قبل الانغماس في موضوع بحثنا، علينا أن نتذكر أن تشكُّل المجتمع الصومالي تأثر بثلاثة عوامل رئيسة؛ العامل الأول: هو الإسلام؛ الذي دخل القرن الإفريقي في السنوات الأولى للدعوة الإسلامية، وانتشر تدريجيًّا بين سكانه من الشمال إلى الجنوب. كان تأثير الإسلام على الناس هائلًا؛ لأنه غيَّر جوانب حياتهم المختلفة مثل هوية المجتمع وتنظيمه الاجتماعي، وكذلك نظام حكمهم وإنتاجهم الأدبي وثقافتهم اليومية.
العامل الثاني: كان الاستعمار الأوروبي؛ الذي سيطر على مناطق مختلفة من الصومال أثناء ضعف الصومال وتشرذمها من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر إلى كيانات عشائرية وصعود الدول الأوروبية التي كانت تسعى للهيمنة في العالم المكتشف والبحث عن الأسواق الخارجية لمصانعه المختلفة.
لقد جلب الاستعمار الأوروبي معه نظام حُكم أوروبي، وقوانين علمانية، وأدوات وتقنيات متنوعة، ونمط حياة جديدة، ونظرية التحديث القائمة على تقليص دور التقاليد المحلية، وإعادة تشكيل الشعوب المستعمَرة في طريقة التفكير الأوروبية.
العامل الثالث: هو ظهور القومية الصومالية كمؤسسة يُمثلها نادي الشباب الصومالي في عام 1943م، وطالب القوميون الصوماليون، كغيرهم من القوميين في الدول الأخرى، بإقامة دولة صومالية مستقلة تكون جزءًا من النظام الدولي القائم على نظام الدول القومية والقُطرية. ونتيجة لذلك، تم إنشاء الدولة الصومالية في عام 1960م، مع توحيد محمية أرض الصومال البريطانية في الشمال والصومال تحت وصاية الأمم المتحدة التي كانت تديرها إيطاليا منذ عام 1950م في الجنوب.
الدولة الصومالية التي تأسست عام 1960م، انهارت عام 1991م؛ بسبب الحرب الأهلية، وانقسام الصوماليين إلى قبائل تحت قيادة أمراء الحرب. واستمرت حالة الفوضى والحرب الأهلية والمصالحات الفاشلة، حتى تمت استعادة الدولة الصومالية في مؤتمر جيبوتي للسلام والمصالحة في عام 2000م، ومنذ ذلك الحين، ناضل الصومال من أجل استعادة مؤسسات الدولة، وتحقيق المصالحة من خلال أساليب مختلفة في مواجهة تحديات هائلة.
الخلفية التاريخية الموجزة:
على الرغم من أن العِرْق الصومالي قد استقر في القرن الإفريقي منذ أكثر من 7000 عام، كما تُظهر الدراسات الأثرية؛ إلا أنه لم يُكتَب سوى القليل عن تاريخه القديم. ويبدو للباحثين الجُدُد، وكأنَّه لم يكن هناك صوماليُّون أصليُّون في هذه المنطقة قبل التَّوغُّل الاستعماريّ في الأراضي الصُّوماليَّة، ولا يوجد تاريخٌ يستحقّ الحديث عنه.([1]) إلَّا أنّ هذا يتناقض مع الأدلَّة التي تدلّ على وجود حضارات وإمبراطوريَّات قديمة في آسيا وفي الشَّرق الأوسط، كانتْ تربط العرق الصومالي بعلاقات متشعِّبة شكَّلت المصالح التِّجاريَّة محورَها الأساسيّ.
وفيما يتعلق بعلاقة الصوماليين بشبه الجزيرة العربية؛ فإنها تعود إلى العصور القديمة، لكنها تنامت مع ظهور الإسلام عام 610م. وكان من نتيجة الصراعات السّياسيّة والاختلافات الأيديولوجية والكوارث البيئيّة التي حاقتْ بالجّزيرة العربيّة؛ أنْ شهد القرن الإفريقي تدفُّق موجات متتابعة من المهاجرين المسلمين الذين نشدوا الأمان وسعَوا وراء اقتناص الفُرص الاقتصاديَّة المتاحة، إلى جانب نشر الدَّعوة إلى الإسّلام. ويتفق معظم المؤرِّخين على أنّ الإسلام وصل إلى الصومال عن طريق التِّجارة والهجرة في القرن الأول من التّقويم الهجريّ (700-800م).([2])
وقد أسفر هذا عن تأسيس العديد من المدن السَّاحلية في إقليم بنادر؛ مثل: مقديشو ومركه وبراوي وورشيخ في جنوب الصومال، ومدن أخرى في الجزء الشمالي من الصومال. كما شهدت فترة ما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر الميلاديَّيْنِ (القرنين الخامس والسابع الهجري) دخول الصّوماليين في دين الإسلام أفواجًا. ومع اعتناق الصُّومالييّن الإسلام، طرأ تغيُّر كبير على نمط حياة الصُّومالييّن بعد ذلك.

