على تنظيم شؤون القارة.
تُعد العقوبات وحظر السفر وتجميد الأصول إجراءات شائعة تُستخدم للضغط على قادة الانقلابات بشكلٍ عام، فعادةً ما تدين المنظمات الإقليمية الانقلابات العسكرية، وتدعو إلى استعادة النظام الدستوري، وبخاصة أنها تنظر لهذه الانقلابات على أنها قد تُمثِّل إعاقة لجهود التكامل الإقليمي، وتعطل العلاقات الدبلوماسية وعملها، وبالتالي فقد تحتاج إلى وقت أطول في تحقيق الاستقرار على المدى الطويل في الدولة التي تشهد انقلابًا، وقد أدت الانقلابات العسكرية التي شهدتها دول غرب إفريقيا مؤخرًا إلى بروز أزمة إدارة لدى المنظمات الإفريقية وبخاصة الاتحاد الإفريقي والإيكواس.
2- التفاعل بين المشكلات الأمنية والاقتصادية وظاهرة “الأبوية السياسية” في إفريقيا:
إن غالبية الانقلابات العسكرية التي شهدتها إفريقيا مؤخرًا جاءت ترفع شعارات متشابهة وأسبابًا واحدة، لم تخرج عن تراجُع مستوى الأمن وانتشار الفقر وتشبث الحُكّام بالسلطة، فلقد فشل الاتحاد الإفريقي والمؤسسات الأخرى الإقليمية في إفريقيا في التعامل مع العديد من القضايا؛ من أهمها “الأبوية السياسية” التي تنتشر بشكل كبير في دول إفريقيا جنوب الصحراء، وتتمثل مظاهرها في “الانقلابات الدستورية” وطول فترة الرئاسة، فعلى سبيل المثال تشهد غينيا الإستوائية منافسة ضمن عائلة الرئيس الحاكم للبلاد “تيودورو أوبيانج” الذي أُعيد انتخابه رئيسًا للبلاد في يوليو 2022م بنسبة 95%، والبالغ من العمر 80 عامًا؛ حيث يرغب “أوبيانج” في الدفع بنَجْله إلى سُدّة الحكم، الأمر الذي يجد رفضًا من أشقاء الرئيس الجنرالين “أرمنغول أوبيانج” و”مبا أوبيانج”([3]).
أيضًا شهدت الانتخابات البرلمانية في بنين التي أُجريت في أبريل 2019م مقاطعةً مِن قِبَل أحزاب المعارضة احتجاجًا على التزوير والتدابير التي اتخذتها الحكومة لمنعها من الترشح، بما في ذلك القيام بالاعتقالات التعسفية، وإطلاق النار على المتظاهرين، وسُمِحَ لحزبين فقط بالترشح؛ كلاهما متحالف مع الرئيس (باتريس تالون)([4])، وبالنظر لموقف الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس)، فإنها وقفت موقف المُشاهِد إلى حد كبير، وقد ظهرت هذه السلبية على الرغم من البروتوكول الذي صدر في عام 2001م بشأن الديمقراطية والحُكم الرشيد، والذي يُكرّس المعايير الديمقراطية معيارًا للمنطقة، ويحدد المسؤوليات الجماعية لتحقيق ذلك، وهو ما يشير إلى أن المؤسسات الإقليمية في إفريقيا لا تمتلك الرغبة الحقيقة في التدخل الوقائي للتعامل مع قضايا القارة، وبخاصة تلك المتعلقة بالشؤون الداخلية للدول.
