عندما نشأت المحكمة الجنائية الدولية The International Criminal Court ICC بموجب اتفاقية روما 17 يوليو 1998 عام وبدأت عملها في أول يوليه 2002 كأول محكمة جزاء دولية (دائمة) بدلا من قيام مجلس الأمن بتشكيل محاكم خاصة لمحاكمة مجرمي الحرب في العالم ، استبشر بها الضعفاء في عالم اليوم خيرا وظنوا أنها ستعوضهم عن ظلم الدول الكبرى وتعيد التوازن للعالم .
وشجع المستضعفين في العالم علي هذه النية الحسنة في “الجنائية الدولية” مزاياها مثل :
1-أنه سيكون في مقدور هذه المحكمة أن تتقبل دعاوى أفراد ودول وجماعات ضد دول أو أشخاص آخرين متهمين بجرائم حرب أو إبادة جماعية أو عدوان بشرط أن تكون هذه الجرائم تمت بعد الأول من يوليه 2002 وليس بأثر رجعي .
2-أن عدم توقيع أي دولة علي المعاهدة لا يعفي مسئوليها من المحاكمة؛ إذ يمكن محاكمة أشخاص من أمريكا أو إسرائيل أو دول أخرى رفضت التوقيع على المعاهدة في أي قضية إذا ما كانت الدولة التي وقعت فيها الجرائم صدقت على المعاهدة (فلسطين تسعي للتوقيع بعد قبولها كدولة من الجمعية العامة للأمم المتحدة).
3-أن وجود المحكمة – بعد تعطيل إنشائها منذ معاهدة فرساى 1919- سوف يردع علي الأقل العديد من الأشخاص والدول معتادة الإجرام والقتل الجماعي خوفا من محاكمة قادتها أو مسئوليها مما يتوقع معه تقلص لعدد هذه الجرائم نسبيا .
4-أن الفارق بين هذه المحكمة الجنائية الدولية الجديدة وبين محكمة جرائم الحرب القديمة في لاهاي بهولندا أن الثانية (محكمة لاهاي) تحاكم (دول) ، في حين أن الأولي (الجنائية الدولية) سوف تحاكم (الأفراد) المتهمين بجرائم والذين ترفض حكوماتهم أو تتغاضي عن محاكمتهم عن هذه الجرائم التي قد تكون في حق أفراد من دول أخري .
ولكن شيئا فشيئا ظهرت عيوب هذه المحكمة الجديدة التي لم تنظر منذ نشأتها سوي في تسع قضايا في دول إفريقية فقط هي : أوغندا – إفريقيا الوسطى – الكونغو الديمقراطية (زائير سابقا) – دارفور (السودان) – ليبيا – ساحل العاج (كوت دي فوار) – مالي – كينيا – إفريقيا الوسطي)، حتى سخر منها الأفارقة وقالوا أنها مخصصة لمحاكمة الأفارقة فقط .
فهي رفضت طلبات قدمت لها من منظمات حقوقية ودول لمحاكمة مجرمي الحرب من الدول الكبرى مثل أمريكا عن جرائم جنودها في أفغانستان والعراق، ورفضت طلبات لمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين عن جرائهم في العدوان علي غزة عام 2008 واستخدام أسلحة محرمة كالفسفور واليورانيوم المشع وقنابل الأعماق وغيرها لقتل أطفال ونساء وشيوخ غزة، كما رفضت التحقيق في جرائم قتل في مصر أكدتها منظمات دولية مثل هيومان رايتس وواتش .
وفي كل مرة كان يصدر فيها قرار من الجنائية الدولية برفض التحقيق في جرائم أمريكية أو إسرائيلية أو أوروبية، وبالمقابل قبول التحقيق مع دول إفريقيا فقط كانت الحجج متهافتة، وكانت ازدواجية المعايير واضحة.
وفي (الحالة العراقية) جاء رفض التحقيق في جرائم الولايات المتحدة الأمريكية عن استخدام اليورانيوم المشع بدعوي أن أمريكا ليست عضوا في المحكمة، ورد أمني عام المحكمة حينئذ “اوكامبو” في وثيقة رسمية معتذرا عن التحقيق في هذه الجرائم بدعوي أنه مكبل بنظام المحكمة الجنائية الذي يجعل مسئوليته تنحصر فقط في “إجراء المرحلة الأولى من جمع المعلومات والنتائج الأولية وتبني المبادرة للدعوة للتحقيق فقط لو توفرت المعلومات التي تفي المعايير الأساسية حسب ما جاءت بالميثاق ” ، فضلا عن تحججه بأن المتهمين هم أفراد (أمريكان) دولهم ليست عضوا في المحكمة الجنائية!.
بل وقال بوضوح في الوثيقة – التي كان يرد فيها علي قرابة 40 طلبا قدمت له من منظمات حقوقية عربية ودولية للتحقيق في جرائم حرب العراق – أن مسئوليته محدودة وشروط أذن ميثاق المحكمة الجنائية له بإجراء تحقيق في جرائم الحرب غير مستوفاة.