ويمكن القول: إنّ الإسلام أعاد تشكيل الصُّوماليين، وأثَّر على جميع مؤسَّساتهم الاجتماعيّة وعلاقاتهم فيما بينهم ومع الأعراق الأخرى في القرن الإفريقي. ونتيجةً لذلك، شهد القرن الإفريقي نشوء بعض الدُّول والمدن في أنحاء شتَّى منه، ففي المناطق الشَّماليَّة كانت مدينتَا زَيلع وبَربرة مرتبطة بإمبراطورية الحبشة بطرق مختلفة بما في ذلك التجارة وبمدينة هرر التّاريخيّة. وتشتهر زَيلَع باعتبارها عاصمة سلطنة إيفَات، وبعد انهيارها عام 1415م تلتها سلطنة عدل، وهي دولةٌ مسلمةٌ متعدِّدة الأعراق يسكُنها الصّوماليّون، واحتوت على شعوب الأورومو والعفر والهرريين وغيرهم من المسلمين في المنطقة. وقد دخلت هذه الدَّولة في حروب كرّ وفر مع الشعوب المسيحية التي انضوت تحت إمبراطورية الحبشة المسيحية.([3]) واشتهرت هذه الدَّولة بسبب قائدِها الأسطوريّ الإمام أحمد إبراهيم (غوري) الَّذي استولى على معظم هضبة الحبشة والتي لم ينقذها منه إلا تدخُّل البرتغال العسكريّ.([4])

من ناحية أخرى، تأثّر الجزء الجنوبي من الصّومال بالمهاجرين الأوائل من العرب والفرس وبالسلطنة العمانيّة لاحقًا، ومن خلاله قامت الأواصر مع الحضارة السواحيليّة الخليطة في الشَّرق الإفريقي. ومنذ أواخر القرن الخامس عشر وحتى أواسط القرن السابع عشر، قامت الدَّولة المركزيّة الأولى ذات الأصل العرقيّ الصُّوماليّ، فيما يُعرف اليوم بالصّومال الجنوبيّ، على يد إمارة أجوران، وهو ما أطلق عليه البروفيسور كاسانيلي “القوّة الرَّعويّة”.([5])
ولعبت ولاية أوجوران ثلاثة أدوار مهمة؛ دافعت عن الصومال ضد الغزو البرتغالي من البحر، وتصدت لغزو الأورمو من الداخل، المعروف باسم “جالو مادو”. كما نشرت الإسلام في القرن الإفريقي. وبعد تفكُّك هذه الدَّولة، بقي الصّومال الجنوبيّ خاضعًا لسلاطين محلِّيين عدّة إلى أنْ وصلت الأسرة العُمانيّة في القرن السابع عشر. فقد تدهور الوضع الاقتصاديّ لمقديشو في القرن السابع عشر نتيجة الحصار البحريّ البرتغاليّ المُطبق والطّويل، والذي ترافق بغارات شنّها البدو في العُمق الدَّاخليّ. وقد استمرّ حكم العمانيين حتّى أعلنتْ إيطاليا عن وجودها هناك في عام 1889م.
الإسلام في المجتمع الصومالي:
تتكون ملامح الإسلام في الصومال من ثلاثة مكونات: العقيدة الأشعريَّة، الفقه الشافعي، والتصُّوف، سنقدم دراسة هذه المكونات وصفًا موجزًا للعقيدة الأشعريَّة والتصوف، بينما ستعطي استكشافًا أكثر تفصيلًا لفقه الشافعي. قامت العقيدة الأشعريَّة على يد أبي الحَسن الأشعريّ (873-935م)؛ ردًّا على العقلانيَّة الَّتي عمل وَفْقَها المعتزلة([6])، ومع تطويرها لآليَّات دفاعها، سلكت الأشعريَّة مسلك تأويل النص، ويعني التَّعرُّض لمعنى بعض صفات الله بالبيان (دون إفراط أوْ تفريط).
