بقلم: فولفرام لاشر & إيزابيل فيرنفيلز
ترجمة وتقديم: شيرين ماهر
تمهيد:
نشر المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية (SWP) تقريرًا للباحث فولفرام لاشر -وهو باحث سياسي بقسم أبحاث إفريقيا والشرق الأوسط بالمعهد ومدير مشروع Megatrends Afrika(1)- بالاشتراك مع الدكتورة إيزابيل ويرينفيلز -زميلة أولى بقسم أبحاث إفريقيا والشرق الأوسط بالمعهد-؛ يتناول ملامح السياسة الخارجية الألمانية تجاه القارة الإفريقية.
ويتساءل التقرير حول ما إذا كان ينبغي أن تكون سياسة ألمانيا نحو إفريقيا عامة هي نفسها تجاه شمال إفريقيا، ومدى نجاح سياستها في الوصول إلى العمق الإفريقي؟ مع الإشارة إلى أن إعادة التنظيم العملي للعلاقات مع الدول الواقعة على جانبي خطوط التقسيم التقليدية تتطلب مزيدًا من الانفتاح لبحث آفاق جديدة للحوار.
يتتبع كلّ من فولفرام لاشر وإيزابيل ويرينفيلز أثر هذه التباينات السياسية والصلات التي تربط بين بعضها البعض.
وفيما يلي نص ترجمة المقال:
قبل خمسة عشر عامًا فقط، كانت الحكومات الأوروبية تنظر وتتعامل مع شمال إفريقيا بمعزل عن بقية القارة. ولكن في الآونة الأخيرة، تزايدت الدعوات التي تُطالب الحكومات الغربية بضرورة فهم إفريقيا باعتبارها قارة واحدة وكيانًا واحدًا.
إن الفرق الواضح في سياسة ألمانيا تجاه شمال إفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى، ما هي إلا تمييز مصطنع يعكس بقايا التفكير الاستعماري. وهذا التَّصنيف يجعل من الصعب التعامل بفاعلية مع التحديات السياسية التي تربط بين جانبي الصحراء؛ مثل الهجرة غير المشروعة أو جماعات العنف.
وبالنظر إلى الاستخدام الأكاديمي والسياسي، نعني بكلمة “إفريقيا”، ضمنيًّا، أجزاء القارة التي تقع جنوب الصحراء الكبرى. ولكن، هل ينبغي أن تستوعب سياسة ألمانيا المستقبلية تجاه إفريقيا منطقة شمال إفريقيا بصورة واضحة وصريحة؟
صلات متنامية:
الواقع أن أزمات العقد الماضي أدَّت، بدَوْرها، إلى ظهور بُؤَر الصراع الإقليمية التي كشفت عن الروابط القائمة عبر الصحراء الكبرى، بل وخلقت روابط جديدة. وهي تشمل العلاقة بين حرب ليبيا عام 2011م وأزمة مالي في عام 2012م؛ والتداول المستمر للأسلحة والمقاتلين بين ليبيا وتشاد والسودان؛ والصراع على مياه النيل بين إثيوبيا ومصر؛ أو العداء داخل أروقة الاتحاد الإفريقي بين المغرب والجزائر، والذي يُستمَد، بشكل كبير، من نزاع الصحراء الغربية الذي لم يتمّ حلّه والتنافس على النفوذ في منطقة جنوب الصحراء الكبرى.
كما أن التدخل العسكري الجديد من جانب دُوَل غير غربية؛ مثل تركيا وروسيا والإمارات العربية المتحدة يربط أيضًا الصراعات الإفريقية بشمال وجنوب الصحراء، فيما تُشكّل حركات الهجرة، التي تعتبرها الحكومات الأوروبية إشكالية ملحّة، منذ عام 2015م، رابطًا واضحًا، بصورة متزايدة، بين المناطق الفرعية. كما أن دول شمال إفريقيا هي نفسها بلدان المنشأ، لكنها تمثل، بالنسبة للمهاجرين واللاجئين القادمين من الجنوب، بلدان عبور مهمة، ولها دور في وضع العراقيل في طريق الهجرة إلى أوروبا.
بالإضافة إلى ذلك، هناك اهتمام متزايد، خاصة من جانب دول المغرب العربي، ببقية القارة. وعلى مدار ما يربو على عقد من الزمان انخرط المغرب، بشكل متزايد وبطريقة ناجحة، إلى حد كبير، في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، سواء اقتصاديًّا أو دبلوماسيًّا، وبكل ما يتعلق بالتنمية والديون، وأخيرًا، بالسياسة الأمنية. كما سعت الجزائر، منذ عدة سنوات، إلى استعادة دورها المؤثر والفعَّال في الماضي، والذي كان يقوم على دعم العديد من حركات الاستقلال في القارة.
