لم تكن استقالة رئيس وزراء مدغشقر من منصبه يوم الاثنين الماضي, سوى جزء من حلقات متواصلة للأزمة السياسية التي تشهدها البلاد قبيل الانتخابات العامة المتوقع إجراؤها في نوفمبر القادم. إذ نظَّمت المعارضة بالبلاد مظاهرة في 21 أبريل الماضي، استنكارًا لبعض القوانين الانتخابية الجديدة المقترحة. غير أنهم قُوبِلُوا بردٍّ عنيفٍ مِن قِبَل الشرطة في العاصمة أنتاناناريفو، مما أسفَر عن مقتل شخصين وإصابة آخرين.
وقد برَّر الرئيس “هيري راجاوناريمامبيانا” تعامل الشرطة مع المتظاهرين بادعاء أن هذه المظاهرات كانت محاولة انقلابية. بينما استغلت المعارضة هذه الحادثة لتضيف مطلبًا آخر في قائمة مطالبها، داعِيةً الرئيس إلى الاستقالة، وإجراء الانتخابات في وقت مبكر. بل وتحوَّل نزاع بسيط حول تفاصيل الانتخابات – في غضون أيام فقط – إلى أزمة سياسية متفاقمة جارية.
خلفية الأزمة:
في شهر مايو الماضي، وافق الرئيس “هيري راجاوناريمباميانا” على قانون الانتخابات الذي بموجبه سيتمكّن كلّ من؛ “مارك رافالومانانا” – مرشَّح المعارضة الرئيسي ورئيس البلاد من عام 2002م حتى وقت عزله في انقلاب عام 2009م؛ و “أندري راجولينا” – قائد الانقلاب الذي تولى المنصب الرئاسي حتى عام 2013م، من الترشُّح للرئاسة.
لكن نسخة سابقة من هذا القانون المثير للجدل (قبل تعديله) هي التي أشعلت الاحتجاجات في شهر أبريل الماضي؛ حيث كانت هذه النسخة تُقَرِّر أنَّ بعض مرشحي المعارضة غير مؤهَّلين للترشح للانتخابات القادمة – بمن فيهم الرئيسان السابقان “رافالومانانا” و ” راجولينا”.
وإذ قاطعت المعارضة التصويت النهائي على هذه القوانين الجديدة، فقد وافق عليها البرلمان في 3 أبريل. وزعمت مجموعة متكونة من 73 مشرعًا – تطلق على نفسها “نواب من أجل التغيير” – أن الحكومة استخدمت الرشاوى وحوافز أخرى للفوز بالموافقة على القوانين, إضافةً إلى مزاعم عن مخالفات أخرى.
وسرعان ما أخذت الاحتجاجات على هذه القوانين منعطفًا جديدًا، يغذِّيها السَّخَط الشعبي مع الفساد المستشري، والمستوى المعيشي وغير ذلك من الأمور المُحْبِطَة التى سجَّلتها هذه الجزيرة الكبيرة منذ وصول الرئيس “راجاوناريمبامينا” إلى سُدَّة الحكم.
وقد أرسل كل من الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والمجموعة الإنمائية للجنوب الإفريقي (SADC)، منذ ذلك الحين وسطاء لبحث حلول للأزمة, غير أن جهودهم تكللت بالفشل ولم تثمر شيئًا.
بل أعرب الاتحاد الإفريقي -في بيان صدر منتصف مايو الماضي- عن استيائه من تعنُّت الأحزاب المتنافسة في البلاد، متَّهِمًا هذه الأحزاب بـ “تقديم مصالحها أمام مصالح البلاد، وفي خطر تفاقم الأزمة وتعريض تنظيم الانتخابات للخطر”.
تدخل المؤسسات الدستورية:
في يوم الثالث من مايو الماضي، رفضت المحكمة الدستورية العليا في مدغشقر عددًا من البنود في القوانين الجديدة باعتبارها غير دستورية – بما فيها تلك الأحكام التي من شأنها أن تمنع زعماء المعارضة من الترشُّح وخوض سباق الانتخابات.
ووفقًا للصحافية المقيمة في مدغشقر, اميلي فيلو, فإنه ينبغي أن تكون الخطوة التالية؛ قيام السلطة التنفيذية بإعادة هذه القوانين إلى البرلمان لمراجعتها. ولكن بدلاً من ذلك، قام الرئيس من جانب واحد (من جانبه فقط) بتعديل هذه القوانين ونشرها في 11 مايو – وهذا يخالف قانون مدغشقر.
وفي حين تسمح هذه النسخة المعدَّلة من القوانين الجديدة لـ”رافالومانانا” و “راجولينا” بخوض الانتخابات. إلا أنها من الناحية النظرية لا تزال تحتوي على أحكام أخرى – فيما يتعلق بقضايا مثل: تمويل الحملات الانتخابية، وتنظيم الانتخابات، والتغطية الإعلامية – والتي تثير شكوك المعارضة وانتقادات من المجتمع المدني.