وموقف الأشعريَّة يقول بإثبات كلّ ما أقرَّه الله -عزّ وجلّ- منْ صفات لنفسِه، وإنكار ما أنكرَه الله على نفسِه، مع نفي أيّ تشابُه بين صفات الخالق والمخلوق. وقدْ أكَّد القرآن هذا المفهوم بوضوح في سورة الشُّورى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11). وعمدت الأشعريَّة إلى تفسير بعض الصِّفات الإلهيَّة بشكل مجازيّ تبدو للعامَّة مماثلةً للصِّفات البشريَّة، مثل “وجهِهِ”، “يدِهِ”، صفة “النَّظر”، وصفة “السمع”. ومن بين جميع مدارس الفقه الأربعة، كان هناك علماء بارزون من الأشاعرة. ومنْ أبرز العلماء الأشاعرة الذين ينتمون إلى المذهب الشَّافعيّ: أبو الحسن البهِيلي، وأبو بكر الباقلاني، وأبو المعالي الجويني، والفخر الرازي، وأبو حامد الغزالي، والبيهقي، والخطيب البغدادي، والقشيري، وأبو إسحاق الشيرازي.([7])
وأما التصوف؛ فقد ظهر في الصومال منذ أوائل القرن الخامس عشر مع وصول 44 عالمًا إسلاميًّا على يد الشيخ إبراهيم أبو زربي عام 1430م.([8]) وفي القرن التاسع عشر، كان العالم الإسلامي يشهد إصلاحًا وإحياء للدعوة الإسلامية المرتبطة بظهور حركات إحياء جديدة وإعادة توجيه ونهضة الطرق الصوفية. ومع ذلك، فقد لُوحِظَ تجديد وإصلاح الطرق الصوفية في الصومال كحركة مُنظَّمة منذ منتصف القرن التاسع عشر. استلزم إصلاح الصوفية التحوُّل من الأنشطة الإسلامية الفردية إلى الأنظمة المؤسسية. فقد اتخذت الطرق الصوفية مقاربات سلمية بشكل أساسي للإصلاح الاجتماعي والديني من خلال التشجيع على العودة للإسلام والدعوة إلى التمسك بروحه السلمية ورسالته الحضارية.
سيطرت الحركات الصوفية على الحياة الدينية بشكلها العام، ووصلوا إلى السكان في المناطق الحضرية والريفية على حد سواء، والذين كان معظمهم قد تماثلوا مع إحدى الطرق الصوفية بحلول القرن التاسع عشر. إلى جانب دورهم التكميلي في إدارة شؤون المجتمع، وأنشأ علماء الصوفية مراكز إسلامية لم يُوالِ أهلها سوى مشايخهم الصوفيين. وأصبح العديد من قادة الطرق الصوفية وتلاميذهم القادة الأعلى لمجتمعاتهم، وذلك على عكس التأريخ التقليدي الذي يعتبر الطرق الصوفية غير سياسية بشكل أساسي.([9]) وبهذه الطريقة، تضاءلت الولاءات العشائرية، وتحولت في بعض الأحيان إلى ولاءات أيديولوجية.
هناك نوعان من الطرق الصوفية الرئيسية في الصومال: القادرية والأحمدية، ولكل منهما فروعها المحلية. على سبيل المثال، لدى القادرية فرعين: الزيلعية والأويسية. وتأسست الأولى على يد الشيخ عبد الرحمن الزيلعي (1815-1882م)، ومقرها في قلنقل بالقرب من ظججبور في الصومال الإثيوبي. كما أن الأخيرة أسسها الشيخ أويس بن أحمد البراوي (1846-1907م)، ويقع مقرها في بلد الأمين بالقرب من أفغويي، على بعد 40 كم جنوب مقديشو. وللأحمدية ثلاثة فروع في الصومال: الرحمانية، الصالحية، والدندراوية. تأسست الرحمانية على يد مولانا عبد الرحمن بن محمود (1874م). والصالحية لها فرعان: الفرع الجنوبي قدّمه الشيخ محمد جوليد الرشيدي (توفي 1918م)، والفرع الشمالي للسيد محمد عبد الله حسن (1856-1920م). تم تقديم الدندراوية مِن قِبَل سيد آدم أحمد، وكان لها أتباع محدودون في شمال الصومال.([10])
وتترسخ هذه التيارات الثَّلاثة من خلال مؤسسات تقليديَّة تعمل للدعوة إلى الإسلام، وتشمل تلك المؤسسات مؤسسات تعليمية ومراكز تجمعية وتوعوية؛ حيث يتمّ تمتين العلاقة بين الشَّيخ ومُريديه من جهة، وتقوية العلاقة بين الصفوف المختلفة للمريدين فيما بينهم من جهة أخرى.([11])
وتُمثِّل هذه العلاقة البينية الرَّكيزة الأساسيَّة للصُّوفيَّة، والَّتي تُراعي الواجبات الاجتماعيَّة المتنوِّعة. وأهمّ هذه الواجبات هي: الاحتفال بذكرى المولد النَّبويّ، ومساعدة الفقراء، وتوزيع الصَّدقات (على أرواح الأموات)، والإجلال (إجلال العلماء الأكابر وزيارة أضرحة الموتى منهم).