مثَّلت المشكلات الأمنية والاقتصادية أحد أسباب الانقلابات على حكومات جاءت بطرق منتخبة، وذلك نتيجة لـعدم قدرة النخب الحاكمة في إفريقيا على تحقيق استقرار سياسي يؤدي لتنمية اقتصادية حقيقية مما خلق أزمةً في كيان الدولة الإفريقية، وهو عكس ما تُطالب به هذه المنظمات الإفريقية وما ترفعه من قضايا تحث فيها على الديمقراطية والوصول السلمي للسلطة([5])، وهنا تقع المسؤولية على المنظمات الإفريقية في كونها لم تتَّخذ مواقف جادة تجاه هذا الفشل، بالإضافة إلى عدم تصدّيها لظاهرة الأبوية السياسية وحالة الديمقراطية الشكلية، ومع ذلك تحدث هذه الخروقات غير الديمقراطية، في ظل تأكيد الاتحاد الإفريقي والمؤسسات الفرعية الإقليمية في القارة على إدانة التغييرات غير الدستورية للحكومات، إلا أنه لم يتم بذل جهد لإدانة هذه الممارسات والتعديلات الدستورية والمعاقبة عليها.
ثانيًا: مُحدِّدات دور المنظمات الإفريقية فيما بعد الانقلاب
ثمة مجموعة من العوامل التي تُعدّ محددًا لدور المنظمات الإقليمية في إفريقيا وتعاملها مع ظاهرة الانقلابات العسكرية؛ من أبرزها ما يلي:
1- مدى قدرة المنظمة على خلق درجة من التوافق حول الموقف من الانقلاب:
لقد كشف انقلاب النيجر وموقف الإيكواس من هذا الانقلاب عن هشاشة صناعة القرار السياسي للمنظمة؛ إذ إن معارضة كلّ من مالي وبوركينافاسو لقرارات (الإيكواس) تجاه الموقف من الانقلاب أثَّرت على فعالية قرارات المنظمة؛ حيث وصل الأمر إلى إرسال هذه الدول لقوات عسكرية لحماية النيجر من أيّ تهديد عسكري، هذا على الرغم من أن ميثاق الإيكواس ينص صراحة على إدانة الدول الأعضاء لأيّ تغيير غير دستوري يحدث داخل أيّ دولة من دوله، وهي من بين الأمور التي أثبتت الانقلابات العسكرية أنه يصعب تحقيقها.
تعد سمة ارتهان القرار السياسي بطبيعة المصالح التي تحكم دُوَل المنظمات الإفريقية أحد المعرقلات التي ظهرت على السطح الإفريقي، والتي تحول دون تحرك جذري للتعامل مع بعض القضايا الإفريقية نتيجة للسعي نحو الزعامة بقيادة القرار السياسي للمنظمات الإفريقية، فعلى سبيل المثال يشهد الاتحاد الاقتصادي والنقدي لدول غرب إفريقيا (UEMOA) الذي يضم دول (بنين، وبوركينا فاسو، وكوت ديفوار، وغينيا بيساو، ومالي، والنيجر، والسنغال، وتوغو) خلافات حول الفرنك الإفريقي؛ بسبب عدم توافق الرؤى بين مالي وبوركينافاسو والنيجر مع بقية الدول نتيجة للخلافات حول الموقف من الانقلاب الذي شهدته النيجر في يوليو 2023م([6]) .
2- ارتباط القرار الإفريقي بمصالح القوى الغربية:
أظهرت الانقلابات العسكرية التي شهدتها دول غرب إفريقيا أنَّ هناك ارتباطًا بين كلّ من القرار الإفريقي ومصالح الدول الغربية، فعلى سبيل المثال منذ عام 2003م، قام الاتحاد الإفريقي بتعليق عضوية الدول التي شهدت انقلابات عسكرية نحو (14) مرة. ومع ذلك، تحت الضغوط الدولية والإقليمية، وبسبب غياب التشريعات والمؤسسات الرادعة، يتراجع الاتحاد في كل مرة عن مواقفه([7])، وبالنظر إلى موقف الاتحاد الإفريقي من انقلاب الجابون والنيجر يتَّضح مدى ذلك التأثير؛ إذ إن المواقف الإفريقية تجاه النيجر كانت أكثر حدة، بينما في الجابون كان الموقف فقط اقتصر على تعليق العضوية، وهذا يرجع لطبيعة الموقف السياسي الدولي للأحداث في كلّ من الدولتين.
