مقدمة:
وسط التطورات والتحديات العالمية، والآثار طويلة المدى لجائحة كورونا، وتغيُّر المناخ والتقدم التكنولوجي السريع، وعلى الرغم من التغلُّب على الأزمة الصحية؛ إلا أن الوباء أدَّى إلى تفاقم بعض الظروف، كعدم المساواة، وانعدام الأمن الغذائي، وتراجع فرص كسب العيش، كما أن التوترات السياسية والاقتصادية والمظالم الاجتماعية التي تمَّ تهميشها للتعامل مع حالة الطوارئ الصحية عادت إلى الظهور بقوة.
كما أن الصراعات وعدم الاستقرار لها تأثير غير مباشر على جوانب أخرى من النظام البيئي العالمي، من أنماط الهجرة، إلى الإمدادات الغذائية، والأحداث المناخية المتطرفة. وكانت هذه التطورات بمثابة اختبار للتحالفات الجيوسياسية، وسلَّطت الضوء على الفجوة بين الديمقراطية والاستبداد، وسلَّطت الضوء على التوزيع غير العادل للموارد والفرص بين البلدان النامية والمتقدمة.
لم تؤثر التحولات السياسية الكبرى والصعوبات الاقتصادية بشكل ملموس على جميع جوانب حياتنا اليومية تقريبًا فحسب، بل غذّت أيضًا بشكل مباشر ديناميكيات الجريمة المنظمة التي تستغل تلك الأوضاع.
وفي عام 2021م، تمَّ طَرْح المؤشر العالمي للجريمة المنظّمة لتقييم مستويات الجريمة المنظمة، وقدرة البلدان على مواجهة التهديدات الإجرامية التي تُواجهها. وباعتبارها الأداة الأولى من نوعها، فقد قدّمت لمحة سريعة عن هذه الديناميكيات وسط الظروف التي خلقتها جائحة كوفيد-19.
وبعد مرور عامين، تم توسيع نطاق هذا الإصدار الثاني من المؤشر، ويُقدّم لأول مرة بيانات طولية عن أنماط الإجرام والقدرة على الصمود لنحو 193 دولة؛ من خلال مقارنة نتائج المؤشر الحالي بنتائج عام 2021م.
لقد حدَّد الوباء موضوع النسخة الأولى من المؤشر، ويتم عرض نتائج هذا العام على خلفية الصراع والانقسام السياسي، الذي اتسم بالحروب المفتوحة في أوروبا وإفريقيا وآسيا، وفضائح الفساد في أمريكا اللاتينية وأماكن أخرى، والعلاقات المتوترة بين القوى العظمى.
وبالاعتماد على مجموعة بيانات أكثر شمولًا تقدّم نتائج مؤشر 2023م صورة معقدة، لكنها أكثر شمولًا لكيفية عمل الجريمة المنظمة. ويهدف مؤشر الجريمة المنظمة العالمية 2023م، إلى تمكين الجهات الفاعلة العالمية، من أجل سنّ استراتيجيات فعَّالة وقائمة على الأدلة في مكافحة الجريمة المنظمة.
وتُعدّ إفريقيا عمومًا، ومنطقة إفريقيا جنوب الصحراء خصوصًا، أرضًا خصبة لممارسة أشكال الجريمة المنظمة ومرتعًا لفاعليها، وجسدًا ضعيف المناعة للصمود في وجه الجريمة المنظمة، وهو ما سنركّز عليه تحليلنا، من خلال:
المحور الأول: الجريمة المنظمة.. المفهوم والقياس.
المحور الثاني: تحليل مؤشر الجريمة المنظمة في العالم لعام 2023م.
المحور الثالث: مؤشر الجريمة المنظمة في إفريقيا جنوب الصحراء لعام 2023م.
المحور الرابع: مقارنة بين مؤشر الجريمة المنظمة في إفريقيا بين عامي 2021م و2023م
خاتمة.
المحور الأول
الجريمة المنظمة.. المفهوم والقياس
أولاً: تعريف الجريمة المنظمة
تُعرّف “الجريمة المنظمة” بأنها “أنشطة غير قانونية، تقوم بها مجموعات أو شبكات تعمل بشكل متضافر؛ من خلال الانخراط في أعمال عنف أو فساد، أو أنشطة ذات صلة بذلك؛ من أجل الحصول، بشكل مباشر أو غير مباشر، على مكاسب مالية أو فائدة مادية. ويمكن تنفيذ مثل هذه الأنشطة داخل الدولة وعبر الحدود الوطنية”.([1])
ثانيًا: مؤشر الجريمة المنظمة العالمي وركائزه
يصدر مؤشر الجريمة المنظمة العالمي عن “المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية”، ومقرها جنيف بسويسرا. ويتكون المؤشر من مكونين فرعيين: “الأسواق الإجرامية”، و”الجهات الفاعلة الإجرامية”. ويتم تعريف الأول على أنه “الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المحيطة بجميع مراحل الاتجار غير المشروع، و/أو استغلال السلع أو الأشخاص”([2]).
وقد تمَّت إضافة خمسة أسواق إضافية إلى الأسواق العشرة الأصلية (“الاتجار بالبشر”، و”تهريب البشر”، و”الاتجار بالأسلحة”، و”جرائم الحياة النباتية”، و”جرائم الحيوانات”، و”جرائم الموارد غير المتجددة”، و”تجارة الهيروين”، و”تجارة الكوكايين”، و”تجارة القنب”، و”تجارة المخدرات الاصطناعية”، الموضحة في تقرير عام 2021م. وهي؛ الجرائم المالية، وجرائم الإنترنت، والتجارة غير المشروعة في السلع الانتقائية illicit trade in excise goods، والسلع المقلدة، والابتزاز، وابتزاز الحماية extortion and protection racketeering.
ويقوم المكوّن الفرعي الثاني؛ وهو “الجهات الفاعلة الإجرامية”، بتقييم هيكل وتأثير خمسة أنواع من الجهات الفاعلة الإجرامية: الجماعات على غرار المافيا، والشبكات الإجرامية، والجهات الفاعلة المدمجة في الدولة، والجهات الفاعلة الأجنبية، والجهات الفاعلة في القطاع الخاص. والجهات الفاعلة الخمسة التي يُحدِّدها المؤشر ذات خصائص واسعة؛ حيث تُغطِّي أكبر عدد ممكن من ديناميكيات تلك الجهات. كما تُوفّر إضافة القطاع الخاص كفاعل إجرامي جديد؛ منظورًا أوسع حول التهديدات الناشئة.
ثالثًا: القدرة على الصمود
يُعرّف المؤشر “الصمود” بأنه “القدرة على مقاومة وتعطيل الأنشطة الإجرامية المنظمة ككل، بدلًا من الأسواق الفردية؛ من خلال تدابير سياسية واقتصادية وقانونية واجتماعية”. وتشير القدرة على الصمود إلى التدابير التي تتَّخذها البلدان مِن قِبَل كلٍّ من الدولة والجهات الفاعلة غير الحكومية.
ونظرًا لطبيعة الجريمة المنظمة ودينامياتها المتنوعة في أنحاء العالم؛ فإن القدرة على الصمود تبدو مختلفة في سياقات مختلفة؛ فالتدخلات التي تنجح في منطقة واحدة، قد يكون لها تأثير ضئيل على مستويات الإجرام في منطقة أخرى.
ولمراعاة المشكلات المختلفة التي تطرحها الجريمة المنظمة عبر مجموعة واسعة من السياقات؛ فإن تدابير الصمود على النحو المحدد في المؤشر، بعيدة المدى ومتعددة القطاعات. وتشكل مؤشرات الصمود اللبنات الأساسية للمجتمعات لتوفير استجابات شاملة ومستدامة للجريمة المنظمة.
رابعًا: منهجية مؤشر الجريمة المنظَّمة العالمي
يقترح نموذج مؤشر الجريمة المنظمة العالمية إطار تقييم بديل يقوم على السلع الأساسية لقياس الأسواق غير المشروعة؛ من خلال مزيج من النطاق والحجم والقيمة والأثر. وبهذه الطريقة، يهدف المؤشر إلى التوفيق بين فجوات المعلومات التي تطرحها الأُطُر الأخرى. ويعتمد على ثلاثة عناصر رئيسية:
- نطاق وحجم وتأثير 15 سوقًا إجرامية.
- هيكل وتأثير خمسة أنواع من الفاعلين الإجراميين.
- قدرة البلدان على الصمود في مواجهة الجريمة المنظمة، ويتم قياسه من خلال 12 عنصرًا.
ويتم تخصيص درجة إجرامية لجميع البلدان المدرجة في المؤشر، والتي تتكون من مكونين فرعيين: الأسواق الإجرامية، والجهات الفاعلة الإجرامية. ويستلزم تقييم المكون الفرعي للأسواق الإجرامية تحديد الأثر النقدي وغير النقدي للسوق. يشمل تقييم الفاعل الإجرامي؛ قياس القدرة التنظيمية للجماعات الإجرامية ومستوى تطورها، فضلًا عن تأثيرها العام على الدولة والمجتمع. ويتم أيضًا منح البلدان درجة الصمود في محاولة لتقييم المستوى الذي أنشأت فيه الدول الأطر القانونية والسياسية والاستراتيجية المناسبة للتصدي للجريمة المنظمة. ويتمحور تقييم مؤشرات الصمود حول مسائل تتعلق بما إذا كانت تدابير الصمود موجودة، وما إذا كانت فعَّالة في مكافحة الإجرام.
ويتم قياس كلا العنصرين على مقياس من (1 إلى 10). وفي حين أن مقياس الإجرام يبدأ من أدنى مستويات الإجرام إلى أعلى مستويات نشاط الجريمة المنظمة؛ فإن مقياس الصمود يكون بالعكس؛ حيث إنه تشير الدرجة (1) إلى مستويات منخفضة من الصمود، وتشير الدرجة (10) إلى وجود وفعالية قوية للأطر التي لا تُعالج مخاطر الجريمة المنظمة.
وبالنظر إلى إضافة مؤشرات جديدة؛ ينبغي التعامل مع المقارنات العامة مع نتائج عام 2021م بحذرٍ. ولكن مقارنات المؤشرات الفردية والصمود لعامي 2021م و2023م صحيحة. ومن الجدير بالذكر أن الفساد لا يزال مستبعدًا من المؤشر؛ باعتباره سوقًا إجرامية قائمة بذاتها، وينعكس في الجهات الإجرامية ومكونات الصمود في المؤشر.