الفقه الشافعي وانتشاره في الصومال:
يُعتبر المذهب الشَّافعيّ في الفقه أحد المذاهب السُّنِّيَّة الرَّئيسة الأربعة، وله أصولُه ومنهجيته الخاصة، ويرجع أصله إلى الاجتهادات الفقهية لأبي عبد الله محمَّد بن إدريس الشَّافعيّ -رحمه الله- (767-820م)، الَّذي تتلمذ على يدي الإمام مالك بن أنس (711-795م)، مُؤسِّس المذهب المالكيّ.([12])
ويشتهر الشَّافعيّ بـأنَّه أوَّل مَنْ وضَع قواعد عِلْم أصول الفقه في كتابه الشَّهير “الرسالة”؛ الَّذي أودَعَه المصادر الأساسية لعلم أصول الفقه، وهي: القرآن والسنُّة والقياس والإجماع، وبتنظيمِه للشِّريعة، طرح الشَّافعيّ إطارًا لاستنباط الأحكام الفقهيَّة الَّتي تسمح الأدلة الشَّرعيَّة باستنباطها. وقدْ بقيت المذاهب الفقهيَّة السنِّيَّة الأربعة تعمل ضمن الإطار العام والمنهجيَّة الَّتي أطلقها الشَّافعيّ على الرغم من إضافة بعض المصادر التكميلية.([13])
في عصر الشافعي، تم تطوير مدرستين في الفقه: المدرسة العقلانية (الرأي)، ومدرسة الحديث. تم تطوير المدرسة العقلانية في العراق مِن قِبَل الإمام أبي حنيفة النعمان وتلاميذه مثل محمد بن الحسن الشيباني وأبي يوسف. كانت هذه المدرسة الفكرية امتدادًا لمدرسة الصحابي عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، وترجع بداياتها إلى الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الذي تبنَّى منهج القياس الصحيح لاستنباط الحكم الشرعي؛ في حال عدم وجود نص قطعي الثبوت.([14])
من ناحية أخرى، كانت مدرسة الحديث تتمحور في المدينة المنورة ومكة، وكان الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- الشخصية البارزة من بين كثيرين آخرين. اعتمدت هذه المدرسة منهج الصحابي عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-.([15]) في البداية، كان الشافعي ينتمي إلى هذه المدرسة كونه تلميذًا لمالك بن أنس منذ سن الـ13 من عمره، وكان يتردد على مجالسه العلمية لمدة 16 عامًا تقريبًا حتى وفاة معلمه.
بعد ذلك سافر إلى بغداد؛ حيث تعرّف على علماء الحنفية، وقارن أساليبهم بأسلوب مدرسة الحديث بالمدينة المنورة. وعقد الشافعي مجالس علمية في بغداد، وكان العديد من الطلاب يترددون على حلقته الدراسية بما في ذلك الإمام أحمد بن حنبل الذي أنشأ فيما بعد مذهبه الفقهي.([16])
وفي بغداد طوَّر الشافعي أصوله الفقهية المبكرة التي أطلق عليها “القول القديم”، كما طوَّر نسخته المعدّلة في مصر والتي سميت بـ”القول الجديد”. وقد سُجِّل “القول القديم” في كتاب “الحجة”، بينما “القول الجديد” يمثله كتاب “الأم” الذي جمَع كل فكر الإمام الشافعي تقريبًا.
يتضح من سيرة الإمام الشافعي المختصرة أن جميع رواد المذاهب السنية الأربعة تعلموا من بعضهم البعض، وأن قيام هؤلاء العلماء بإنشاء مدارس فقهية مختلفة يدل على حرية الاجتهاد في تطوير الفقه وموضوعية المنهج العلمي الذي اتبعه علماء الإسلام الأوائل، والذي يختلف عن الفترات المتأخرة للمسلمين الذين اختاروا في الغالب اتباع التقليد ورفض الاجتهاد.([17])
وميزة الفقه الشافعي أنه يجمع مدرسة الإمام مالك بن أنس (الفقه المالكي) التي تسمى مدرسة الحديث، ومدرسة الإمام أبي حنيفة (الفقه الحنفي) التي تسمى مدرسة الرأي، والفقه المصري الذي وضعه الإمام الليث بن سعد.