لقد أدى انتشار الصراع السياسي بين روسيا وفرنسا في إفريقيا؛ إلى انتشار الانقلابات في غرب إفريقيا، وفي الوقت الذي تضعف فيه فرنسا وحلفاؤها، يحل محلهم روسيا وحلفاؤها، وقد حدث ذلك في مالي والجابون والنيجر. وقد ظهر ذلك في إصرار السفير الفرنسي على عدم الاعتراف بالحكومة المالية الجديدة، فيما استغل الروس ذلك، وأسَّسوا علاقات قوية مع السلطات المالية الجديدة، وأبرموا عقودًا جديدة معها، وبالإضافة إلى ذلك تُصدِّر روسيا الحبوب والغاز إلى مالي([8]).
كشفت هذه الانقلابات أيضًا عن أن (الإيكواس) تجد تحديات في تعزيز فعاليتها وقدرتها في التعامل مع الانقلابات ومشكلات القارة خاصةً مع تصاعد الدور الروسي الذي ظهر كداعم للمواقف الشعبية والسياسية المناهضة لفرنسا، مما أدى لتعزيز الخيارات السياسية والعسكرية للأطراف المحلية، وقلل من القدرة التدخلية (للإيكواس) وفرنسا في مواجهة الانقلابات في غرب إفريقيا والحفاظ على نفوذهما([9]).
3- التقيُّد بمبدأ السيادة الوطنية للدول الإفريقية:
هناك قيود محددة لقدرة الاتحاد الإفريقي والمنظمات الإقليمية الفرعية على التدخل في الأزمات، وهذه القيود تأتي بناءً على مبدئَي السيادة الوطنية والتفويض؛ فعلى الرغم من اعتماد مبدأ حق تدخل الاتحاد الإفريقي في الدول الإفريقية حال تعرُّضها لأزمات قد تصل للإبادة الجماعية أو التغيير بالقوة([10])، إلا أنه يشترط الحصول على موافقة مُسبقة من الدولة المتضررة، وتتمثل هذه فيما يلي:
– موافقة الدولة المتضررة: يتطلب التدخل موافقة مسبقة من الحكومة الوطنية في الدولة المتأثرة بالأزمة، الأمر الذي يصعب تحققه حال تعرُّض الدولة لانقلاب عسكري.
– التشاور والتفاوض: يتوجب على الاتحاد الإفريقي والمنظمات الفرعية الإقليمية الأخرى في إفريقيا إجراء مشاورات وتفاوضات مع الدول المعنية قبل أيّ عملية تدخُّل، الأمر الذي كان في كثير من الأحيان عائقًا أمام تفعيل الأدوات القانونية في التعامل مع الأزمات في الدول الأعضاء؛ فعلى سبيل المثال لم يُرسل (الإيكواس) قوات حفظ السلام في المناطق التي شهدت صراعات في غرب إفريقيا إلا سبع مرات فقط؛ بسبب غياب توافق الآراء حول قرار موحد من المنظمة، وهو أمر يصعب تحقيقه عندما يتعلق الأمر بالعقوبات والانتشار العسكري عبر حدود الدولة، وحتى مع موجة الانقلابات الأخيرة، كانت آخر مرة نشرت فيها المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا قوة أمنية/حفظ سلام في عام 2017م، وكان ذلك في غامبيا.
– التأكد من الشروط القانونية: يجب أن يكون التدخل متوافقًا مع القوانين الدولية والإقليمية المعترف بها.
– الاحترام الكامل لسيادة الدولة: يجب أن يحترم التدخل سيادة الدولة المتأثرة، ويهدف إلى حلّ الأزمة دون المساس بالسيادة.