المحور الثاني
تحليل مؤشر الجريمة المنظمة في العالم لعام 2023م
يكشف مؤشر الجريمة المنظمة العالمي 2023م عن الارتفاع المستمر للجريمة المنظمة على مستوى العالم؛ حيث يعيش 83% من سكان العالم في ظروف ترتفع فيها معدلات الإجرام. وعلى العكس انخفض عدد الأشخاص الذين يعيشون في ظروف تتسم بانخفاض القدرة على الصمود في مواجهتها؛ 62% من سكان العالم، مقارنةً بـ79.4% في عام 2021م. ومع أن المزيد من الناس يعيشون اليوم في بلدان تتميز بقدرة عالية على الصمود، فعند مقارنة الصمود العالمي مع ارتفاع انتشار الإجرام، تظهر البيانات أن أُطُر الاستجابة فشلت في مواجهة تهديد الجريمة المنظمة.
وهذه الفجوة الحرجة بين المستويات المتزايدة من الإجرام العالمي والسياسات المستدامة وتدابير المجتمع المدني اللازمة للتَّصدّي لها آخذة في الاتساع. ويمكن فَهْم هذا العجز بشكل أفضل عندما يتم تحليله على خلفية نظام عالمي أكثر تشرذمًا وغير مستقرّ.
إن العالم الذي خرج من الوباء عالم متناقض. فمن ناحيةٍ، أصبح المجتمع العالمي أكثر ترابطًا واعتمادًا على أدوات الإنترنت التي تدفع عجلة التحول الرقمي. ومن ناحية أخرى، فهي أكثر انقسامًا، وتعاني من قدر أكبر من عدم المساواة وعدم الاستقرار والتوترات الجيوسياسية. وفي سياق التقدم التكنولوجي، وتعمّق العولمة، والأزمات السياسية والصراعات، تجد الجهات الفاعلة الإجرامية فرصًا للتجارة غير المشروعة. ويبين الجدول التالي درجات الإجرام على حسب القارة.
جدول رقم (1)
درجات الإجرام حسب القارة
المصدر: مؤشر الجريمة المنظمة العالمي 2023م.
أولاً: الأسواق الإجرامية العالمية
وفقًا للجدول رقم (1) بلغ المتوسط العالمي لعنصر الإجرام 5.03 من 10، أو أعلى بمقدار 0.16 نقطة عما كان عليه في عام 2021م، ويظهر التحليل أن درجة الإجرام العالمي كانت سترتفع لو تم أخذ الأسواق الإجرامية العشرة الأصلية فقط في الاعتبار، وأن النمو كان سيكون أكبر؛ حيث بلغ متوسط الإجرام العالمي 5.10. ويشير هذا إلى أن الأسواق الإجرامية الخمس الجديدة أقل انتشارًا في المتوسط، من الأسواق العشرة الأصلية. غير أن إحدى الأسواق الجديدة، وهي الجرائم المالية، هي الأكثر انتشارًا على مستوى العالم (بنسبة 5.98). وهي تُصنّف ضمن الأسواق الإجرامية الثلاثة الأكثر انتشارًا في كل قارة؛ حيث تُعدّ واحدة من أبرز خمس أسواق. وبعد الجرائم المالية، والاتجار بالبشر (5.82)، تم تحديد تجارة القنب (5.34) والاتجار بالأسلحة (5.21) باعتبارها الأسواق الثالثة والرابعة الأكثر انتشارًا على مستوى العالم.
وقد نمت جميع الأسواق الإجرامية في مؤشر 2021م من حيث الانتشار عالميًّا في فترة البيانات الحالية، مع زيادة النتيجة العالمية لتهريب البشر (+0.39)، تليها تجارة المخدرات الاصطناعية (+0.33) وتجارة الكوكايين (+0.30). في المقابل، شهدت تجارة الهيروين أقل حركة في عام 2023م؛ حيث زادت بمقدار 0.10 نقطة فقط.
وتشكل الجرائم الناشئة، وخاصة تلك التي يسهلها الإنترنت، تهديدًا عالميًّا وهي آخذة في التزايد. وتشمل الجرائم المالية، كما حدَّدها المؤشر، جرائم مختلفة تتراوح بين الممارسات التقليدية غير المشروعة، مثل التهرب الضريبي وإساءة استخدام الأموال، إلى أشكال أكثر تطورًا من الاختلاس والاحتيال. يتم تمكين هذه الجرائم عن طريق الإنترنت، ولا تحمل سوى القليل من المخاطر على مرتكبها، وقد استغلّت أنماط العمل عن بُعْد للأشخاص خلال عمليات الإغلاق واستمرت إلى حد كبير منذ ذلك الحين.
وفي حين أدى الحضور المتزايد للمجتمع على الإنترنت إلى خلق فرص للتنمية؛ فقد أصبح مجرمو الإنترنت بارعين في تسخير التكنولوجيا واستغلال نقاط الضعف، على حساب الدول والشركات والأفراد. ويتفاقم تأثير الجرائم المالية بسبب ارتفاع مستويات الإفلات من العقاب، وعدم الاهتمام بمدى الضرر الذي تُحدثه؛ حيث يُنظَر إليها عادةً على أنها جريمة غير عنيفة ولا ضحايا لها.
و”الجريمة المالية” مصطلح واسع يصف الجرائم غير العنيفة التي تؤدي إلى خسارة مالية للدولة أو الكيان أو الأفراد. تضم هذه الفئة أنواعًا مختلفة من الأنشطة الإجرامية. ولأغراض المؤشر، يتم التمييز بين الجرائم الإلكترونية والجرائم المعتمدة على الإنترنت؛ لضمان عدم التكرار. فمثلاً؛ يتم تصنيف عمليات التصيد الاحتيالي على أنها جرائم مالية عبر الإنترنت، وبالتالي يتم تقييمها في إطار سوق الجرائم المالية. ولا يتم تقييم غسيل الأموال كجزء منها؛ باعتبار أن غسيل الأموال جريمة ثانوية مرتبطة بالعائدات غير المشروعة الناتجة عن جريمة أصلية. وبما أن الجرائم الأصلية يتم تقييمها بالفعل في إطار الأسواق الإجرامية المختلفة فإن الاستثناء الوحيد هو عندما يحدث غسيل الأموال نتيجة للاحتيال أو جريمة أخرى تصنّف على أنها جريمة مالية بموجب هذا المؤشر. وتظهر أيضًا ميزات مماثلة في العديد من أشكال الجرائم المعتمدة على الإنترنت.
وتفيد التقارير أن هذه الجرائم آخِذة في الارتفاع على مستوى العالم بسبب زيادة الرقمنة. وتأثير الجرائم المعتمدة على الإنترنت محسوس إلى حد كبير على المستوى الوطني؛ حيث غالبًا ما تكون البنى التحتية الحيوية والمواقع الإلكترونية المؤسسية والصناعات هي الأهداف. في حين أن الجرائم الإلكترونية هي أنشطة قد تستفيد من تكنولوجيا الإنترنت، ولكنّها تحدث أيضًا في الأسواق المادية، فإن الجرائم المعتمدة على الإنترنت تتطلب مهارات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ويتم ارتكابها عبر الإنترنت فقط.
وتلعب الجهات الفاعلة في القطاع الخاص دورًا محوريًّا في ارتكاب الجرائم المالية والجرائم المعتمدة على الإنترنت، وتشير هذه الفئة إلى الأفراد والكيانات التي تسعى إلى تحقيق الربح، مثل الشركات متعددة الجنسيات أو المحامين أو المصرفيين، الذين يُشكّلون جزءًا من الاقتصاد القانوني غير الحكومي، والذين يستغلون دورهم ومنصبهم بشكل غير قانوني، وينخرطون في ممارسات غير مشروعة إما بالتعاون مع مجموعات الجريمة المنظمة أو تسهيل أنشطتها. وقد يستغل المجرمون قنوات التجارة المشروعة، وقد ينخرط القطاع الخاص بدوره في الجريمة المنظمة بعدة طرق، منها؛ الممارسات الفاسدة، أو توفير المعلومات للمجرمين، أو دعم المجرمين والجماعات في غسل عائداتها غير المشروعة، وتقديم الدعم القانوني باستخدام وسائل غير أخلاقية.
ولقد أصبحت الجريمة المالية معولمة بشكل خاصّ، ويرجع ذلك على الأرجح إلى الأشكال العديدة للنشاط الإجرامي التي يشملها هذا السوق. وفي الواقع، فقد وُجِدَ أنَّ لها تأثيرًا بين كبير إلى شديد في 132 دولة، أو ما يقرب من 70% من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. وبموجب المؤشر، تعكس نطاقات التأثير الكبيرة إلى الشديدة درجة 5.5 وما فوق من أصل 10. وتظهر هذه الأرقام بوضوح أن الجرائم المالية موجودة إلى حد كبير على مستوى العالم، بغض النظر عن صمود البلدان أو وضعها الاقتصادي أو تطورها أو استقرارها السياسي.
وينتشر سوق الجرائم المعتمدة على الإنترنت أيضًا في البلدان على طول الطيف السياسي والاقتصادي؛ حيث أصبح المجال السيبراني في متناول الغالبية العظمى من سكان العالم. وقد احتل سوق الجرائم المعتمدة على الإنترنت المرتبة الثانية عشرة من بين الأسواق الأكثر انتشارًا من بين 15 سوقًا؛ حيث حصل على درجة 4.55، أي أقل من متوسط درجة الأسواق الإجرامية العالمية البالغة 4.88. وربما يكون متوسط الدرجات المنخفض نسبيًّا نتيجة لما يتم قياسه؛ أي الأنشطة المعتمدة على الإنترنت، وليس الأنشطة التي يتم تمكينها عبر الإنترنت. على الرغم من أن الجريمة المعتمدة على الإنترنت لا تُصنّف ضمن الأسواق الإجرامية ذات أعلى الدرجات، فإن الروايات القطرية تسلط الضوء على السرعة المذهلة التي نمت بها في فترة زمنية قصيرة جدًّا، ومن المرجّح أن يستمر هذا الاتجاه في السنوات القادمة.
وعلى الرغم من أنها لا تحظى في كثير من الأحيان بأهمية إخبارية مثل الأشكال الأخرى من الجريمة المنظمة، فقد تمَّ تضمين التجارة في السلع المقلدة والتجارة غير المشروعة في السلع الانتقائية في هذه الطبعة من المؤشر؛ لأنها اقتصادات إجرامية كبرى، وغالبًا ما تكون سائدة في السياقات التي تكون فيها هذه السلع من بين خيارات سبل العيش المحدودة المتاحة.