بعد وفاة الإمام الشافعي عام 820م، واصل طلابه تطوير فقهه على أساس المنهجية التي وضعها. كانت بغداد والقاهرة المركزين الرئيسيين لفقه الشافعي، ثم أصبح الفقه المهيمن في مختلف أجزاء العالم الإسلامي. تم اعتماد الفقه الشافعي فقهًا رسميًّا في عهد دولة السلاجقة (1194-1037م)، ودولة نور الدين زنكي (1250-1127م) والدولة الأيوبية (1341-1171م) ودولة المماليك في مصر (1517-1261م)؛ حيث تم اعتماده وتطبيقه على أوسع نطاق.
ولكن في بداية القرن السادس عشر في عهد الخلافة العثمانية (1299- 1922م)، تم استبدال الفقه الشافعي بالفقه الحنفي الذي كان أكثر مرونة في اعتماد القواعد الفقهية الجديدة، مثل الاستحسان وغيرها مما لا يتضمنه الفقه الشافعي. وعلى الرغم من هذا التأثير، لا يزال المذهب الشافعي سائدًا اليوم في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي بما في ذلك مصر، اليمن، إندونيسيا، ماليزيا، سريلانكا، الصومال، جيبوتي، إثيوبيا، إريتريا، كينيا، وتنزانيا.([18]) ويحتل المرتبة الثالثة بين المذاهب الفقهية في انتشاره بعد الحنفية والمالكية.
وكان الفقه الشافعي هو الفقه الأساسي الذي كان سائدًا في الصومال مع العقيدة الأشعريَّة والتصوف. كان علماء الإسلام الصوماليون يدرِّسون الفقه الشافعي جنبًا إلى جنب مع العقيدة الأشعريَّة بالإضافة إلى تلقين بعض الطلاب الطريقة الصوفية في المركزين الرئيسيين: بنادر وهرر. وقد ارتبط هذان المركزان مع علماء الإسلام في اليمن وزبجبار؛ حيث تبنوا الفقه الشافعي الذي كان سائدًا في هذه المناطق.([19])
ففي إقليم بنادر، حيث تقع مدن مقديشو وبراوي ومَركا وورشيخ؛ انطلق علماء معروفون وشيوخ بارزون، وراحوا ينشرون الإسلام بين قبائل الدّاخل. كما قام بعضهم بتأسيس شبكات داخل القبيلة قائمة على الانتماء المشترك لواحدة من الطُّرق الصُّوفية.([20])
تشير مجموعةٌ من المروِّيات المنقولة شفهيًّا إلى أنّ الشّيخ أبيكر محضار أحمد الكسادي يُعَدّ أولّ عالم معروف في بنادرَ. وقد لُقِّب بشيخ الشّيوخ (أستاذ الأساتذة)؛ إذ كان أستاذًا/ مرشدًا لجَمع من المشايخ المشاهير في المناطق الصُّوماليّة؛ مثل: الشّيخ عبد الرّحمن الصّوفيّ، والشّيخ أحمد حاج مهدي، والشّيخ عبدالرحمن الزَيلعيّ.([21])
ومن بين علماء بنادر الفقهاء الذين اشتهروا بتدريس الفقه: أسرة آل فقيه الدّين العَريقة في مقديشو، والمعروفة بتخريج الفقهاء والعلماء لقرون. وإبَّان الفترة الاستعماريّة، قام كلٌّ من الشّيخ محمد والشّيخ محيي الدّين وأخوه الشيخ أبيكر بتدريس الفقه الإسلاميّ، ليتخرَّج العديد من الطَّلبة من مركزهم التّعليميّ. ومن أشهر الشّيوخ في مدينة براوي الّذين تتلمذ على أيديهم الشّيخ أويس أحمد البراوي (1847-1909م) الّذي أسس فرع القادريَّة الأويسيّة الشّيخ محمد زيني الشّاشي والشّيخ محمد جنائي البهلول. وفي مَركة برز الشّيخ علي ميه الّذي كان طالبًا ومريدًا للشّيخ حسن معلِّم، وانتدب أربعةً وأربعين من طلبته إلى أقاليم وعشائر مختلفة في الجنوب. لقد علّم علماء الإسلام أجيالًا من العلماء الذين نشروا الفقه الشافعي في كل من شرق إفريقيا والقرن الإفريقي.