“هذه القوانين الانتخابية غير دستورية وقاصرة”؛ هكذا صرَّحت هانترا رازافيمانانتسوا, المتحدث باسم النواب من أجل التغيير. “لن يسمحوا لنا بالانتقال إلى انتخابات موثوقة وعادلة وشاملة”.
جدير بالذكر أنه مع تصاعد هذه الأزمة, قدَّمت المعارضة طلبًا أمام المحكمة الدستورية بعزل الرئيس راجاوناريمبامبينا, وذلك استنادًا إلى حقيقة أن الرئيس لم يُعَيِّن محكمة العدل العليا في غضون 12 شهرًا من انتخابه.. والرئيس بدوره قدَّم أيضًا التماسًا في 18 مايو مدافعًا عن نفسه.
ومن المرجَّح أن تتجاهل المحكمة هذا الطلب؛ إذ سبق وأن ألْغَتْ التماسًا مماثلاً في عام 2015م. وهذا الرفض من المحكمة سيترك للمعارضة خيارات التفاوض مع الحكومة أو اللجوء إلى إجراءات أكثر قوة.
بيان المؤسسات العسكرية:
أما وزير الدفاع الملغاشي, بيني كزافييه راسولوفونيرينا, فقد ناشد كل الأطراف المتنازعة ضرورة التوصل إلى اتفاق، حيث قال: “ندعو -نحن مسؤولي تطبيق القانون- بصوت عالٍ وواضح قادة الأحزاب السياسية المنخرطة في الأزمة الحالية ليكونوا ذوي مسؤولية وليتوصلوا إلى حل في أقرب وقت ممكن”.
وأضاف وزير الدفاع الذي قرأ تصريحاته من بيانٍ وقَّعه رؤساء الجيش والشرطة: “نناشد جميع المواطنين دون استثناء بألا يكونوا عُرْضَة للتلاعب السياسي.. كفى ما أُرِيقَ من دماء، وخسارة للأرواح البشرية، ولا تجعلوا الأنانية والجشع أسبابًا للتضحية بمواطنينا”.
حكم قضائي بتعيين رئيس وزراء جديد:
وفي حكم قضائي صدر يوم الجمعة الماضي (الموافق 1 يونيو), أمرت المحكمة الدستورية بتعيين رئيس وزراء جديد بحلول 12 يونيو. و”يجب مغادرة رئيس الوزراء والحكومة الحالية المكتب بحلول 5 يونيو عام 2018م على أبعد تقدير”؛ كما أمرت رئيس البلاد بتشكيل حكومة وحدة وطنية، و”تعيين رئيس وزراء متفق عليه” مِن قِبَل الجميع.
وهذا الحكم القضائي قد أثار جدلاً واسعًا في البلاد, مما جعل كل الأطراف يفسِّرها على حسب فهمها الخاص ووجهة نظرها. وتسبَّبت المحكمة بمزيد من الارتباك عندما أعطت الحكومة والمعارضة مهلة 10 أيام للتوسط في خلافاتهما؛ الأمر الذي دفَع رئيس البلاد إلى طلب التوضيحات من المحكمة.
استقالة رئيس الوزراء والانتخابات الرئاسية المقبلة:
وامتثالاً لحُكْم المحكمة, أعلن رئيس وزراء مدغشقر, أوليفييه مهافالي, استقالته من منصبه أمس الاثنين (الموافق 4 يونيو), وذلك ليمهِّد الطريق أمام تشكيل حكومة جديدة متفَق عليها مِن قِبَل الأطراف السياسية.
“أقبل هذا القرار دون قيد أو شرط؛ لأني لا أرغب في إعاقة الحلّ”؛ هكذا صرح مهافالي للصحفيين في مكتبه, مضيفًا “أُسَلِّم استقالتي دون قيود أو ندم”.
وإذ كان من المقرر إجراء الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في 28 نوفمبر، إلا أن اللجنة الانتخابية تقول: إنه يمكن تنظيم الانتخابات في موعد أقصاه 29 أغسطس. وفي حال تعثّر التخطيط ولم تبدأ العملية الانتخابية قبل بداية موسم الأمطار في ديسمبر، فقد يُؤخَّر موعد الانتخابات إلى مايو 2019م.
صحيحٌ أن المعارضة والحكومة لا تُبْدِيان استعدادهما الكامل للتنازل عن بعض ما يرونه “مبادئ” و”حقوقًا”, ولكنه من الواضح أن لتدخل المؤسسات الدستورية، وتحذير جنرالات الجيش مفعولهما في إخضاع كل الأطراف للعودة إلى طاولة الحوار – بعد فشل مساعي المنظمات الإقليمية والمجتمع الدولي.
ولعلّ هذا ما تعنيه “رازافيمانانتسوا”, المتحدثة باسم البرلمانيين من أجل التغيير، بقولها: إن الملغاشيين يريدون حل مشاكلهم بأنفسهم، “لم نعد نريد حلولاً يفرضها المجتمع الدولي”.