إن تأثير هذين السوقين كبير؛ حيث يؤديان إلى خسائر مالية للاقتصاد، ويمكن أن يشكلا مخاطر على سلامة وأمن الناس (في حالة الأدوية المزيفة، مثلا). وكذلك، فإنها قد تكون مؤشرات لممارسات غير قانونية أخرى؛ لأنها غالبًا ما تتداخل مع اقتصادات غير قانونية أخرى.
وأخيرًا، تمَّ أيضًا إدراج الابتزاز والابتزاز لأغراض الحماية كمؤشر جديد للسوق الإجرامية. وتنخرط أنواع مختلفة من الجهات الإجرامية في هذه الممارسات، ولكنها ترتبط في المقام الأول بمجموعات على غرار المافيا. وفي حين أن الجريمتين يرتبطان تاريخيًّا بالسيطرة على السوق الإقليمية؛ فإن أشكالًا أخرى من الابتزاز الافتراضي الذي يسهله الإنترنت، مثل الابتزاز الجنسي عبر الإنترنت، آخِذَة في الارتفاع على مستوى العالم.
وفيما يتعلق بالأسواق التي يكون فيها البشر سلعة، في ذروة جائحة كوفيد-19، انخفض عدد ضحايا الاتجار بالبشر المُبلّغ عنهم لأول مرة منذ 20 عامًا([3]). على الرغم من أنه من المحتمل أن هذا لا يعكس بشكل كامل تراجعًا فعليًّا في الممارسات الاستغلالية. أدَّى رفع القيود على السفر بعد تخفيف عمليات الإغلاق إلى جعل التنقل البشري أقل تحديًا وعودة التدفقات غير المشروعة للأشخاص إلى الظهور. منذ عام 2021م، نما الاتجار بالبشر بمقدار 0.24 نقطة بنتيجة عالمية 5.82، ليحتل المرتبة الثانية بين الأسواق الإجرامية. وشهد تهريب البشر أكبر زيادة بين جميع الأسواق؛ حيث ارتفع بمقدار 0.39 نقطة. ولا يزال تهريب البشر أقل انتشارًا من الاتجار بالبشر، ويحتل المرتبة الخامسة برصيد عالمي إجمالي قدره 5.16. في عام 2022م؛ بفعل الأزمتين السورية، والأفغانية.
أما السوق الإجرامية الثالثة القائمة على الأشخاص، وهي الابتزاز والابتزاز للحماية؛ فقد احتلت المرتبة الأدنى؛ حيث حصلت على درجة عالمية بلغت 4.02. ربما يمكن تفسير انخفاض معدل انتشار هذا السوق من حيث كيفية تعريفه بموجب المؤشر؛ حيث يتم استبعاد أعمال الابتزاز وابتزاز الحماية التي يرتكبها مسؤولو الدولة من التصنيف.
ومن بين أسواق المخدرات الأربعة، احتلت تجارة القنب (5.34) المرتبة الثالثة من حيث الانتشار على مستوى العالم، بعد الجرائم المالية والاتجار بالبشر. على الرغم من التدابير المتَّخذة في العديد من البلدان لإلغاء تجريم استخدام القنب، فقد زاد السوق بمقدار 0.24 نقطة منذ عام 2021م. وحتى في الدول التي تم فيها إلغاء تجريم الاستخدام، توجد سوق سوداء للإنتاج. وتعد التكلفة المنخفضة والسهولة النسبية للإنتاج من العوامل الرئيسة وراء انتشار سوق القنب.
كما ارتفعت أسواق المخدرات الاصطناعية (4.95) والكوكايين (4.82) أكثر بقليل من تجارة القنب (بنسبة +0.33 و+0.30، على التوالي)، لكنها لا تزال متخلفة عنها من حيث الدرجات الإجمالية. تم تحديد الهيروين على أنه الأقل انتشارًا في أسواق المخدرات (4.08)؛ حيث ارتفع بمقدار 0.10 نقطة فقط منذ عام 2021م، وهي أصغر زيادة بين الأسواق الأصلية العشرة بهامش كبير. يمكن تفسير الارتفاع البسيط بالحرب في أوكرانيا، التي عطلت تدفقات الهيروين الرئيسية من أفغانستان إلى القوقاز وعبر البحر الأسود، وتظهر الأبحاث القليل من المؤشرات على ارتفاع إمدادات الهيروين على الطرق الرئيسية الأخرى([4]).
وتشكل بؤر الصراعات مناطق جذب للأسلحة النارية؛ حيث يُعدّ انتشار الأسلحة ظاهرة موثقة جيدًا في المناطق التي تعاني من عدم الاستقرار، مثل إفريقيا وغرب آسيا؛ حيث تمد مستودعات الأسلحة المتمردين والجريمة المنظمة لعقود من الزمن، زادت التجارة العالمية للأسلحة غير المشروعة (5.21) بنسبة 0.29 منذ عام 2021م، مع تحديد سوق الأسلحة. باعتبارها الرابعة الأكثر انتشارًا على مستوى العالم.
واحتلت التجارة غير المشروعة بالسلع المقلدة المرتبة السادسة في الأسواق الإجرامية؛ حيث حصلت على درجة 4.98 من أصل 10؛ أي أقل بقليل من متوسط الأسواق الإجرامية العالمية. على الرغم من أن حوالي 75% من المنتجات المقلدة العالمية تأتي من الصين([5]). فإن التأثير المجتمعي لهذا السوق واسع النطاق وعالمي. على سبيل المثال، تُعرِّض اللقاحات والأدوية المزيّفة الأخرى صحة المستهلكين للخطر، في حين تعمل السلع المزيفة على تحويل الإيرادات من الاقتصاد الرسمي. على عكس الفهم الخاطئ الشائع، وحقيقة أن هذا السوق مقبول باعتباره القاعدة في بعض المجتمعات، فإن التجارة في السلع المقلدة ليست جريمة بلا ضحايا. وفي حين أن الانخراط في التجارة المقلدة قد يُوفِّر سبل العيش للمجتمعات الفقيرة، فإن تدفقات السلع المقلدة عبر الحدود الوطنية غالبًا ما تحتكرها مجموعات الجريمة المنظمة الأكبر حجمًا التي قد تشارك أيضًا في أشكال أخرى من الجريمة، وغالبًا ما يتداخل سوق السلع المقلدة مع اقتصادات أخرى غير مشروعة([6]).
وجاءت التجارة غير المشروعة في السلع الاستهلاكية غير المشروعة في مرتبة أقل من التجارة في السلع المقلدة، في المرتبة الحادية عشرة، بنتيجة 4.59. وتستغل الجماعات الإجرامية نقاط الضعف التنظيمية لتجنب دفع الضرائب، وتحقيق الأرباح عن طريق تهريب وبيع السلع الخاضعة للتعريفات الجمركية والرسوم بتكلفة أقل من نظيراتها في الاقتصاد القانوني. على الرغم من تشكيل تهديد للشركات والاقتصاد المشروع؛ فإن تأثير التجارة غير المشروعة في السلع غير المشروعة تم تقييمه على أنه ليس منتشرًا بشكل مفرط عالميًّا، بمتوسط درجة 4.59.
وباستثناء سوق الجرائم المعتمدة على الإنترنت، كانت الجرائم البيئية هي أقل مجموعات الأسواق الإجرامية تسجيلًا عبر العالم. وقد احتلت أسواق الجرائم البيئية الثلاثة جميعها مرتبة أقل من متوسط الأسواق العالمية. ومن بين هذه الجرائم، تبين أن الجرائم المتعلقة بالحيوانات (4.83) هي الأكثر انتشارًا، تليها جرائم الموارد غير المتجددة (4.75)، وجرائم النباتات (4.06). على الرغم من انتشارها المنخفض نسبيًّا، زادت الأسواق الثلاثة من حيث الانتشار بمقدار 0.20 و0.24 و0.18 على التوالي. ونظرًا للمجموعة الواسعة من الحياة البرية وأجزاء الحيوانات التي يتم الاتجار بها بشكل غير مشروع، فقد لا يكون من المستغرَب أن تحتل الجرائم المتعلقة بالحيوانات المرتبة الأولى في الأسواق البيئية. وعلى النقيض، فإن الطلب على النباتات الغريبة أقل وضوحًا. ويشمل هذا السوق قطع الأشجار بشكل غير قانوني.
ثانيًا: الجهات الفاعلة الإجرامية
كان متوسط النتيجة العالمية للجهات الإجرامية 5.19 من 10. وعكس نتائج عام 2021م، كان المكون الفرعي للجهات الفاعلة الإجرامية مرة أخرى هو العامل الأساسي في رفع درجة الإجرام العالمية الإجمالية (5.03، كمتوسط للأسواق الإجرامية والجهات الفاعلة الإجرامية). وبتقسيم النتائج حسب نوع الجهة الفاعلة، تواصل الجهات الفاعلة التابعة للدولة السيطرة على المشهد الإجرامي باعتبارها القناة الرئيسة للجريمة المنظمة في جميع أنحاء العالم، بمتوسط درجات 5.95. ويظهر أن تأثيرهم قد زاد مقارنة بنتائج عام 2021م بهامش كبير قدره 0.20 نقطة.
من المهم أيضًا الاعتراف بالامتداد والتأثير المستمرين اللذين تمارسهما جميع أنواع الجهات الفاعلة الإجرامية. فمثلًا؛ ظلت الشبكات الإجرامية (5.66) ثاني أكثر الجهات الفاعلة تأثيرًا، وسجلت ثاني أكبر زيادة (+0.21) منذ نشر مؤشر 2021م. واحتلت الجهات الفاعلة الأجنبية المرتبة الثالثة (5.54)، وسجّلت أكبر زيادة (+0.26). وأخيرًا، زادت أيضًا المجموعات على غرار المافيا (4.02) من متوسط درجاتها عالميًّا، وإن كان بدرجة أقل من أنواع الجهات الفاعلة الأخرى (+0.13). وُجد مرة أخرى أن الجماعات التي على غرار المافيا هي الأقل انتشارًا، حتى إنها تتفوق عليها في أي مقارنة عالمية مِن قِبَل نوع الجهات الفاعلة الجديدة، وهي الجهات الفاعلة في القطاع الخاص (4.76).
كما أن مرتكبي الجريمة المنظّمة جميعهم قد وسّعوا نطاق وصولهم ومستويات اختراقهم في عام 2022م. فمن ناحية، وبفضل الفرص الإجرامية التي يُوفّرها الفضاء السيبراني، أوجدوا مجالات جديدة تُمكّنهم من ممارسة نفوذهم، ويُزعم أنهم استغلوا تحديات النظام العالمي بعد كوفيد-19، ووحَّدوا أنشطتهم.