وأيضًا، تركَّزت مراكز التّعلّيم الإسلامي في هرر وجِكجكا والمناطق المحيطة بها في نشر الفقه الشافعي والطريقة القادرية الصوفية. من هذه المراكز كان طلبة العلم الشّرعيّ يتنقلون بين هرر وجِكجكا والمناطق المحيطة والأقاليم الشّمالية والشّمالية الشّرقيّة من الصُّومال، والتي تشمل ما يُعرَف حاليًّا بأرض الصّومال في الشمال وولاية بونت لاند في شمال الشرق. ومن علماء القادريّة المعروفين في جِكجِكا الشَّيخ عبد الرَّحمن أحمد غولي، والشَّيخ عمر الأزهريّ، والشّيخ عبد الله القطبيّ، والشَّيخ عبد السلام حاج جامع، والشَّيخ محمود معلّم عمر، وغيرهم.([22])
وقد اتَّخذ أشهر عالمَين، وهما الشَّيخ عبد الرّحمن الزَّيلعيّ والحاجّ جامع، من مدينَتَي جِكجِكا وقُلنقُول مقرّين لهما على التّوالي. انصبّ اهتمام الشّيخ الزّيلعيّ على نشر الطَّريقة القادريّة، بينما أنشأ الحاجّ جامع مركز تعليم إسلامي في جِكجِكا، وكان يدرّس مختلف العلوم الإسلامية، ومنها الفقه الشافعي. ومن خلال هَذين المركزَين والمراكز التّي تفرّعت عنهُما، انتشر الفقه الشافعي والطَّريقة القادريّة يدًا بيد في الأقاليم المحيطة، وذلك في أواخر القرن التّاسع عشر وبدايات القرن العشرين.([23])
فضلًا عن ذلك، كانت مراكز التّعلّيم الإسلاميّ قد تأسست في مناطق عدَّة من غرب وشمال الصّومال، وأشهرُها مركز “الجماعة الكبيرة” الذي أسَّسه الشّيخ مطر أحمد شروع (1825-1918م) مُؤسِّس مدينة هرجيسا، إلى جانب مراكز أخرى في مدينتَي غبلي وبورما في شمال الصّومال.([24])
وفي الوقت الحالي، يمكننا ملاحظة أن الطرق الصوفية أخذت تتطور مع صعود التعليم العالي وافتتاح العديد من الجامعات التي تمتلكها الحركات الصوفية مثل جامعة الإمام الشافعي وجامعة طه. وعلى الرغم من هذا التطور الحديث، فقد تم أيضًا تطوير حلقات التعليم الإسلامي التقليدي التي تقام عادة في المساجد. وكمثال على ذلك، رأينا جماعة الشيخ داود علسو التابعة للرحمانية الأحمدية، بزعامة الشيخ عثمان شيخ عمر (حدغ) المشهورة بتركيزها على دراسة الفقه الشافعي؛ كما أنها طوّرت منهجًا شاملًا للدراسات الإسلامية المقسم إلى ثلاثة مستويات: ابتدائي ومتوسط وثانوي.
ويشمل هذا المنهج دراسة الفقه الشافعي، والعقيدة الأشعريَّة، والتصوف، كما أنه يشمل أيضًا موضوعات إضافية مثل اللغة العربية وتفسير القرآن وسيرة الأنبياء والأحاديث النبوية. يستخدم هذا المنهج في جميع برامجها التعليمية التي تحتوي على كتب محددة. على سبيل المثال، يجب على الطالب الذي يتخرج في المرحلة الثانوية أن يتقن الفقه الشافعي؛ من خلال قراءة وفهم الكتب التالية: سفينة الصلاة للحضرمي، سفينة النجاة للشيخ سالم بن سمير الحضرمي، متن الغايات والتقريب للشيخ أحمد بن الحسين الأصفهاني (أبي شجاع)، شرح ابن قاسم لمتن أبي شجاع لمحمد بن قاسم الغزي الشافعي، منهاج الطالبين وعمدة المقتين للإمام النووي، فتح المعين بشرح قرة العين للإمام أحمد زين الدين بن عبد العزيز المَعْبَري، عمدة السالك وعدة الناسك للإمام الفقيه شهاب الدين أبي العباس أحمد بن لؤلؤ.([25])
وفقًا لمنهج هذه الجماعة؛ يتعين على الطلاب المرور بتسع مراحل للتخرج من المرحلة الثانوية. يجب على الطلاب اجتياز الامتحانات في جميع المواد في كل مستوى؛ ليتم قبولهم في المستوى الأعلى. لدى خريجي هذا المنهج خياران: الانضمام إلى الجامعات أو ممارسة أعمال أخرى مثل الأعمال التجارية، أو أن يصبحوا مدرسين وقضاة. يشبه هذا المنهج إلى حد ما مدارس الأزهر، ولكنه يتم تنفيذه بطرق تقليدية مع مراعاة السياق الصومالي؛ حيث لا يتحدث الناس اللغة العربية. لذلك تم استخدام نظام التربية الإسلامية المتطور المسمى “لقبو” باللغة الصومالية. تأسّس هذا النظام لترجمة اللغة العربية إلى اللغة الصومالية كلمة بكلمة وشرح المحتوى العام باللغة الصومالية.