ومن العناصر المشتركة الأخرى: منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية المُخطَّط لها؛ حيث صدّقت جميع دول شمال إفريقيا -باستثناء ليبيا- على الاتفاقية الإطارية، التي تهدف في المستقبل، إلى الحد من القيود الجمركية، بشكل كبير، بهدف تعزيز التجارة والإنتاج ودعم سلاسل القيمة القارية.
بالإضافة إلى ذلك، ترتبط دول شمال إفريقيا بعضها البعض عبر العديد من المنظمات الاقتصادية شبه الإقليمية؛ مثل اتحاد الكوميسا، وتجمُّع دول الساحل والصحراء. وقد أبدى المغرب اهتمامه بالانضمام إلى الاتحاد الاقتصادي لغرب إفريقيا (الإيكواس)، فيما تتمتع تونس، بالفعل، بوضع مُراقب في الاتحاد. وعلى النقيض من هذه المنظمة، ليس هناك وجود لاتحاد المغرب العربي إلا على الورق، فحسب.
وأخيرًا، يمكن القول: إن هناك تناميًا ملحوظًا لوسائط الاتصال بين إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وشمال إفريقيا. وينطبق هذا، في المقام الأول، على تدشين الطريق السريع عبر الصحراء الذي أوشك على الانتهاء. علاوةً على أنه يجري بَحْث سُبل مدّ خطي أنابيب للغاز من نيجيريا، يمرّان عبر المغرب والجزائر وصولًا إلى أوروبا.
المآزق المستمرة:
وعلى الرغم من هذه العلاقات الوثيقة، فلا تزال هناك تفاوتات مهمة وانقسامات مستمرة بين شمال إفريقيا وبقية القارة، والتي لها صلات أيضًا بالسياسة الألمانية.
تنطوي كلتا المنطقتين على توجهات كبرى ذات أهمية على أصعدة شديدة الاختلاف؛ فمن حيث التحضر، والتحول الديمغرافي، وانتشار الإنترنت، تتقدم دول شمال إفريقيا بفارق كبير مقارنةً بأغلب البلدان في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا، باستثناء جنوب إفريقيا وبوتسوانا.
وينطبق هذا أيضًا على ما يخص التنمية البشرية، بحسب مؤشر التنمية البشرية. وعلى العكس من ذلك، تقع الاقتصادات الأسرع نموًّا في القارة بجنوب الصحراء الكبرى، وهو ما يعني أنه من المرجح أيضًا أن تتطور المجتمعات هناك بشكل أكثر ديناميكية من تلك الكائنة في شمال إفريقيا.
هناك أيضًا تباينات كبيرة فيما يتعلق بمدّ سلطات الدول؛ باستثناء ليبيا، يوجد في شمال إفريقيا دول تتمتع بأجهزة أمنية قوية تمارس سيطرة كاملة على الأراضي الوطنية. علاوةً على ذلك، لا تزال هناك بعض الديمقراطيات وعدد من الأنظمة السياسية الهجينة في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وحتى وصول الرئيس التونسي إلى السلطة في عام 2021م، كانت منطقة شمال إفريقيا بأكملها لا تزال تقع تحت طائلة حكم استبدادي أو حكم المليشيات؛ كما في الحالة الليبية.
تسود وتنتشر الاتجاهات السياسية والاجتماعية داخل شمال إفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى، لكنَّ كلا الاتجاهين يتلاشيان في منطقة الصحراء الكبرى. وقد أصبح هذا جليًّا، بشكل خاصّ، في أحداث “الربيع العربي” عام 2011م، وكذلك في الانقلابات العسكرية التي انتشرت، بصفة خاصة، في غرب إفريقيا منذ عام 2020م.
وأخيرًا، يعكس ذلك أن هناك نقاط تماس مشتركة في كلتا المنطقتين دون الإقليميتين، ولكن لا شيء يربط القارة بأكملها. وإن كانت دول شمال إفريقيا ترتبط ببعضها البعض وبالشرق الأوسط؛ من خلال المشهد الإعلامي العربي؛ أما في جنوب الصحراء، فيظل الانتشار السياسي قويًّا ومؤثرًا بين البلدان الناطقة بالفرنسية والإنجليزية.
من ناحية أخرى، لا يَعتبر غالبية سكان شمال إفريقيا، الذين يعيش معظمهم على ساحل البحر الأبيض المتوسط، أنفسَهم “أفارقة”، وإنما جزء من المنطقة الثقافية العربية أو المتوسطية أو الإسلامية. ويُعد استمرار نزعة العنصرية القوية أحد مظاهر ذلك، والتي انعكست مرارًا وتكرارًا في الحملات ضد العمال المهاجرين في السنوات الأخيرة، بينما تحتفظ الحكومات بعلاقة فعَّالة مع هويتها الإفريقية؛ فقد تمَّ التأكيد على هذه العلاقة لأغراض سياسية على مستوى الاتحاد الإفريقي، ولكن فيما عدا ذلك -باستثناء المغرب- يجري التقليل من أهميتها.