وفي المجمل، تؤكد النتائج أن الجهات الفاعلة الإجرامية التي تُشكِّل جزءًا من جهاز الدولة أو تعمل من داخله؛ لا تزال تشكل عائقًا رئيسًا أمام تطوير وتنفيذ استراتيجيات فعّالة لمكافحة الجريمة المنظمة. وتوضّح النتائج أن الجهات الفاعلة المدمجة في الدولة لها تأثير بين كبير وشديد في 122 دولة، أو أكثر من 60%، من أصل 193 دولة. وعلى العكس، تحدد البيانات الجهات الفاعلة المدمجة في الدولة على أنها ذات تأثير ضئيل أو معدوم في 36 دولة فقط، أو حوالي 19% من العينة.
وعلى الرغم من أنه ليس جميع المسؤولين في الدولة متورطين في الجريمة أو يُسهِّلونها؛ إلا أنه لا تزال البلدان الأكثر تأثرًا بتأثير الجهات الفاعلة المدمجة في الدولة هي الأنظمة الاستبدادية في المقام الأول. ومن بين تلك البلدان التي وُجِدَ فيها أن الجهات الفاعلة المدمجة في الدولة لها تأثير شديد (أي تلك التي سجّلت 7.50 أو أعلى لهذا النوع من الجهات الفاعلة)، تم تصنيف 40 (54%) على أنها أنظمة استبدادية بموجب مؤشر الديمقراطية لعام 2022م. أما تلك البلدان التي كان مؤشر الجهات الفاعلة المدمجة فيها الدولة 9.0 أو أعلى، فإن 85% منها تندرج تحت تصنيف النظام الاستبدادي لمؤشر الديمقراطية. تدعم هذه النتيجة فكرة أنه في البلدان التي تتميز بغياب سيادة القانون والديمقراطية؛ حيث تكون آليات المساءلة والشفافية الحكومية غامضة ومشاركة المجتمع المدني مقيّدة.
وباعتبارها ثاني أكثر الجهات الفاعلة انتشارًا على مستوى العالم وداخل جميع القارات، تُشكّل الشبكات الإجرامية حلقة وصل حاسمة بين الجهات الفاعلة الإجرامية الأخرى والأسواق غير المشروعة، ويظهر ذلك من خلال الارتباط الإيجابي العالي (+0.84) بين مؤشر الشبكات الإجرامية والمكوّن الفرعي للجهات الإجرامية بشكل عام. وتعد النتائج العالية للشبكات الإجرامية مؤشرًا جيدًا على وجود أنواع أخرى من الجهات الفاعلة الإجرامية المؤثرة في نفس المنطقة الجغرافية.
بالإضافة إلى ذلك، ترتبط الجهات الفاعلة الأجنبية ارتباطًا وثيقًا بالشبكات الإجرامية المحلية، كما يتّضح من الارتباط الإيجابي المعتدل (+0.53) لُوحظ بين نوعي الفاعل الإجرامي. والنقطة الأساسية هي أنه في حين أن الأسواق الإجرامية تضم في كثير من الحالات جهات فاعلة أجنبية من جميع أنحاء العالم، إلا أن مجموعات من المناطق الحدودية للدول المجاورة هي التي ترفع درجات الجهات الفاعلة الأجنبية إلى حد كبير. ويحدث هذا عادة نتيجة لمخاطر الانتشار التي قد تواجهها البلدان المجاورة بسبب تجاورها وصعوبة حماية الحدود عندما يكون معدل الإجرام مرتفعًا وتنتشر الجهات الفاعلة بشكل خاص.
لا تزال المجموعات التي تتبع أسلوب المافيا هي أقلّ الجهات الفاعلة انتشارًا بفارق كبير. والقارة الوحيدة التي تمارس فيها هذه الجهات الفاعلة تأثيرًا قويًّا على الأسواق الإجرامية هي الأمريكتين؛ حيث تحتل هذه الجماعات -التي تتخذ في المقام الأول شكل “كارتيلات المخدرات”- المرتبة الثالثة، وتتميز الجماعات على غرار المافيا بالسيطرة على الأراضي وهياكل قيادية محددة، ولكنها تحتفظ أيضًا بعلاقات وروابط قوية عبر وطنية مع نخب الدول الفاسدة، مما يمكّنها من تضخيم نطاق عملياتها والتكيف مع الاقتصاد الإجرامي المعولم بشكل متزايد.
تعكس نتيجة المؤشر المُضاف حديثًا للجهات الفاعلة في القطاع الخاص (4.76) درجة تعاون الكيانات الخاصة أو تعاونها مع الجهات الفاعلة الإجرامية الأخرى، مما يُتيح لنظرائها الإجراميين الوصول إلى الاقتصادات القانونية
ثالثًا: مستويات الصمود العالمية
ظلت المؤشرات الـ12 التي تشكل عنصر الصمود كما هي في مؤشر 2021م. بشكل عام، لوحظت تغييرات طفيفة جدًّا في القدرة على الصمود عالميًّا بموجب مؤشر 2023م (الذي ظل دون تغيير عند متوسط عالمي قدره 4.81)، كما ظل ترتيب المؤشرات من الأعلى إلى الأدنى دون تغيير تقريبًا. لكن هذا لا يعني أنه لم تكن هناك تغييرات في الديناميكيات الوطنية والإقليمية. ومن المهم النظر إلى ما هو أبعد من المتوسطات على المستوى الكلي وتقييم التعقيدات الإقليمية والوطنية التي تحدد قدرة الدولة على التعامل مع تهديد الجريمة المنظمة والصمود أمامه. والواقع أن سياق الصمود العالمية قد تغير بشكل كبير، كما يتبين من حقيقة أن نسبة الأشخاص الذين يعيشون في ظروف منخفضة القدرة على الصمود انخفضت بشكل كبير إلى 61.9%، بعد أن كانت 79.4% قبل عامين. على الرغم من أن هذا الفارق البالغ 17.5 نقطة مئوية تقريبًا قد يبدو غير بديهي؛ نظرًا لأن درجة الصمود العالمية ظلت دون تغيير إلى حد كبير، فمن الجدير بالملاحظة هنا أن أيّ تغيير طفيف في درجة صمود بلد ما يمكن أن يؤثر على التوازن العام، إذا كان هذا البلد مكتظًّا بالسكان. ويمكن تفسير سبب التغيير من خلال الصين، التي نتيجة للتحسّن الطفيف في درجة الصمود لديها (زيادة طفيفة من 5.46 في عام 2021م إلى 5.67 في عام 2023م).
ومن خلال درجات الصمود، يمكن تفسير أن المؤشرات في مجموعة القيادة والحوكمة لا تزال تشكل الأساس للأدوات المفضّلة لدى الدول لمكافحة الإجرام على حساب الأدوات الاجتماعية والاقتصادية. وبلغ المتوسط العالمي للمؤشرات التي تشكّل هذه المجموعة 5.10 من أصل 10، وهي زيادة طفيفة مقارنة بعام 2021م. وتتجلى نوايا الدول المعلنة في التصدي للجريمة المنظمة في الدرجات العالية لـ”التعاون الدولي” (5.87) و”والسياسات والقوانين الوطنية” (5.48). ومما لا شك فيه أن تصديق الدول على الاتفاقيات الدولية ومشاركتها فيها، فضلًا عن مشاركتها مع الشركاء في القضايا المشتركة، ووجود أُطر تشريعية وطنية سليمة؛ كلها أمور أساسية في الحد من الجريمة المنظمة العابرة للحدود. ومع ذلك، فإن أوجه القصور في الشفافية والمساءلة وكذلك في الحوكمة يمكن أن تعرقل هذه الجهود. إن متوسط درجات مؤشرات مثل “القيادة السياسية والحوكمة” (4.70)، وخاصة “شفافية الحكومة ومساءلتها” (4.36) منخفضة نسبيًّا. في الواقع، انخفضت درجات كل من ركائز بناء الصمود على مستوى العالم خلال العامين الماضيين؛ حيث تم تحديد الأخير باعتباره ثاني أدنى مؤشر في المتوسط، فوق “دعم الضحايا والشهود” فقط (4.24).
ولا تزال الدول تفضّل الجهود المؤسسية للتصدي للجريمة على حساب النهج الأكثر شمولية، التي تنطوي على التعاون مع الجهات الفاعلة من غير الدول. ويتجلّى ذلك في درجات “النظام القضائي والاحتجاز” (4.54)، و”إنفاذ القانون” (4.87)، و”السلامة الإقليمية” (5.06). ومع التركيز على العدالة الجنائية والأمن، بلغ متوسط هذه المؤشرات مجتمعة ثاني أعلى فئة صمود (4.82). على الرغم من أهميته التي لا يمكن إنكارها في مكافحة الجريمة المنظمة، فإن الاعتماد المفرط على الاستجابات الأمنية، إلى جانب القضايا التي تعاني منها العديد من مؤسسات الدولة، قد يؤدي إلى تأثير عكسي من خلال إعاقة تدابير مكافحة الجريمة المنظمة، أو الأسوأ من ذلك، أن يصبح دافعًا.
وفيما يتعلق بتدابير المجتمع المدني والحماية الاجتماعية، تُظهر نتائج عام 2023م اختلالًا ملحوظًا بين الأمننة والنُّهج التي تركز على الضحايا والتي تيسرها الجهات الفاعلة غير الحكومية. وكان لمؤشرات المجتمع المدني والحماية الاجتماعية أدنى متوسط بين جميع فئات القدرة على الصمود (4.50). على الرغم من أن مؤشر “الجهات الفاعلة غير الحكومية” (4.72) حقق أداءً جيدًا نسبيًّا مقابل متوسط الصمود الإجمالي، إلا أنه المؤشر الوحيد الذي انخفض أكثر من غيره (-0.16). وفي الوقت نفسه، سجَّل “دعم الضحايا والشهود” 4.24، مما يشير إلى الفشل في إعطاء الأولوية للأنظمة المُصمَّمة لحماية الأشخاص الأكثر عُرضة لخطر أضرار الجريمة المنظمة.