ومنذ الستينيات ومع عودة بعض الطلاب الصوماليين الذين تخرجوا في الجامعات السعودية، تم إدخال الفقه الحنبلي في الصومال جنبًا إلى جنب مع العقيدة السلفية. وتمَّ إضعاف العمل والتقيد بالفقه الشافعي بعد ظهور الحركات الإسلامية الحديثة والحصول على التعليم العالي مِن قِبَل الطلاب الصوماليين في العديد من البلدان الإسلامية؛ حيث كانت مختلف المدارس الفقهية سائدة.
الإسلام راسخ جدًّا في المجتمع الصومالي، ودستور الدولة واضح أن جميع القوانين يجب أن تتوافق مع الشريعة الإسلامية. ومن يزور الصومال يستطيع أن يرى المساجد مليئة بصلوات الرجال والنساء، والنساء الصوماليات محجبات، مع إقبال كبير على حفظ القرآن الكريم بشكل واضح. وتتجلى هذه الظاهرة بشكل أوضح في الشتات الصومالي؛ حيث يحتل الصوماليون الصدارة بين الجاليات المسلمة في أداء الشعائر الإسلامية ودعم قضايا المسلمين العادلة.
وفي الوقت الحالي، تنشط حركة الشباب المتطرفة المرتبطة بتنظيم داعش، بشكل كبير في العديد من مناطق الصومال، وتحارب الحكومة الصومالية هذه الجماعات المتطرفة. وأعرب علماء الإسلام الصوماليون بشكل جماعي عن التزام جميع الصوماليين بمحاربة الأيديولوجية التي تتبناها حركة الشباب.
خاتمة:
قدمت هذه الورقة وصفًا موجزًا لثلاثة عوامل شكَّلت المجتمع الصومالي خلال عملية التطور التاريخي الطويلة: الإسلام، والاستعمار، والقومية. ثم أعطت خلفية تاريخية عن الصوماليين وجذورهم التاريخية في القرن الإفريقي وعلاقاتهم بشبه الجزيرة العربية، لا سيما بعد اعتناقهم الإسلام.
وبالإضافة إلى ذلك، تبحث الورقة مكونات الإسلام الثلاثة في الصومال: العقيدة الأشعرية، والفقه الشافعي، والتصوف. وأخيرًا، تقدّم الورقة مزيدًا من التفاصيل حول الفقه الشافعي وتطوره وانتشاره في كثير من مناطق العالم الإسلامي.
كما توضح أن انتشار الفقه الشافعي تم من خلال المركزين الإسلاميين في الصومال: بنادر وهرر. وعلاوة على ذلك، تقدم الورقة أسماء بعض العلماء الذين لعبوا دورًا مهمًّا في نشر الفقه الشافعي في الصومال، على وجه الخصوص، الذين اشتهروا في القرن التاسع عشر مع ظهور الحركات الصوفية: القادرية والأحمدية.
علاوة على ذلك، توضح هذه الورقة التطور الحديث لمناهج التعليم التقليدي، وتقدم مثالًا على هذا التطور من المناهج التي طوَّرها جماعة الشيخ داود علوسو، والتي تشمل ثلاثة مستويات: الابتدائية والمتوسطة والثانوية.
وفي النهاية، تعاني الصومال من بعض الخلافات بين علمائها، وهناك حاجة لبرنامج شامل يقلل من شأن هذه الصراعات، ويَخلق تفاهمًا مشتركًا بين علماء الإسلام. يمكن أن يكون هذا البرنامج ناجحًا عندما يوافق الصوماليون على تبنّي فقه الإمام الشافعي كمرجع شرعي لهم مع احترامهم للمذاهب الفقهية الأخرى. يتطلب هذا البرنامج سياسة حكومية وإنشاء مجلس لعلماء الإسلام تشارك فيه جميع الحركات والجماعات الوطنية والإسلامية.