– الاستخدام الأخير للقوة: يجب أن يكون التدخل بالقوة الجبرية آخر إجراء بعد استنفاد كافة الوسائل السلمية والدبلوماسية؛ حيث يعكس التوازن الحساس بين حقّ الاتحاد الإفريقي في التدخل، وحرصه على احترام سيادة الدول، والعمل ضمن إطار قانوني ودبلوماسي.
4- العلاقة بين النخب الجديدة والمنظمات الإقليمية:
وضعت الانقلابات العسكرية التي شهدتها دول غرب إفريقيا مؤخرًا المنظمات الإقليمية الإفريقية في موضع مأزوم؛ بسبب طبيعة التغير السياسي الجديد في دول الانقلابات التي أخذت على عاتقها تحدي المنظمات الإفريقية؛ إذ يميل أغلب القادة الذي يُنظِّمون الانقلابات العسكرية إلى التهرب من تحديد فترة زمنية لتسليم السلطة أو حتى تنظيم انتخابات رئاسية، ويرجع السبب في ذلك إلى الارتباط المباشر بنجاح ظاهرة الانقلابات في القارة ونجاحها([11])، عبر تمسك قادتها بالتأييد الشعبي الذي ظهر كسمة في أغلب الانقلابات التي شهدتها دول إفريقيا جنوب الصحراء.
ولقد مثلت هذه الإشكالية في الانقلابات تحديًا جديدًا للمنظمات الإفريقية التي تحاول الحثّ على الوصول للسلطة عبر الانتخابات، وفي الوقت ذاته لا تسعى إلى العداء مع الشعوب الإفريقية ما يجعلها تميل إلى اتخاذ وسائل ضغط غير قوية على النظم التي تقوم بهذه الانقلابات تتراوح ما بين فرض للعقوبات السياسية وتعليق العضوية، وحتى مراعاة عدم التدخل العسكري، ما دفَع هذه المنظمات لنهج التعامل مع سياسة الأمر الواقع القائمة على كيفية التعامل مع مرحلة ما بعد الانقلابات العسكرية والاعتراف به عبر الاستناد إلى آلية تحديد مدة زمنية للحكومات الانتقالية لتسليم السلطة أو تحديد وقت إجراء انتخابات في البلاد، ويبدو أن (الإيكواس) في قراره المشروط بتخفيف العقوبات على النيجر، عبر تحديد مدة زمنية لإدارة المرحلة الانتقالية يسير في اعتماد هذا القرار كآلية للتعامل مع الانقلابات العسكرية.
يتَّجه عادةً بعض النخب في الانقلابات العسكرية إلى عدم الاهتمام بطبيعة التعاون مع المنظمات الإقليمية وبخاصة في بداية الانقلابات؛ لذلك فإن المنظمات الإقليمية عادةً ما تحاول البحث عن الأساليب التي يمكن من خلالها فتح قنوات للتواصل مع النخب الجديدة، وعادة ما تتسم قارة إفريقيا والمنظمات الإقليمية فيها بأن العلاقات الثنائية بين السياسيين تُعدّ عاملًا قويًّا في إصدار القرارات وحلّ القضايا العالقة وليس المنظمات الإقليمية ذاتها([12](.
واتجهت النخب التي قادت الانقلابات العسكرية في إفريقيا مؤخرًا إلى محاولة تبنّي الصراع الدائر بين الغرب وروسيا في إفريقيا جنوب الصحراء لصالحهم([13])؛ ونتج عنه تصاعد خطاب إفريقي أعاد العقلية الإفريقية لفترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وحقبة التخلص من الاستعمار، مما قد يكون له أثر على مواقف المنظمات الإفريقية؛ حيث إن الاستقرار السياسي والتفاهم بين الدول الأعضاء يُعدّ عاملًا حاسمًا في تفعيل قرارات المؤسسات الإقليمية والدولية، وبالتالي فإن قدرة النُّخب الجديدة في الدول التي شهدت انقلابات في رأب الصدع مع دول القارة والمنظمات الإفريقية عامل أساسي في تحديد دور المنظمات الإقليمية في التعامل مع الدول التي شهدت انقلابات عسكرية.