كما أن التدابير الاستباقية الرَّامية إلى التخفيف من أثر الجريمة المنظّمة والحد من الظاهرة بشكل عام، والتي تُقاس بمؤشر “الوقاية” (4.55)، هي أيضًا غير متطورة. في مجموعها، يمكن أن يكون لأوجه العجز هذه والتناقض بين الأولوية المعطاة للمبادرات التي تُديرها الدولة والاعتماد الناقص على النهج الذي يقوده المجتمع المدني، تأثير سلبي دائم على المجتمع. ويمكن أن تعمل هذه العوامل على زيادة التفكك الاجتماعي وتوليد الظروف التي يمكن للعناصر الإجرامية استغلالها.
إذا كان هناك شيء واحد يبرز، فهو وجود سوق الجرائم المالية في كل مكان. وفي مقابل ذلك، فإن مؤشري الصمود اللذين يركزان على الاقتصاد، وهما “مكافحة غسل الأموال” (4.71) و”القدرة التنظيمية الاقتصادية” (4.67)، يسجلان أقل بقليل من متوسط الصمود العالمي (4.81). ويعمل القطاع الاقتصادي المنظم بشكل جيد على دعم التنمية الاقتصادية القانونية وإعاقة وصول الجريمة المنظمة إلى الأسواق المشروعة. على الرغم من أن التنظيم الاقتصادي والمالي (4.69) لا يعكس جميع أنواع الجرائم المالية المدرجة ضمن تعريف المؤشر.
المحور الثالث
تحليل مؤشر الجريمة المنظمة في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء لعام 2023م
واصلت إفريقيا مستوياتها العالية من الإجرام منذ عام 2021م، وظلت ثاني أعلى قارة في العالم؛ حيث حصلت على 5.25 من أصل 10، لتأتي بعد آسيا. ويبدو أن ذلك، وكما هو الحال في عام 2021م، مدفوع بشكل أساسي مِن قِبَل الجهات الإجرامية، والتي سجّلت 5.45، لترفع متوسط الإجرام في إفريقيا. وسجّلت الأسواق الإجرامية أقل من 5.05. بينما حقّق إقليم إفريقيا جنوب الصحراء 5,27 في درجات الإجرام، وكانت درجة الأسواق الإجرامية 5,03، والجهات الفاعلة الإجرامية 5,51، ودرجات الصمود 3,87.
ومن حيث الديناميكيات الإقليمية، تُعدّ شرق إفريقيا المنطقة الأعلى نقاطًا في القارة من حيث الإجرام الشامل (5.88)، وتتصدر القائمة لكل من الأسواق الإجرامية (5.52) والجهات الفاعلة الإجرامية (6.23)، تليها غرب إفريقيا (5.44). وتصنّف شرق إفريقيا من بين المناطق الخمس الأولى للجريمة في العالم، باعتبارها مرتعًا للأنشطة غير المشروعة ومعقلًا للجهات الإجرامية، التي يتفاقم نفوذها بسبب الصراعات الطويلة التي تجعل المنطقة أكثر عُرضة لخطر الجريمة المنظّمة. أما بالنسبة للأسواق الإجرامية، فإن المنطقة تتأثر بشدة بالاتجار بالبشر والاتجار بالأسلحة؛ حيث يبلغ كلاهما 7.78، وهو أعلى المتوسطات الإقليمية في العالم لهذه الأنواع من الجرائم. وتعكس هذه النتائج العالية مدى هيمنة هذين السوقين بشكل عام وانتشارهما في المنطقة، مع بعض التركيزات العالية في بلدان معينة.
جدول رقم (2)
مؤشر الجريمة المنظمة ومكوناته الأساسية في إفريقيا وأقاليمها المختلفة لعام 2023م
المصدر: محسوب من الباحث من مؤشر الجريمة المنظمة العالمي لعام 2023م.
والجدول رقم (3) يوضع مؤشر الجريمة المنظمة في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء ومكوناته الفرعية والقدرة على الصمود في دولة على حدة لعام 2023م.
جدول رقم (3)
الجريمة المنظمة في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء على حسب الدولة لعام 2023م
المصدر: مؤشر الجريمة المنظمة العالمي لعام 2023م.
أولاً: الأسواق الإجرامية الإفريقية
وفقًا للجدول رقم (4) لا يزال الاتجار بالبشر هو السوق الإجرامية الأكثر انتشارًا في القارة؛ حيث حصل على درجة 6.06. ويرتبط انتشار هذه الممارسة بعوامل مختلفة، بما في ذلك الصراعات العديدة المستمرة في إفريقيا، وعوامل الدفع الاقتصادي التي تجعل الناس عُرضة للاتجار، ومشاركة الجهات الفاعلة التابعة للدولة في تسهيل هذه الأنشطة. وفي حالة الاتجار بالبشر، كانت إريتريا وجنوب السودان من بين الدول التي حصلت على أعلى الدرجات في السوق؛ حيث بلغت 9.0 و8.50 على التوالي. ولا يزال التجنيد العسكري ممارسة منهجية ومدمرة في إريتريا، ممّا يؤدي إلى الاستياء والهجرة الخارجية الكبيرة، ممّا يغذّي سوق تهريب البشر.
وقد تفاقمت هذه الظاهرة أيضًا بسبب الحرب الأهلية في إثيوبيا المجاورة؛ حيث أمرت الحكومة بتعبئة جماعية في محاولة لتعزيز الجيش وتعزيز الأمن. ومن ناحية أخرى، لدى جنوب السودان سوق أكثر تنوعًا للاتجار بالبشر، مع ممارسات بدءًا من العمل القسري إلى العبودية المنزلية والاستغلال الجنسي. ومع ذلك، فإن القضية الرئيسية في البلاد تتعلق بالأطفال، الذين يتم تجنيدهم؛ حيث يقدر أنّ الآلاف من القُصّر يقومون بأدوار قتالية، أو الذين يعملون في البناء والتعدين والزراعة؛ حيث يتعرّضون لحالات استغلالية.
وكما هو الحال في جميع أنحاء العالم، كانت الجرائم المالية منتشرة في إفريقيا. تم تقييم هذا السوق باعتباره ثاني أكثر الأسواق انتشارًا؛ حيث بلغ متوسط النقاط القارية 5.95. وفي منطقة إفريقيا جنوب الصحراء 5,03 نقطة. وتم تسجيل درجات عالية للجرائم المالية في جميع أنحاء القارة، بما في ذلك حوادث الاحتيال المالي، والتهرب الضريبي، والاختلاس، وإساءة استخدام الأموال العامة مِن قِبَل الجهات الفاعلة التابعة للدولة. وشهدت القارة مستويات عالية من الاحتيال المالي عبر الإنترنت التي ارتكبتها عصابات إجرامية شديدة التنظيم مثل Black Axe، وهي من أصل غرب إفريقي، ولكن لها بصمة عالمية؛ حيث كانت مسؤولة عن عمليات الاحتيال الرومانسية عبر الإنترنت([7]).
وحصلت منطقة شمال إفريقيا على أعلى الدرجات (7.83) في الجرائم المالية. وكانت هذه أيضًا المنطقة الأعلى تسجيلًا للجرائم المالية في العالم، تليها مباشرة غرب آسيا (7.82) وجنوب شرق آسيا (7.18). وقد تم تقييم هذا النوع من الاقتصاد غير المشروع على أن له تأثيرًا شديدًا في جميع بلدان المنطقة دون الإقليمية (بدرجات تتراوح بين 8.0 إلى 9.50)، باستثناء المغرب (الذي بلغت درجته 7.50، وهو على أعتاب نطاقات التأثير الكبيرة إلى الشديدة. وموريتانيا (6.0). أما ليبيا فقد رفعت المتوسط الإقليمي بدرجة 9.50.
جدول رقم (4)
الأسواق الإجرامية في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء لعام 2023م
المصدر: مؤشر الجريمة المنظمة العالمي لعام 2023م.
وبمتوسط 5.77، يُعدّ الاتجار بالأسلحة ثالث أكثر الأسواق الإجرامية انتشارًا في إفريقيا، ويرجع ذلك إلى حدّ كبير إلى إعادة توجيه الأسلحة التي تشتريها الحكومات في مناطق الصراع الطويل، مثل وسط وشرق إفريقيا. وهذه الأخيرة هي المنطقة التي حصلت على أعلى الدرجات في العالم فيما يتعلق بتهريب الأسلحة؛ حيث حصلت على 7.78، وهو ما يمثل زيادة قدرها 0.67 نقطة عن عام 2021م. وفيما يتعلق بالاتجار بالأسلحة، سجَّلت جميع دول شرق إفريقيا 7.0 أو أعلى، باستثناء تنزانيا (6.0)، مما يعني أن السوق منتشر بشكل كبير في كل مكان في المنطقة، مع بعض الاختلافات السياقية. وتتمتع السودان (9.0)، والصومال (9.0)، وإثيوبيا (8.50)، وجيبوتي (7.50) ببعض من أعلى الدرجات في مجال تهريب الأسلحة في شرق إفريقيا، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الصراعات المسلحة والعرقية.
ولا يزال الصومال يشكل مركزًا بالغ الأهمية لتهريب الأسلحة غير المشروعة، بما له من روابط عبر وطنية مع أسواق غير قانونية أخرى، مثل القرصنة والاتجار بالمخدرات. زادت التدفقات غير المشروعة للأسلحة من اليمن إلى الصومال في الفترة المشمولة بالتقرير، وكذلك عدد الأسلحة غير المشروعة المتداولة في البلاد، والتي تتراوح بين المسدسات والبنادق الآلية. وعادة ما يتم تهريب الأسلحة النارية من قبل الميليشيات العشائرية وجماعة الشباب المتطرفة والجماعات الحكومية وشبكات التهريب العابرة للحدود الوطنية المتمركزة في الشمال، ولا سيما بونتلاند وشرق أرض الصومال.
وسجَّلت إثيوبيا (7.0) زيادة ملحوظة في تهريب الأسلحة، نتيجة للحرب الأهلية في تيغراي، ممَّا أدّى إلى تصاعد الأسلحة الصغيرة والأسلحة الخفيفة التي يتم الاتجار بها في المنطقة وتسبّب في تسرب الأسلحة النارية من المناطق التي مزَّقتها الحرب إلى مناطق أخرى، وتحديدًا أديس أبابا.
وفي السودان، لا يزال الاتجار بالأسلحة متعدّد الاتجاهات يمثل مشكلة، مع استمرار الجهات الفاعلة الخارجية والداخلية في توريد الأسلحة إلى البلاد، وضعف الشفافية أو المساءلة في كيفية إدارة أو توزيع أسلحة الدولة والقوات شبه العسكرية.
