في 9 يوليه المقبل سيكون قد مر علي استقلال دولة جنوب السودان ثلاث سنوات كاملة ، ولو قدر لك أن تذهب إلي دولة الجنوب الجديدة وتتجول في عاصمتها جوبا ، فسوف تفاجئ إن الإسلام في هذه الدولة الوليدة قديم قدم السودان نفسه ، وستجد في البيت الواحد والأسرة الواحدة من هو مسلم ومن هو مسيحي ومن هو لا ديني (مشرك) .
ولو جلست علي المقاهي تسأل عن المسلمين ، فستفاجئ بأن أحد أبناء رئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت ويدعى “جون” اعتنق الإسلام في الخرطوم وسط تهليلات وتكبيرات عمت أرجاء المسجد الكبير بالخرطوم قبل تنصيب والده رئيسا للدولة الوليدة بيوم واحد ، وأنه أن غير اسمه إلى محمد وكان أول شيء قاله هو : «لقد أسلمت لأني أريد الجنة، وسأذهب إلى الجنوب وأعمل على نشر الإسلام هناك مع إخوتي المسلمين»، بل ودعا والده سلفاكير أيضا إلى الإسلام .
ستفاجئ أيضا بأن هناك أخت غير شقيقة للرئيس سلفاكير – تدعى “دار السلام” – مسلمة ، وقد احتفلت بزفافها إلى أحد أعيان قبيلة البطاحين في شمال السودان وهي قبيلة عربية خالصة.
ومع هذا فلو ذهبت تبحث عن مساجد المسلمين أو المدارس أو المؤسسات والأوقاف الإسلامية فلن تجد إلا القليل ، لأن الحكومة ترفض تخصيص أراضي للمسلمين لإقامة مباني وخدمات عليها بدعاوي أن الدولة علمانية وفق الدستور ، ولكن بالمقابل ستجد كنائس من كل لون لإتباع الكنائس المختلفة منتشرة هناك ، ووعاظها يسيرون أحيانا في الشوارع بالميكروفونات يدعون الجنوبيين للصلاة في الكنائس أو لتجنب أمراض مثل الايدز وغيرها .
نهب أوقاف المسلمين
فالمبني الذي بنته وجهزته وشغلته وصانته هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية في جدة ليصبح احد الأوقاف الإسلامية ، نزعه المسئولون الجنوبيون وأطلقوا عليه اسم (مدرسة جون قرنق) للاحتماء باسمه في نهب الأوقاف الإسلامية ، ومسئولي (المجلس الإسلامي لجنوب السودان) – وهو الجهة الوحيدة المعترف بها بواسطة حكومة جنوب السودان كممثل للمسلمين هناك – يؤكدون أن قادة الدولة الجنوبية يعرفون ذلك تماما ولكن يغضون الطرف عنها ويكتفون بالقول أنهم يحاولون إقناع مسئولي المدرسة بأنها من أوقاف المسلمين !.
أيضا الجامعة الإسلامية التي كانت هناك أغلقت ، وجامعة القرآن الكريم التي كانت في مدينة ملكال وفي العاصمة جوبا وفي مدينة واو أغلقت كلها ، والمسلمون الجنوبيون لا يستطيعون حتى ترميم مساجدهم المتهالكة فضلا عن إنشاء مساجد ومدارس جديدة.
لا محاكم أحوال شخصية
لا يوجد أيضا في الجنوب محاكم خاصة بالأحوال الشخصية لمسلمي جنوب السودان ، وهي من أكبر المشاكل التي تواجه المسلمين لأن القوانين المعمول بها لا توضح حقوق المسلمين في دستور الدولة مثل قانون الأحوال الشخصية، ما يعني أنه لا توجد محاكم شرعية في البلاد للفصل في قضايا الزواج والطلاق والميراث وتنظيم الأوقاف كتلك التي توجد في دول أفريقية مجاورة مثل كينيا وأوغندا وتنزانيا وغيرها من الدول الأفريقية التي فطنت لهذا الأمر فقامت بتأسيس محاكم خاصة بها .
أيضا ترفض الحكومة مطلب المسلمين اعتبار اللغة العربية هي الثانية في الدولة رغم أنه يتحدث بها أغلب سكان الجنوب، ولكن اللجنة الدستورية رفضت هذا الطلب أيضا .
التهميش السياسي
الأكثر غرابة أنك لو استرضت أسماء المسئولين في دولة الجنوب وأسماء نواب البرلمان فلن تجد مسئول أو وزير واحد من المسلمين رغم أن أخ تعداد دولي يشير لأن عدد المسلمين 35% من السكان مقابل 30% مسيحيين و35% وثنين لا يعبدون الله .
فرغم من أن الدستور الحالي لدولة جنوب السودان لا يميز على أساس ديني أو عرقي، لأنه دستور علماني يفترض انه يمنح الجميع حقوق المواطنة وحرية العقيدة دون تمييز ، إلا أن الواقع يشير لأن المسلمين هناك يعانون من تهميش سياسي ولا يوجد أي مسئول مسلم في الحكومة ، ورئيس جنوب السودان ونائبه ورئيس البرلمان والوزراء جميعهم من المسيحيين ولا يوجد تمثيل للمسلمين،ولهذا يطالب المسلمون حكومة جنوب السودان بإشراك المسلمين في السلطة وإدارة الدولة وعدم هضم حقوقهم السياسية .