ثالثًا: نحو دور أكثر فعالية للمنظمات الإقليمية الإفريقية:
يمكن الإشارة إلى مجموعة من الوسائل التي يمكن أن تساعد المنظمات الإقليمية في إفريقيا على لعب دور أقوى للحد من الاضطرابات السياسية لدول القارة على النحو التالي:
1- تعزيز وتفعيل الدور الوقائي قبل الأزمات:
يحدث ذلك عبر إنشاء مراكز قادرة على دراسة المخاطر المحتملة في دول القارة الإفريقية لتقديم توصيات للمنظمات حول هذه المخاطر، وعلى رأسها قضايا العنف المتوقع والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية وظاهرة الانقلابات؛ حيث تعد منطقة الساحل والصحراء وإقليم غرب ووسط إفريقيا بيئة حاضنة للانقلابات بسبب وجود تهديدات متعددة مثل تجارة السلاح والمخدرات والجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية، ووفقًا للبيانات فإن عدد الانقلابات الناجحة في إفريقيا منذ عام 1990م بلغ 25 انقلابًا، كان نصيب غرب إفريقيا من هذا العدد (20) انقلابًا بواقع 12 انقلابًا في منطقة الساحل و(8) انقلابات في دول خليج غينيا([14]).
يأتي هذا على الرغم من أن جزءًا من تشكيل مجلس السلم والأمن في إفريقيا كان بالأساس لإدارة النزاعات والوقاية منها وصنع السلام وحفظ السلام وإعادة الإعمار بعد النزاع. وعلى مدى العقدين الماضيين، كان لدى مجلس السلم والأمن سجل متباين في إدارة النزاعات بسبب الموارد التنظيمية والمالية المحدودة وطبيعة النزاعات؛ حيث يرجع السبب في ذلك إلى قدرات الاتحاد الإفريقي العملية في مجال إدارة النزاعات تعاني من فجوة بين القدرات والتوقعات.
2- تعزيز قدرات المجتمع المدني وإعادة النظر في طبيعة العلاقات المدنية العسكرية:
يجب على الاتحاد الإفريقي والمنظمات الفرعية الإقليمية في إفريقيا أن تتبنَّى برامج للحوكمة والحكم الرشيد لضمان المساءلة والشفافية للنظم السياسية في إفريقيا، وتعزيز العلاقات المدنية العسكرية في إفريقيا جنوب الصحراء([15])، ودعم عمليات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ومعالجة عدم المساواة للحد من احتمال الاضطرابات الاجتماعية، على اعتبار أن غياب الاستقرار الاجتماعي وانتشار الفقر من العوامل المساعدة على الانقلابات العسكرية، إضافة إلى تشجيع الدول التي ترفض التغيير السياسي بواسطة الانقلابات العسكرية عبر حوفز تنموية تشجيعية ([16]).
ينبغي أن تركّز السياسات المتَّخذة في تفعيل العلاقات المدنية العسكرية في إفريقيا جنوب الصحراء بشكل أكبر على توسيع عمليات الانتقال من المجالس العسكرية إلى الحكومات المنتخبة، وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية للمواطنين بدعم من مؤسسات المجتمع المدني، ولقد شدّد اجتماع قادة الاتحاد الإفريقي والإيكواس في العاصمة الغانية “أكرا”، والذي عُقِدَ في نوفمبر 2023م على ضرورة وضع استراتيجية تُشجِّع على مشاركة المجتمع المدني في البلدان الإفريقية لتحقيق أهدافهم المتمثلة في ترسيخ الحكم الديمقراطي في بلدان غرب إفريقيا وفي القارة بشكلٍ عامّ.