وخلصت الأبحاث التي أجراها الإنتربول في وسط إفريقيا أيضًا إلى أن الجماعات المسلحة غير الحكومية تستخدم المواد الكيميائية والمواد المحفّزة للمتفجرات لتصنيع المتفجرات المستخدمة في التعدين غير القانوني والصيد بالمتفجرات([8]).
وفي الوقت نفسه، تأثرت العديد من بلدان وسط إفريقيا، مثل الكونغو الديمقراطية (9.0)، وإفريقيا الوسطى (9.0)، وتشاد (8.50)، والكاميرون (7.50)، بالاتجار بالمتفجرات لاستخدامها في النزاعات المسلحة مِن قِبَل الجهات غير الحكومية. والجماعات المسلحة مثل بوكو حرام وداعش في غرب إفريقيا في حوض بحيرة تشاد، والجماعات المتمردة مثل Retour وRéclamation et Réhabilitation.
كما استمرت مستويات الجريمة البيئية في التزايد في القارة؛ حيث سجَّلت بلدان وسط إفريقيا وغرب إفريقيا والجنوب الإفريقي درجات عالية في الجرائم المتعلقة بالنباتات والحيوانات. ولا تزال الأسواق الإجرامية للموارد غير المتجددة منتشرة بشكل كبير في بلدان مثل إفريقيا الوسطى (10.0) والكونغو الديمقراطية (9.50). وباعتبارها بلدًا مُصدِّرًا للذهب؛ فإن التجارة غير المشروعة منتشرة على نطاق واسع في الكونغو الديمقراطية؛ حيث تستفيد الميليشيات الموالية للحكومة والمتمردين من السوق. ويتم تهريب أكثر من 90% من ذهب الكونغو الديمقراطية إلى البلدان المجاورة، بما في ذلك أوغندا ورواندا. وتشهد القارة أيضًا مستويات كبيرة من التجارة غير المشروعة بالحياة البرية؛ حيث سجّلت شرق إفريقيا 5.94 نقطة في جرائم الحيوانات، تليها غرب إفريقيا (5.83).
وتم تحديد تجارة الهيروين والابتزاز وابتزاز الحماية على أنها أسواق إجرامية لها وجود أقل بكثير في القارة؛ حيث سجلت درجات 3.97 و3.99 على التوالي، على الرغم من زيادة تجارة الهيروين بشكل طفيف بمقدار 0.16 نقطة. وكان السوق الأقل انتشارًا في القارة هو الجرائم المعتمدة على الإنترنت؛ حيث حصلت على درجة 3.59. قد يكون هذا نتيجة لانخفاض معدلات انتشار الإنترنت.
ثانيًا: الجهات الفاعلة الإجرامية في إفريقيا
حقَّق متوسط الجهات الفاعلة في قارة إفريقيا 5,45 نقطة وفي منطقة إفريقيا جنوب الصحراء 5,5 نقطة كما يوضحها جدول (5). وقد ظلت الجهات الفاعلة التابعة للدولة هي العوامل الأكثر هيمنة في تسهيل الاقتصادات غير المشروعة وتثبيط القدرة على مواجهة الجريمة المنظمة في إفريقيا؛ حيث حصلت على درجة قارية قدرها 7.12، تليها الشبكات الإجرامية (6.11). واحتفظت الجهات الفاعلة الأجنبية بالمركز الثالث، والتي، على الرغم من تسجيلها أقل من الجهات الفاعلة المدمجة في الدولة والشبكات الإجرامية؛ فقد تبين أنها زادت من تأثيرها، مع قفزة قدرها 0.28 نقطة من عام 2021م (إلى 5.91). ويمكن أن يُعزَى هذا الارتفاع الحاد إلى أنشطة مجموعة فاغنر وعصابات الاتجار بالبشر العاملة في القارة.
وهناك أدلة على وجود أفراد يعملون في القطاع الخاص يعملون بشكل مستقل أو يتواطؤون مع جهات فاعلة تابعة للدولة في إدامة الجريمة في جميع أنحاء القارة، باستخدام قوتهم التمكينية في تسهيل غسل الأموال والتدفقات المالية غير المشروعة. ومع ذلك، فقد وجد أن تأثيرهم أقل من التأثير الذي تمارسه أنماط الجهات الإجرامية الأخرى، باستثناء المجموعات على غرار المافيا. وسجلت الجهات الفاعلة في القطاع الخاص 4.80، لتحتل المرتبة الرابعة، أعلى بقليل من الجماعات على غرار المافيا، والتي، مع درجة 3.31، تبين أنها أقل أنواع الجهات الفاعلة الإجرامية تسجيلًا في القارة، على الرغم من زيادة قدرها 0.20 منذ عام 2021م.
جدول رقم (5)
الجهات الفاعلة الإجرامية في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء لعام 2023م
المصدر: مؤشر الجريمة المنظمة العالمي لعام 2023م.
وفي استكشاف أنواع الجماعات الإجرامية العاملة في القارة، تم تصنيف ثلاث مناطق إفريقية في المرتبة الأولى والثانية والثالثة في العالم بالنسبة لفئة الجهات الفاعلة المدمجة في الدولة: وسط إفريقيا (7.68)، وشمال إفريقيا (7.67)، وشرق إفريقيا (7.44). في وسط إفريقيا، يميل الفساد إلى أن يكون مشكلة واسعة النطاق ويلعب دورًا أساسيًّا في ديناميات الصراع والبيئات السياسية لبلدان المنطقة، إلى حد أن أجهزة الدولة مخترقة تمامًا ولا يترك مجالًا كبيرًا للآخرين لدخول الأسواق الإجرامية دون موافقة أو إذن من مجرمي الدولة. وباستثناء رواندا (5.0) وساو تومي وبرينسيبي (3.0)، سجلت كل دولة في المنطقة 8.0 أو 8.50 أو 9.0، والتي تشير جميعها إلى تأثير شديد.
حالة جنوب إفريقيا:
القراءات الإقليمية للمؤشر، وخاصة لغرض المقارنات الإقليمية، تُحتّم النظر في الفروق الدقيقة الخاصة بكل بلد، والتي يمكن أن تؤدي إلى تحريف الصورة العامة. وجنوب إفريقيا مثال على ذلك. إنها واحدة من ثلاث دول إفريقية فقط في فئة ارتفاع معدلات الجريمة والصمود، إلى جانب نيجيريا والسنغال. ولكن على عكس الحالتين الأخيرتين، تفاقمت معدلات الإجرام والقدرة على الصمود في جنوب إفريقيا. مع درجة إجرامية عالية تبلغ 7.18، تعد البلاد دولة إجرامية لا يمكن إنكارها، مما يرفع بشكل ملموس متوسط درجة الإجرام في المنطقة. ومع ذلك، وعلى خلفية تزايد الإجرام على مدى عقد من الزمن، وتآكل البنية التحتية الحيوية وتقويض العمليات الديمقراطية من خلال الفساد المنظم والعنف المأجور، فإن القدرة على مواجهة تأثير الجريمة المنظمة في البلاد مرتفعة أيضًا. تتفاقم الأسواق الإجرامية في الدولة بفعل تأثير الجهات الفاعلة الإجرامية، وخاصة الجهات الفاعلة المدمجة في الدولة والمسؤولة عن سنوات من النهب، والشبكات الإجرامية المترابطة إلى حد كبير. ومع ذلك، من حيث القدرة على الصمود (5.63)، سجّلت جنوب إفريقيا أيضًا أعلى المعدلات في منطقة الجنوب الإفريقي، مدفوعة بالجهود التي تبذلها الجهات الفاعلة غير الحكومية لمقاومة الجريمة المنظمة، والسياسات والقوانين الوطنية القوية، والقدرة التنظيمية الاقتصادية القوية. ومع ذلك، تعرَّضت لبنات بناء الصمود لضغوط في عام 2022م، الذي شهد انخفاضًا إجماليًّا في القدرة على الصمود.
وتتمتع الشبكات الإجرامية والجهات الفاعلة الأجنبية أيضًا بقبضة قوية على القارة؛ حيث تعد شرق إفريقيا وغرب إفريقيا من بين المناطق الثلاث التي حصلت على أعلى الدرجات في العالم لكلا المؤشرين، وقد أظهرت التحقيقات في أنشطة مجموعة فاغنر أنها أصبحت متورطة في العديد من الاقتصادات غير المشروعة. ومن المعروف أيضًا أنها متورطة في تهريب الذهب والموارد المعدنية الأخرى في بلدان وسط إفريقيا، مثل إفريقيا الوسطى، التي يبلغ تصنيف الجهات الفاعلة الأجنبية فيها 9.0. وفي شرق إفريقيا، اكتسبت مجموعة فاغنر نفوذًا سياسيًّا كبيرًا في السودان (8.0)؛ حيث طوّرت مصالح تجارية واسعة النطاق بالإضافة إلى لعب دور المرتزقة([9]).
ثالثًا: مستويات الصمود في إفريقيا
ومن حيث الصمود، كانت إفريقيا مرة أخرى القارة الأقل تسجيلًا؛ حيث بلغت 3.85، على الرغم من أنها شهدت تحسنًا هامشيًّا منذ نسخة 2021م (+0.05). بينما حققت منطقة إفريقيا جنوب الصحراء 3,87 نقطة. كما يبين جدول رقم (6).
وكانت أعلى المؤشرات في القارة هي “التعاون الدولي” (5.03)، و”السياسات والقوانين الوطنية” (4.72)، و”السلامة الإقليمية” (4.21). ورغم أن التنفيذ قد يكون غير موجود، فقد سنَّت البلدان الإفريقية إلى حد كبير قوانين وسياسات وطنية لمكافحة الجريمة المنظمة. وقد صادقت 51 دولة من أصل 54 دولة في القارة على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية والبروتوكولات المصاحبة لها. في حين أن هذا قد يكون مؤشرًا على بعض الإرادة السياسية لمكافحة الجريمة المنظمة؛ حيث (صدّقت 36 دولة على الاتفاقية خلال السنوات الخمس الأولى من اعتمادها، وصدقت 15 دولة عليها بين عامي 2005 و2014م)، تشير البيانات إلى أن هذه البلدان لم تتمكن من التنفيذ الكامل للاتفاقية([10]).
وعلى الرغم من أن “التعاون الدولي”، الذي تعتمد نتيجته جزئيًّا على التصديق على المعاهدات الدولية المتعلقة بمكافحة الجريمة المنظمة وتنفيذها، تم تحديده باعتباره مؤشر الصمود الذي حقق أكبر قدر من التحسن في القارة (+0.24).