__________________________
[1] – د. عبد الرحمن عبد الله (باديو)، تاريخ الصومال، المجلد الأول، 61.
-[2]د. علي شيخ أحمد أبو بكر. الدعوة الإسلامية المعاصرة في القرن الإفريقي. الرياض، المملكة العربية السعودية. دار الأمية للنشر، 1985م، ص9.
[3] J. Spencer Trimingham, Islam in Ethiopia (London: Oxford University Press, 1952)
[4] Trimingham, Islam in Ethiopia, 173
[5] Lee Cassanelli, the Shaping of Somali Society, Reconstructing the History of a Pastoral People,1600–1900 (Philadelphia: University of Philadelphia Press,1982),84,98.
-[6]المعتزلة فرقة كلامية أسسها واصل بن عطاء (توفي سنة 748م). تقوم هذه الفرقة على أساس فكري يقول بأن العقل مُقدَّم على النقل. انظر: Majid Fakhry, A History of Islamic Philosophy (New York: Colombia University Press, 1983), 44-65
[7] – علي جمعة، الإمام الشافعي ومذهبه الفقهي. دار الرسالة، القاهرة، 2004م.
[8]– Abdurahman Abdullahi, The Islamic Movement in Somalia: A Study of the Islah Movement (1950-2000). Adonis& Abbey, 2015, 38.
[9] – إلى جانب علماء الطرق الصوفية البارزين لعبوا أدوارًا مهمة في مجتمعاتهم، شارك العديد منهم في السياسة أثناء النضال من أجل الاستقلال مثل سخاو الدين الذي كان أول رئيس لنادي الشباب الصومالي الذي تأسس عام 1943م. وبالفعل، فإن العديد من السياسيين الصوماليين بعد الاستقلال كانت تابعة لإحدى الطرق الصوفية. على سبيل المثال: كان الرئيس عبد الرشيد علي شرماركي ينتمي إلى الطريقة القادرية.
[10] Abdullahi, The Islamic Movement, 41-2.
[11] – للاطلاع على مراجعة عامة عن العلماء التقليديين انظر:
Muhammad Qasim Zaman, The Ulama in Contemporary Islam: Custodians of Change (Princeton University Press, 2002)
[12] – عبد الحليم الجندي. مالط بن أنس إمام دار الهجرة. دار المعارف، 1993م.
[13] – المدرسة الحنفية، على سبيل المثال، تستخدم الاستحسان والاستصلاح الذي لا يتضمنه الفقه الشافعي في مصادره الأساسية. Hisham M. Ramadan, Understanding Islamic Law: From Classical to Contemporary, Rowman Altamira, 2006, 26
[14] – علي جمعة. الإمام الشافعي، 11.
[15] – نفس المصدر السابق.
[16] – نفس المصدر السابق.
[17] Gibril F Haddad. The Four Imams and Their Schools. London, Muslim Academic Trust, 2007,121–194.
[18] See the distribution of schools of Islamic jurisprudence in “Jurisprudence and Law-Islam”. Reorienting the Veil, University of North Carolina (2009). Available from https://veil.unc.edu/religions/islam/law/ ( accessed on March 8, 2022).
[19] – اعتاد أبرز العلماء الصوماليين على التردد في دوائر التعليم في زبيد باليمن؛ حيث تعلموا الفقه الشافعي والعلوم الإسلامية الأخرى. تقع هذه البلدة في طريق الحج الذي يمر فيه الصوماليون أثناء سفرهم إلى الحرم والعودة منه.
[20]See trade routes in early Somalia in Laitin and Samatar, Somalia: Nation, 9-10.
[21] Lee V. Cassanelli, The Shaping of Somali Society: Reconstructing the History of a Pastoral People, 1600-1900 (University of Pennsylvania Press, 1982), 215-216.
[22] – وقد تمّ إجراء لقاء مع الشيخ عبد الله شيخ علي جوهر بتاريخ 29 يوليو 2009م، في بورمة بأرض الصّومال.
[23] Abdullahi, The Islamic Movement,
[24] Cabdirizak Caqli. Sheikh Madar: Asaasaha Hargaysa ( no date and no. knwn publisher
[25] – لقد تلقيتُ منهج جماعة الشيخ داود علسو الذي يتم تدريسه في جميع برامجهم من الشيخ داود معلم عبد الله وهو أحد العلماء البارزين في هذه الجماعة، 9 مارس 2022م.