وفي السياق ذاته؛ يجب العمل على بناء مؤسسات إفريقية على المدى الطويل تكون قادرة على خلق اندماج وطني شامل لكافة الجماعات والعرقيات والإثنيات داخل الدولة الإفريقية، خاصةً أن أحد أسباب الانقلابات في إفريقيا جنوب الصحراء ترجع إلى دوافع إثنية، والسعي نحو الحصول على السلطة والسيطرة على الموارد من قِبل هذه الإثنية أو تلك.
3– يجب على المنظمات الإفريقي كالاتحاد الإفريقي والمنظمات الإقليمية الفرعية أن تدين تمديد حدود الولاية السياسية (الأبوية السياسية)، ويمكن أن تستند لمجموعة من الإجراءات:
– إصدار بيانات رسمية: ينبغي إصدار بيانات رسمية تدين تمديد حدود الولاية، وتؤكد التزامها بمبادئ الديمقراطية وحكم القانون.
– فرض العقوبات: يمكن أن تفرض عقوبات على الأنظمة التي تسعى لتمديد الولايات الرئاسية، مثل تعليق العضوية أو تطبيق عقوبات اقتصادية وسياسية أخرى، ولقد جرت محاولة مِن قِبَل الاتحاد الإفريقي لتفعيل الدور الوقائي ووضع آليات للتعامل مع التغييرات غير الدستورية في الحكومات الإفريقية، وذلك في منتدى الاتحاد الإفريقي للتفكير في التغييرات غير الدستورية في إفريقيا من 15 إلى 17 مارس 2022م في العاصمة الغانية أكرا، وشدّد على الإجراءات التي يتعيّن اتخاذها مِن قِبَل الاتحاد والمجتمعات الاقتصادية الإقليمية والدول الأعضاء للتعامل بشكلٍ شامل مع التغييرات غير الدستورية للحكومة على القارة التي من بينها تعليق العضوية في حالة الانقلابات([17]).
4- إعادة تقييم طبيعة العلاقات الإفريقية الغربية:
ينبغي للجهات الفاعلة الخارجية، مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وغيرهما، تقييم سياساتها تجاه الشعوب الإفريقية وإعادة النظر في طبيعة علاقاتها مع القارة([18]) بدلًا من النظر للقارة على أنها مصدر للثروات والمواد الخام وكتلة تصويتية كبيرة في المحافل الدولية؛ إذ لا بد من إقامة علاقات على أساس الكل رابح، وليس علاقات قائمة على مصالح هذه الدول فقط.
هذا إلى جانب، تعزيز التعاون المؤسسي بين الاتحاد الإفريقي مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، لتقديم الدعم الفني والإنساني وتعزيز الجهود الدولية للمساهمة في الاستقرار، ويمكن أن يأخذ التعاون عددًا من الأشكال كالتالي:
– التحفيز الاقتصادي: دعم برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تعمل على تحسين ظروف الحياة وتقليل الفقر؛ حيث يمكن أن تلعب التحسينات الاقتصادية دورًا في تقليل الاستعداد للاضطرابات دون أن تستند إلى أيّ مشروطية سياسية تهدد سيادة الدول الإفريقية، إلى جانب تعزيز قدرات المؤسسات الإقليمية في إفريقيا في القضاء على أزمة نقص التمويل التي تؤثر على عملها في الكثير من القضايا.
– التنسيق حول آلية العقوبات المشتركة: وذلك عبر تبني مواقف مشتركة بين المنظمات الإقليمية والمجتمع الدولي بشأن العقوبات الدولية ضد الدول التي تعتدي على استقرار المنطقة.
– التوسط والحوار: السعي نحو العمل الوقائي المشترك لأيّ بورة صراع محتملة في إفريقيا عبر تعزيز الجهود الدبلوماسية للوساطة في النزاعات المحتملة، وتشجيع على حلول سلمية، بالإضافة إلى تبادل البيانات حول القضايا المشتركة خاصة في المجالات التنموية.