ويتمثل التحدي في أن العديد من البلدان في إفريقيا تظهر أوجه قصور في تنفيذ الاتفاقية لعدة أسباب، بما في ذلك عدم فعالية إنفاذ القانون، وغياب هيئة مجتمع مدني حرة لتقديم الدعم، وضعف القدرات المؤسسية، والفساد، والتأثير المتزايد للجهات الفاعلة المدمجة في الدولة ([11]).
جدول رقم (6)
درجات الصمود في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء لعام 2023م
المصدر: مؤشر الجريمة المنظمة العالمي لعام 2023م.
استمرت المساحة المتاحة للمجتمع المدني في التقلص في العديد من البلدان في جميع أنحاء إفريقيا، وكان لذلك تأثير على مؤشرات الصمود، مثل “دعم الضحايا والشهود” (سجل 2.84، وهو أدنى متوسط في العالم لهذا المؤشر) و”الوقاية”. (3.25). وقد أظهرت الأبحاث أن هذه هي المجالات الرئيسية التي يشارك فيها المجتمع المدني بأكبر قدر ممكن في جهوده الرامية إلى مكافحة الجريمة المنظمة، في محاولة لتوفير بدائل للتدابير غير الفعَّالة التي تقودها الدولة. ويتجلَّى ذلك في ارتفاع عدد البرامج الاجتماعية والوقائية التي تقودها مبادرات المجتمع المدني التي تسعى إلى التخفيف من العوامل التي تجذب الأفراد إلى الجريمة، مثل ضعف المؤشرات الاقتصادية وانعدام الفرص. وتماشيًا مع هذه النتيجة، تُعدّ “الشفافية والمساءلة الحكومية” أيضًا من بين أدنى مؤشرات الصمود في القارة؛ حيث تبلغ 3.31.
واستمرت منطقة شمال إفريقيا وشرق إفريقيا ووسط إفريقيا في الظهور باعتبارها المناطق الثلاث الأقل تسجيلًا في العالم من حيث مستويات الصمود، عند 3.67 و3.46 و3.23 على التوالي. ويأخذ تقييم المؤشر في الاعتبار وجود وفعالية تدابير الصمود، فضلًا عن احترام حقوق الإنسان الأساسية في تنفيذها، مما يعني أن هذه المتوسطات الإقليمية المنخفضة تشير إلى أداء ضعيف في جميع هذه المجالات.
المحور الرابع
مقارنة مؤشر الجريمة المنظمة في إفريقيا بين عامي 2021م و2023م
عند المقارنة يتبين أن إفريقيا شهدت زيادة في معدلات الإجرام بشكل عام مقارنة بعام 2021م. ومع ذلك، تكون هذه الزيادة أقل قليلًا عندما يتم تضمين المؤشرات الأحدث في المعادلة، مما يعني أنها تخفض بشكل معتدل متوسط الجهات الفاعلة الإجرامية والأسواق (+0.08، مقابل زيادة قدرها 0.23 إذا استثنينا المؤشرات الجديدة).
هذه النتائج ليست مفاجئة بالنظر إلى أن مؤشر الجرائم الإلكترونية الجديد، مثلًا، فهي ليست سوقًا منتشرًا في القارة بسبب التكاليف المرتفعة المرتبطة بالاتصال بالإنترنت، والممارسات القديمة مِن قِبَل الحكومات التي لم تقم برقمنة الكثير من أدواتها. مما يجعلها أقل سهولة في الوصول إليها وأكثر جاذبية لمجرمي الإنترنت. وفي حين أن الوباء ربما أدَّى إلى زيادة مستويات الاتصال والاعتماد على التقنيات السيبرانية إلى حدّ ما، إلا أن إفريقيا لا تزال بطيئة في التحول الرقمي.
ومع ذلك، فإن أحد الاستثناءات الملحوظة لهذه الديناميكية يظهر في نتائج الجرائم المالية. ووجد المؤشر أن هذا السوق منتشر بشكل خاص، بمتوسط قاري يبلغ 5.95 ومستويات تغلغل عالية بشكل خاص في مناطق معينة، مثل شمال إفريقيا، مما يرفع متوسط الدرجات في تلك المنطقة إلى 7.83. وعلى العموم، لا تزال الأسواق الإجرامية العشرة الأصلية تمارس تأثيرًا قويًّا على القارة، في معظم المناطق.
والجدول رقم (7) يبين درجات الإجرام والأسواق الإجرامية والجهات الفاعلة والقدرة على الصمود في إفريقيا وأقاليم مختلفة منها.
جدول رقم (7)
درجات الإجرام في إفريقيا لعام 2021م
المصدر: محسوب عن طريق الباحث من تقرير مؤشر الجريمة المنظمة لعام 2021م.
أولاً: تطوّر الأسواق الإجرامية
وبمقارنة متوسطات عامي 2021م و2023م، بما في ذلك المؤشرات الجديدة، على الرغم من حصولها على ثاني أعلى نتيجة إجمالية للأسواق الإجرامية في العالم؛ فإن إفريقيا هي القارة التي شهدت أقل زيادة في انتشار الأسواق الإجرامية (+0.11). وظهرت نتيجة مماثلة فيما يتعلق بالتغير في الجهات الإجرامية (+0.05). ومن بين جميع القارات، كانت أوقيانوسيا هي الوحيدة التي شهدت زيادة أقل في درجات الجهات الإجرامية.
إن النظر عن كثب إلى الأسواق الإجرامية يكشف عن بعض النتائج المثيرة للاهتمام. على وجه الخصوص، شهدت تجارة الكوكايين، على الرغم من انخفاض متوسطها القاري (وهي رابع أدنى سوق إجرامية في إفريقيا في عام 2023م)، أكبر زيادة (+0.42). على الرغم من أن غرب إفريقيا لا يزال يقود المتوسط القاري؛ حيث سجّل أعلى المعدلات في هذه السوق الإجرامية، فقد لُوحظ أكبر نموّ من حيث تأثير تجارة الكوكايين في شمال إفريقيا (+0.59) والجنوب الإفريقي (+0.58) في الفترة المشمولة بالتقرير. ومع ذلك، ربما لم يكن من المستغرَب أن تشهد منطقة غرب إفريقيا أيضًا زيادة ملحوظة؛ حيث سجَّلت ارتفاعًا بنسبة +0.47 في عام 2023م مقارنة بعام 2021م.
ولم يكن الاتجار بالكوكايين منتشرًا بشكل خاصّ في إفريقيا على الإطلاق؛ حيث كان متوسطه عمومًا أقلّ ممّا هو عليه الحال في الأسواق الإجرامية الأخرى. ومع ذلك، فإن النتائج تشير إلى أن الدول الإفريقية قد تأثرت بالتغيرات التي لُوحظت في أنماط الاتجار بالكوكايين عبر الحدود الوطنية في السنوات الأخيرة. لقد حدث تحوّل في أسواق الوجهة؛ حيث تستهدف مجموعات الجريمة المنظمة بشكل متزايد أسواق المستهلكين بخلاف الولايات المتحدة ([12]).
وقد تُرجم هذا التحول إلى زيادة استخدام المتاجرين بالبشر للموانئ والبلدان الإفريقية كمراكز عبور غير مباشرة للأسواق الأخرى. وهذه المراكز الإفريقية ونقاط إعادة الشحن مفضّلة بسبب تراخي الضوابط الجمركية وضعف القدرة على إنفاذ القانون وعدم الاستقرار السياسي. كما أدَّى ارتفاع شعبية القارة كطريق عبور إلى زيادة توافر الكوكايين وما يترتب على ذلك من ارتفاع الاستهلاك المحلي.
وشهد سوق تهريب البشر ثاني أكبر زيادة في القارة (+0.41). المنطقتان اللتان تم تقييمهما على أنهما تتمتعان بأعلى الدرجات في العالم لهذه السوق، وهما شرق إفريقيا (7.39) وشمال إفريقيا (7.33)، سجلتا أيضًا أعلى الزيادات في القارة (+0.50 و+0.75، على التوالي). ويمكن رؤية متوسط الدرجات المرتفعة لشمال إفريقيا في حقيقة ارتفاع درجات كل دولة في المنطقة. وحققت ليبيا أعلى قفزة (من 8.0 إلى 9.50). ويمكن تفسير ذلك بالاستقرار النسبي السائد في غرب ليبيا، مما يتيح التنقل وإتاحة المجال اللوجستي للمهربين، وعودة شبكات أكثر تطورًا تُركِّز على تطوير طرق معقدة ولكن ذات قيمة أعلى. ويرتبط تهريب البشر بمستويات عالية من العنف، وارتفاع معدلات الوفيات، والابتزاز، والعمل القسري، والاستغلال الجنسي. وفي المنطقة دون الإقليمية، سجّلت تونس أيضًا زيادة ملحوظة في سوق التهريب (من 7.0 إلى 8.0)؛ حيث أصبحت حدود البلاد أكثر عُرضة للاختراق. وقد تلقّت أراضيها تدفقات كبيرة من الجزائر وتزايدت أنشطة التهريب داخل البلاد؛ حيث كان غالبية الأشخاص الذين يتم تهريبهم خارج تونس مواطنين تونسيين.
ومن المثير للاهتمام أن الاتجار بالبشر في إفريقيا -على الرغم من بقائه السوق الأعلى تسجيلًا في القارة- هو السوق الذي شهد أقل زيادة منذ عام 2021م (+0.13). وتشير هذه النتيجة إلى أنه على الرغم من أن الاتجار بالبشر لا يزال منتشرًا بشكل كبير في جميع أنحاء القارة؛ إلا أنه ظل أيضًا مستقرًّا تمامًا بمرور الوقت في مستويات انتشاره العالية.
ثانيًا: تطور الجهات الفاعلة الإجرامية
عزّزت جميع أنواع الجهات الفاعلة الإجرامية في إفريقيا نفوذها في عام 2023م. وزادت الجهات الأجنبية درجاتها أكثر (+0.28)، تليها الجهات الفاعلة المدمجة في الدولة (+0.23)، والجماعات على غرار المافيا (+0.20) والشبكات الإجرامية (+0.15). وعلى الرغم من الزيادة المعتدلة، ظلت الجماعات التي تتبع أسلوب المافيا هي أقل أنواع الجهات الفاعلة تسجيلًا في جميع أنحاء إفريقيا. بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من توسُّع الجهات الفاعلة الأجنبية بشكل كبير في القارة خلال الفترة المشمولة بالتقرير، إلا أن الجهات الفاعلة التابعة للدولة لا تزال تحتل المرتبة الأولى في القائمة، ولا تزال تسجل أعلى بكثير من مؤشرات الجهات الفاعلة الأخرى، عند 7.12.