ومع أن المجلس الإسلامي لجنوب السودان هو الجهة الوحيدة المعترف بها بواسطة حكومة جنوب السودان في القيام بكل ما يخص شأن مسلمي الجنوب والمظلة الشرعية الوحيدة لجميع مسلمي الجنوب والممثل الوحيد لمسلمي الجنوب أمام جميع أجهزة الحكومة بجنوب السودان وخارجه والجهة الوحيدة المخولة للحديث باسم مسلمي الجنوب، إلا أن هذا المجلس يعاني من ضعف شديد ، بحسب المسلمين هناك ، الذين يعزون هذا إلي خلافات معلنة وغير معلنة بين قياداته .
إذ ينقسم مسلمو جنوب السودان إلى حركات (صوفية وسلفية وأخرى حركية ذات صلة بإسلاميي السودان عموماً)، وقد تدرجت مواقف المسلمين في جنوب السودان تجاه الانفصال: من رفضه في ظل المخاطر المحتملة، إلى الحياد والوقوف موقف المتفرج، والانكفاء إلى الداخل ولملمة الصف المسلم؛ لتحقيق مصالح الحفاظ على حريتهم الدينية، والإشراف على الأوقاف والهيئات الإسلامية بالجنوب كل ذلك نتيجة التجاهل الذي تعرضوا له خلال معالجة قضية الجنوب، وتحييدهم عن التفاوض .
أغلبية بلا نفوذ
الاكثر غرابة أن نسبة المسلمين في آخر إحصاء رسمي، تم إجراؤه منتصف الثلاثينيات في جنوب السودان على يد مجلس الكنائس العالمي برعاية الاحتلال البريطاني بلغت 18في المئة، أما المسيحيون فبلغت نسبتهم 17 في المئة، واحتل الوثنيون 65 في المئة وهو نفسه التقرير الذي اعتمدت عليه الهيئات الدولية في تقريرها الرسمي عن توزيع السكان في الجنوب، بحسب العقيدة .
ولكن الخريطة الدينية الآن – وفقا لدراسات غربية أخري – تظهر أن نسبة المسلمين قفزت إلى 35في المئة، ويساويها نسبة الوثنيين 35 في المئة ويليهم المسيحيون بنسبة 30 في المئة، وهي الإحصائيات التي أقلقت الكنائس الغربية .
مستقبل المسلمين في الجنوب
كانت أغلب التوصيات الختامية للمؤتمرات التي عقدها مسلمو الجنوب قبل الانفصال تؤكد تطلعهم إلي الحريات والحقوق المقررة في دستور جنوب السودان الذي نصت عليه اتفاقية نيفاشا ثم اتفاقية السلام ، ورغبتهم في المشاركة في فعاليات الأجهزة الجنوبية المختلفة المهشمين فيها ، ومطالبتهم بإعادة حكومة الجنوب لمؤسساتهم الإسلامية ، وتعيين الكوادر الجنوبية المسلمة كمناديب للجنوب في العديد من المشاريع ومنها منسقية الحج بجدة والمدينة .
ولكن المشكلة أنه حتى الآن لا تزال الأمور معطلة وليس هناك تحرك جدي من حكومة الجنوب لطمأنة المسلمين في الجنوب علي مستقبلهم وتلبية مطالبهم ، والمستقبل الوحيد المضمون هو قدرتهم علي التغلغل داخل المجتمع الجنوبي وانتزاع حقوقهم بأنفسهم وفتح الطريق أمامهم للعمل بحرية ودون عوائق بعدما كانت مؤسساتهم تتعرض للنهب والاعتداء عليها من قبل متطرفي الحركة الشعبية أو جماعات جنوبية أخري مسيحية متطرفة .
فقد عاني مسلمو الجنوب كثيرًا لأكثر من سبب خصوصا في ظل انقطاع أي عون إسلامي حقيقي لهم سواء من الحكومة السودانية لعدم سيطرتها علي الأرض ، أو المنظمات الإسلامية ودول الخليج التي لا تنشط كثيرا هناك ،وبالمقابل يواجهون حملات تبشير وتنصير شرسة ودورات من الاضطهاد الديني والسياسي لهم، ولكنهم استطاعوا – رغم ذلك – الحفاظ على كيانهم وشخصيتهم المسلمة.
وجزء كبير من معاناة هؤلاء المسلمين يرجع للحرب المخططة والمنظمة من بعض الجهات الكنسية الغربية ضدهم فضلا عن تكاسل مسلمي الشمال والمنظمات الإسلامية عن مشاكلهم.
والآن بعد استقلال الجنوب وخلق أمر واقع جديد ، فمن الطبيعي أن يكون هناك نشاط أكبر ومحاولات أعمق لتوحيد صفوف المسلمين وانخراطهم أكثر في الحياة السياسية ، والسعي للاعتماد علي الذات قبل أن يكونوا ضحايا انفصال الجنوب .
ولكن تبقي مشاكل المسلمين الاولي هي نقص الأموال التي يطالبون دول الخليج وأثرياء العالم الإسلامي بتفويرها لشراء أراضي تقام عليها أوقاف ومدارس إسلامية ، ثم السعي لإنشاء محاكم إسلامية للأحوال الشخصية بالاتفاق مع الحكومة أو بالضغط عليها ، فضلا عن جعل اللغة العربية هي اللغة الثانية في البلاد ، أما أهم مطلب علي الإطلاق فهو المطالبة بالمشاركة في السلطة ومؤسسات الدولة باعتبارهم أغلبية أو شركاء في الوطن علي الأقل .