5- مراجعة آليات أخذ القرارات في المنظمات الإفريقية وطبيعة تفاعلاتها:
سبقت الإشارة إلى أن آليات أخذ القرار وتفعيلها في المنظمات الإقليمية الإفريقية ترتهن في كثير من الأحيان لمصالح الدول الأكثر تأثيرًا في المنظمة؛ خاصةً إذا كان للدولة التي شهدت انقلابًا عسكريًّا تأثير في المنظمة كحالة الانقلاب الذي شهدته الجابون في أغسطس 2023م؛ إذ تعد الجابون عضوًا في الجماعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا (إيكواس)، ولها تأثير قوي في المنظمة؛ مما يعني أن قدرة (إيكواس) على التأثير على الانقلابيين قد تكون محدودة بسبب علاقاتها الوثيقة مع الجابون، التي تستضيف عاصمتها ليبرفيل مقر اللجنة الاقتصادية للمنظمة، والتي زودتها بالمساعدات اللازمة من دعم سياسي ومالي كبير، ومن المرجح أيضًا أن تكون استجابتها مُقيَّدة بسبب غياب إطار إقليمي للديمقراطية والحكم، وبسبب ضعف آليات منع الصراعات، والتي صُمِّمت لمعالجة الصراعات بين الدول بدلًا من الأزمات السياسية الداخلية([19](.
تؤثر مثل هذه القضايا وغيرها على فعالية المنظمة الإقليمية حول القضايا المطروحة، وتعرقل في الوقت نفسه من قدرة المنظمة على ممارسة دورها في حلّ الأزمات، لذلك فإنه لا بد من إيجاد صيغة أكثر قوة لإصدار القرارات في المنظمات الإفريقية تكون بعيدةً عن تأثير الدول، ولا ترتهن للمصالح الخاصة بكل دولة.
ختامًا:
يمكن القول بأنه على الرغم من أن العقوبات وتعليق عضوية الدولة التي شهدت انقلابًا عسكريًّا يمكن أن تُشكل أداة ضد تكرار الانقلابات العسكرية؛ إلا أنها لا تُحقِّق دائمًا النتائج المرجوة، ولا تَحُدّ من الانقلابات، يُظهر ذلك واقعًا عندما عبّر القادة العسكريون في النيجر ومالي وغينيا في بداية أحداث الانقلابات التي شهدتها هذه الدول عن عدم اكتراثهم للعقوبات التي فرضتها (الإيكواس) عليهم، مما يعني أن عدم الردع بالعقوبات وتعليق العضوية يتطلب نهجًا استباقيًّا لمواجهة مشكلة الانقلابات في إفريقيا، يُمكن تحقيق ذلك عبر وضع الاتحاد الإفريقي والمنظمات الفرعية الأخرى في إفريقيا إطارًا لمنع حدوث الانقلابات من خلال معالجة الأسباب الجذرية لها؛ لأنها تعد القضايا الهيكلية التي قد تؤدي إلى تفاقم الوضع وتشجيع ظاهرة الانقلابات.
كما أن واقع ومستقبل المنظمات الإقليمية في إفريقيا بعد الانقلابات العسكرية هو قضية مُركَّبة تعتمد على عوامل مختلفة، بما في ذلك السياق الخاصّ لكل انقلاب واستجابة الفاعلين الإقليميين والدوليين له، ووجود آليات التعامل بفعالية مع الأزمات المتعلقة بالانقلابات وتعزيز الاستقرار السياسي وتعزيز القدرة على تحقيق الحفاظ على السلام والاستقرار في القارة، وذلك يعتمد على عوامل مختلفة، بما في ذلك قدرتها المؤسسية والإرادة السياسية للدول الأعضاء.