ثالثًا: تطور مستويات الصمود
تمتلك إفريقيا أدنى متوسط في العالم من حيث مستويات الصمود، وكان التحسن العام في هذا المجال هامشيًا للغاية؛ حيث زاد بمقدار +0.05 نقطة فقط منذ عام 2021م. حيث كثَّفت البلدان جهودها في “التعاون الدولي” (+ 0.24)، و”السياسات والقوانين الوطنية” (+0.11)، و”الوقاية” (+0.17). وإذا كانت الزيادات الأولى والثانية أكثر انسجامًا مع الاتجاهات العالمية وتنقل فكرة مفادها أن البلدان تركّز بشكل أكبر على الانخراط في الأشكال المؤسسية للصمود بدلًا من تفضيل نهج أوسع وأكثر شمولًا، فإن التحسن في تدابير الوقاية يمثل إشارة إيجابية. ويُعد تعزيز المبادرات الوقائية خطوة أساسية نحو التزام جادّ وأكثر شمولًا في مكافحة الجريمة المنظمة؛ حيث يهدف إلى بناء ضمانات للحماية من الإجرام من خلال إحداث تغييرات سلوكية لدى الفئات الضعيفة وتقليل الطلب على الأنشطة غير المشروعة.
ومع ذلك، فإن العكس ينطبق على دور “الجهات الفاعلة غير الحكومية” في القارة، والذي انخفض (-0.07). ورغم أن هامش الانخفاض كان أصغر مما هو عليه الحال في القارات الأخرى (الاستثناء هو أوقيانوسيا، المنطقة الوحيدة التي سجّلت زيادة في مؤشر الصمود)، فإنه لا يزال يشير إلى اتجاه سلبي، يتّسم بتقلص المساحة المتاحة للمجتمع المدني. جنبًا إلى جنب مع الجهات الفاعلة غير الحكومية، كانت مؤشرات الصمود الأخرى التي ورد أنها ساءت في إفريقيا خلال فترة العامين الماضيين هي “النظام القضائي والاحتجاز” (-0.04)، و”السلامة الإقليمية” (-0.03)، و”إنفاذ القانون” (- 0.03).
خاتمة:
تقدم نتائج مؤشر 2023م رؤى مثيرة للاهتمام حول تطوُّر الاقتصادات غير المشروعة، والجهات الفاعلة المعنية وفعالية تدابير الصمود المصمّمة لمواجهة تهديد الجريمة المنظمة في إفريقيا بشكل عام ومنطقة إفريقيا جنوب الصحراء بشكل خاص. لقد أدت الأحداث العالمية الكبرى التي تكشفت على مدار العامين الماضيين، جنبًا إلى جنب مع التأثيرات المتبقية لجائحة كبرى، إلى ظهور عالم منقسم ومتضارب. لقد أصبح عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية وعدم الاستقرار السياسي والصراع أكثر حدة من أيّ وقت مضى، وكان لذلك تأثير بالغ الأهمية على الجريمة المنظمة العالمية.
وسرعان ما أصبح من الواضح أن كوفيد-19 لم يوجّه ضربة حاسمة للاقتصاد العالمي غير المشروع. ومع تضاؤل الوباء، أعاد المجرمون احتلال الأراضي القديمة مع إحكام قبضتهم على مصادر الإيرادات الجديدة. لقد اضطرت الدول في جميع أنحاء العالم إلى الأخذ في الاعتبار حقيقة أن الجريمة المنظمة لم تظهر أيّ علامات على التباطؤ، بل على العكس تمامًا، فقد زادت خلال العامين الماضيين. ويبدو أن الدول غير قادرة على مواكبة التهديد المتزايد الذي تُشكّله الجريمة المنظمة، مما ساهم في اتساع الفجوة بين الإجرام والقدرة على الصمود. ارتفعت النسبة المئوية لسكان العالم الذين يعيشون في بلدان تتميز بمستويات عالية من الإجرام منذ عام 2021م، في حين ظلت مستويات الصمود بشكل عام على حالها.
لقد احتلت الجرائم المالية، المرتبة الأولى باعتبارها الشكل الأكثر انتشارًا للنشاط الإجرامي في العالم؛ متقدمة على الأسواق القائمة على الإنسان والنمو في تجارة الكوكايين والمخدرات الاصطناعية. توصلت النتائج إلى أن الجرائم المالية منتشرة في كل مكان، وتستهدف الضحايا عبر نطاق النظام الاجتماعي والاقتصادي، من الشركات الكبيرة إلى الأفراد. إنه شكل من أشكال الجريمة المنظّمة التي تقوّض بشكل خطير التماسك الاجتماعي والاقتصادي للبلدان. ولا يزال الفساد، وخاصةً في القطاع العام، عاملًا ميسرًا للجريمة المنظمة؛ حيث تستمر الجهات الإجرامية في التغلغل في جميع مجالات جهاز الدولة. تماشيًا مع نتائج عام 2021م، لا تزال الجهات الفاعلة التابعة للدولة هي الناقل الرئيسي للجريمة المنظمة. ومع تعزيز هذه المصالح الإجرامية المرتبطة بالدولة قبضتها، تتضاءل بشكل كبير الفرص المتاحة لبلدانها لتصميم أُطُر واقعية ومؤثرة وقابلة للتنفيذ لمواجهة تهديد الجريمة المنظمة.
وفي حين أن الإجرام يقوّض الحكم الرشيد والفساد يمنع الاستجابات الفعّالة؛ فإن تعزيز آليات الرقابة وأُطُر الحماية لضحايا الجريمة المنظمة والتعاون مع منظمات المجتمع المدني هي أمور أساسية لبناء تدابير فعّالة ومستدامة للقدرة على الصمود. ومع ذلك، وكما كشف المؤشر، فقد انحرفت الاستجابات للجريمة المنظمة بشدة نحو الآليات المؤسسية في العامين الماضيين، في حين فشلت في معالجة نقاط الضعف الاجتماعية والهيكلية التي تسمح للجريمة بالتجذر. وعلى الرغم من وجود أُطُر دولية سليمة، وهو ما تشير إليه الزيادة الملحوظة في مؤشر “التعاون الدولي”؛ فإن المشاركة مع المجتمع المدني غير متوفرة بشكل مثير للقلق، كما يتضح من تراجع مؤشر “الجهات الفاعلة غير الحكومية”. وهذا يُوضّح ميل بعض الأنظمة إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد المعارضة والحريات الإعلامية. تعمل القيود والرقابة على إسكات صوت الجهات الفاعلة غير الحكومية، وإضعاف قوتها كوكلاء للرقابة وحرية التعبير، وكمدافعين عن الديمقراطية. والنتيجة هي تقويض القدرة على الصمود وزيادة الضعف. إن الحاجة إلى التعاون الفعّال بين مؤسسات الدولة ومع النظراء من غير الدول أمر ضروري للحكم الرشيد، ومن أجل تكييف الالتزامات الدولية مع السياقات المحلية مع تنفيذ أُطُر صمود هادفة قادرة على تحمل تأثير الجريمة المنظمة.
ونظرًا لهذه التحديات، فمن الأهمية بمكان أن توجه السلطات الوطنية والكيانات الدولية أنظارها نحو بناء القدرات من خلال الترويج لنهج شامل حقًّا في التصدي للجريمة المنظمة. ورغم أن بعض الضغوطات العالمية تقع خارج نطاق سيطرة الحكومات، ولا يمكن علاج العالم الممزّق بسهولة؛ فإنها تستطيع على الأقل تشكيل الطريقة التي يتم بها حساب المخاطر والتأكد من تخفيف التهديدات الملموسة على النحو المناسب. ويجب إنشاء جميع آليات الصمود والتدابير الوقائية اللازمة من أجل توفير أفضل استجابة ممكنة للجريمة المنظمة.
إن الحكم الرشيد، الذي يتسم بالشفافية والمشاركة والمساءلة، يُرسي الأساس الذي يتم عليه بناء القدرة على الصمود. لكنّ مشاركة جميع أصحاب المصلحة، سواء من الدول أو من غير الدول، في المناقشة حول التهديدات الناشئة عن الجريمة المنظمة أمر أساسي إذا أردنا في نهاية المطاف تعديل المسار وتعزيز الجهود العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة ومعالجة هذه الظاهرة إلى أقصى حدّ ممكن.
………………………………………………………………….
[1] ) Global Initiative Against Transnational Organized Crime, the Global Organized Crime Index 2023 (Geneva: Global Initiative Against Transnational Organized Crime,2023).
[2] ) https://ocindex.net/report/2023/02-about-the-index.html
[3] ) مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، التقرير العالمي عن الاتجار بالأشخاص 2022م، يناير 2023م. على الموقع:
https://www.unodc.org/documents/data-and-analogy/glotip/2022/GLOTiP_2022_web.pdf.
[4]) Republic of Türkiye, Ministry of Customs and Trade, Drug seizures by type, https://ticaret.gov.tr/data/5d76399213b8768ba06eaf49/Turlerine%20Gore%20Uyusturucu %20Madde%20Yakalamalari..pdf
[5]) Nick Redfearn, Cross-border trade in counterfeit goods, Rouse, 14 February 2023, https://rouse.com/insights/news/2021/cross-border-trade-in-counterfeit-goods.
[6]) https://www.europol.europa.eu/cms/sites/default/files/documents/
counterfeitproducts.pdf.
[7]) Jason Burke, Gangs of cybercriminals are expanding across Africa, investigators say, The Guardian, 27 November 2022, https://www.theguardian.com/
technology/2022/nov/27/gangs-of-cybercriminals-are-expanding-across-africa-investigators-say
[8]) ENACT، التدفقات غير المشروعة للمتفجرات في وسط إفريقيا، مارس 2023م، https://enactafrica.org
[9] ) Julia Stanyard, Thierry Vircoulon and Julian Rademeyer, The grey zone: Russia’s military, mercenary and criminal engagement in Africa, GI-TOC, February 2023, https://globalinitiative.net/analysis/russia-in-africa
[10] ) https://enactafrica.org/research/research-papers/measuring-the- treatment-the-untoc-in-africa
[11] ) Olwethu Majola and Darren Brookbanks, Measuring the treatment: The UNTOC in Africa, ENACT, June 2023, https://enactafrica.org/research/research-papers/measuring-the-treatment-the-untoc-in-africa.
[12] ) https://globalinitiative.net/analogy/cocaine-east-southern-africa/