وعلي العكس تماما في (الحالة السودانية) جاءت المفاجأة حينما تبني أوكامبو سياسية مختلفة تماما – رغم أنها مثل العراق ليست هي طرفا أو عضوا في ميثاق روما – عندما قبل التحقيق بعدما أحال له مجلس الأمن قرار التحقيق فيما سمي جرائم حرب و”إبادة جماعية” في دارفور ، ليخالف (أوكامبو السوداني) نظيرة (أوكامبو العراقي).
ولم يكتفي أوكامبو بخرق ومخالفة ما قاله هو بنفسه من مبررات عن حدود دوره كمدعي عام في حالة جرائم العراق فيما يخص التحقيق في حالة السودان ، بل وتجاوز دوره لإعلان نتائج تحقيقاته في وسائل الإعلام وطالب علانية باعتقال البشير بدلا من أن يقدم توصياته للمحكمة الجنائية ويصمت كما حدد هو دوره في حالة العراق.
والمقارنة بين ما كتبه أوكامبو بنفسه في حالة العراق وبين ما صدر عنه في حالة السودان تكشف عن تناقضات خطيرة في الحالتين وأن هناك حالة “تسيس” واضحة في نص خطاب (أوكامبو السوداني) فيما يخص حالة الرئيس البشير وبين حالة جرائم الحرب في العراق الموثقة والمعروفة بعكس الحالة في دارفور .
فالمقارنة لا تكشف فقط أن أوكامبو خالف ميثاق المحكمة – وخالف نفسه – بقصر دوره علي تسليم رأي قانوني فيما يخص اتهام السودان للمحكمة الجنائية ، عندما أعلن الأمر علي الملاء أمام وسائل الإعلام وطالب باعتقال البشير ، ولكن تكشف أيضا عن “تسيس” واضح للقضية السودانية بعدما كشفت وزارة الخارجية الأمريكية طلبه اعتقال البشير قبل أن يعلنه هو رسميا بثلاثة أيام .
الأمر نفسه ظهر في قبول التحقيق في حالات كينيا ومالي وليبيا وباقي الدول الإفريقية، حيث كانت الاحالة للمحكمة الجنائية يسيره وسهله بينما في حالات الدول الأخري الكبري عسيرة ما يسير تساؤلات حول تخصيص المحكمة لإفريقيا منذ نشأتها قبل 12 عاما دون نظر أي قضايا أي من أي قارة غير إفريقيا!.
أداة لعقاب الدول الإفريقية
بعدما أتضح أن المحاكمات الجنائية لا تعقد سوي للدول الصغيرة الإفريقية كسلاح في يد الدول الكبرى ضدها، والقرارات أو الأحكام التي قد تصدر نادرا في حق الدول المستكبرة أو الغاشمة التي تستند للقوة والنفوذ الغربي لا تنفذ ، كما في حالة إسرائيل وأمريكا ، بات واضحا أن الدول المهددة بسيف هذه المحاكم هي الدول الإفريقية ومنها تلك التي تعارض الهيمنة الغربية كالسودان.
بعبارة أخري لم تعد هذه المحاكم الدولية ملاذا للضعفاء بقدر ما تحولت لعصا غليظة في يد القوي الكبرى تستخدمها كأداة لمعاقبة “الدول المارقة” الرافضة للسير في ركابها ، ووسيلة قانونية بديل عن نهج التدخل العسكري في شئون الدول الأخرى.
ولم يجدوا أمامهم سوي الدول الإفريقية الضعيفة لمحاكمتها أمام المحكمة الجنائية، في حين تغافلوا عن محاكمة أمريكا وإسرائيل عن جرائمهم وفي كل مرة كان يجري صراع قانوني ومحاولات للوي عنق مواد إنشاء المحكمة بما يعفي الكبار والمستكبرين ويقتص من المستضعفين.
وحتى جريمة الإبادة التي ارتكبت بحق المدنيين الصوماليين بشهادة مندوب الاتحاد الأوروبي في كينيا، والتي قام بها المسئولون الإثيوبيون المدعومون من الولايات المتحدة، جري التعتيم عليها لأن أثيوبيا تحركت بطلب أمريكي، ولو كانت تحركت بدون رضا أمريكا فربما كان تم عقابها وتحويلها للمحكمة الجنائية مع أن جرائم القوات الإثيوبية في الصومال هي هي سواء جاء التدخل برغبة أمريكية أم لا !.
لقد تحولت حتى محاكم العدل والجزاء الدولية لأداة في يد الغرب لعقاب خصومهم ولم تعد أداة عادلة وفسدت المعايير تمام وانهار الأمل في العدالة الدولية ، ولم يتبق أمام الأفارقة والمستضعفين عموما سوي أن يغيروا هذه المعايير المزدوجة المقلوبة في عالم اليوم سواء بالنهوض وتغيير الموازين الدولية وفرض العدالة الحقيقة وهو لن يتحقق إلا عندما يتحقق للقارة الإفريقية الوجود بقوة في المحافل الدولية والتقدم وأخذ موقع متقدم بين بلدان العالم يمكنهم من التأثير في العدالة الازدواجية الموجودة في عالم اليوم.