وفي السياق ذاته؛ فإن نجاح المنظمات الإقليمية الفرعية في إفريقيا يتوقف على قدرة هذه المنظمات في التغلب على نقاط ضعفها السياسية والاقتصادية ما لم يتمكن أعضاؤها من حلّ الصراعات الحالية داخل الدول، وفيما بينها والتنافس على الزعامة، وغيرها من الأمور التي سبقت الإشارة إليها.
[1] Christopher Faulkner, Jaclyn Johnson, Jonathan Powell,” Revisiting Coup Contagion” (Pennsylvania: The Foreign Policy Research Institute, December 6, 2023), p.8.
[2] Kumasi Yeboua,” Africa can end its rash of military coups”, The Institute for Security Studies (ISS), 05 OCT 2023,at:
[3] – محمد عادل عثمان، انقلاب الجابون: ما التداعيات والسيناريوهات المحتملة؟، مجلة قراءات إفريقية، 7 سبتمبر 2023م، متاح على الرابط التالي:
[4]ECOWAS Risks Its Hard-Won Reputation, the Africa Center for Strategic Studies,p.1
[5] Ndubuisi Christian ani, Coup resurgence in Africa: The pitfalls of a regional response, at: https://rb.gy/x40g69
[6] Estelle Maussion,” Coups, sanctions, divisions… Is WAEMU ready to crack?”, The Africa Report, November 21, 2023,at:
[7] – بوحنية قوى، “الظاهرة الانقلابية في إفريقيا: السياقات والتفسيرات” ، ورقة تحليلية، (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، 27 سبتمبر 2022م) ص7.
[8] – القوى المحركة: كيف يمكن فهم الانقلابات العسكرية الأخيرة في إفريقيا؟” (حلقة نقاشية)، مركز إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية، 12 أكتوبر 2023م، متاح على الرابط التالي:
[9] – أماني الطويل، ما مستقبل المنظمات الإفريقية في ظل المتغيرات الدولية؟، الإندبندنت عربية، 2 سبتمبر 2023م، متاح على الرابط التالي: https://rb.gy/uh6996
[10] – عمر متولي، دور الاتحاد الإفريقي في قضايا الديموقراطية والإرهاب، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 17 أكتوبر 2022م، متاح على الرابط التالي: https://rb.gy/hl6p9f
[11]– التهرب من تحديد فترة الولاية والانقلابات داخل إفريقيا: وجهان لعملة واحدة، مركز إفريقيا للدراسات الإستراتيجية، ص2.
[12] Joseph Sany, Aly Verjee” Countering Coups: How to Help Rebuild Democratic Rule”, The United States Institute of Peace, February 22, 2022,at:
[13] – أحمد عسكر، تداعيات انسحاب بوركينا فاسو والنيجر من مجموعة دول الساحل، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، 2023-12-11، متاح على الرابط التالي:
[14] – بوحنية قوى، مرجع سبق ذكره، ص 3.
[15] Fatma Ahmed, Jide Martyns Okeke,” From fighting Jihadists to fighting Juntas: Explaining the recent resurgence of military coups in Africa, and how to prevent recurrence”, The African Centre for the Constructive Resolution of Disputes (ACCORD), August 31, 2023,at:
[16]– جوزيف سيجل، انقلابات إفريقيا ودور الأطراف الخارجية، مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية، ص 3.
[17] Ruvimbo Hazel Shayamunda and Dr Johannes Bhanye, “From Ballots to Bullets: Exploring the Rise of Military Regimes in Africa”, African Network of Constitutional Lawyers, 27 November 2023,at:
[18] Matthias Basedau, Coups in Africa – Why They Happen, and What Can (Not) Be Done about Them, Stiftung Wissenschaft und Politik, 28.09.2023,at: https://bit.ly/3RxqDfs
[19] Alexander Hudson, David Towriss, Two more coups in Africa: similarities, differences, and what comes next, The International Institute for Democracy and Electoral Assistance (International IDEA), September 05, 2023,at: https://bit.ly/3RxPxvH