وفي المقابل، ترى حكومات إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أن الوجود القويّ والمتزايد لدول شمال إفريقيا في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى يُمثِّل خطرًا محتملًا. وقد أصبح هذا واضحًا أثناء مقاومة انضمام المغرب إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ حيث لعبت المخاوف بشأن الهيمنة الاقتصادية دَورًا، بالإضافة إلى صراع الصحراء الغربية. وحتى في انتخابات مُفوّضي الاتحاد الإفريقي، غالبًا ما تكون هناك تحرُّكات لإحباط فوز مُمثِّلي شمال إفريقيا.
أهمية الجوار المباشر:
وأخيرًا، من وجهة نظر ألمانية وأوروبية، يلعب الجوار الجغرافي المباشر لشمال إفريقيا وجنوب أوروبا دورًا في وضع التصورات وصياغة الرؤى السياسية. من هنا فإن استقرار الدول المجاورة في شمال إفريقيا يصبّ في صالح أوروبا، بشكل أكثر إلحاحًا من الدول في الجنوب الإفريقي. ففي السياسة الأوروبية للتعامل مع الهجرة غير المشروعة، تلعب بلدان جنوب البحر الأبيض المتوسط دورًا أكثر أهمية في الحد منها عن معظم بلدان العبور وبلدان المنشأ الأخرى.
وبالإضافة إلى ذلك، تظهر تحديات مماثلة تتعلق بتغير المناخ، بوتيرة متزايدة، في جميع أنحاء منطقة البحر الأبيض المتوسط، مثل ارتفاع درجات حرارة المسطحات المائية، ونقص إمدادات المياه، وحرائق الغابات، فيما يدعو ذلك إلى اتخاذ تدابير مشتركة من جانب الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط.
لقد تمَّ دمج دول شمال إفريقيا في شبكة من أُطُر السياسة الخارجية الثنائية ومتعددة الأطراف للاتحاد الأوروبي على مدار عقود من الزمن، وذلك أيضًا نظرًا لقُربها الجغرافي. ويشمل ذلك الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية الثنائية في إطار الشراكة الأورومتوسطية، وخطط عمل سياسة الجوار الأوروبية، فضلًا عن المشاريع التنظيمية ومشاريع البنية التحتية متعددة الأطراف التي يروّج لها الاتحاد من أجل المتوسط في مجالات عدة؛ من بينها: حماية المناخ والاتصالات.
ولا يمكن توسيع معظم هذه الآليات لتشمل القارة بأكملها. وبشكل خاص، يختلف عمق وتصميم الاتفاقيات التجارية مع دول شمال إفريقيا اختلافًا كبيرًا عن نظيرتها المُبرَمة مع بلدان جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا؛ نظرًا لعدة أسباب؛ من بينها؛ أن المزيد من الشركات الأوروبية تنقل مرافق الإنتاج إلى المغرب وتونس. ويبلغ حجم التجارة الألمانية مع دول شمال إفريقيا ستة أضعاف حجم التجارة مع بقية دول القارة، باستثناء جنوب إفريقيا. وبعبارة أخرى: تختلف المصالح السياسية والاقتصادية الأوروبية في شمال إفريقيا ومنطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا.
ولذلك، سوف تستمر السياسة الألمانية تجاه إفريقيا في مراعاة الاختلافات الاجتماعية والانقسامات السياسية بين الشمال وبقية القارة. كما أنه ليس من قبيل المفارقة التاريخية أن نعطي، نفس القدر من الأهمية التحليلية للروابط بين دول شمال إفريقيا ومجتمعات منطقة البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، وتلك الموجودة في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
إن مجرد استبدال الخطوط الفاصلة البيروقراطية التقليدية بصناديق جديدة تتجاهل مثل هذه الروابط لن يكون ذا فائدة تُذكَر، بينما يتعلق الأمر، كحلّ بديل، بالرد الموجّه نحو إيجاد الفرص العملية لإذابة الفوارق والتباينات المتنامية بين شمال إفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى. كما ينطبق هذا، بشكل خاص، على السياسة الأمنية وإدارة الصراعات في النصف الشمالي من القارة، وفي المستقبل أيضًا فيما يتعلق بسلاسل التوريد والتدفقات التجارية.
وفي هذه المجالات، تحديدًا، سيكون من المنطقي حَشْد الخبرات على جانبي الصحراء بطريقة مُوجَّهة نحو حلّ الإشكاليات بصورة أكثر مرونة. وقد يعني ذلك، على سبيل المثال، إنشاء مجموعات عمل مؤقتة للتعامل مع الصراعات الحادة مثل تلك الموجودة في السودان، والتي ستضم متحدّثين عن دول وسيطة مثل؛ الإمارات العربية المتحدة ومصر وليبيا وتشاد. أو أن يتم دعوة السفراء الألمان في شمال إفريقيا أيضًا إلى اجتماعات دورية مع زملائهم في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
_____________________________
هوامش:
(1): Megatrends Afrika: مشروع “الاتجاهات الكبرى في إفريقيا” هو مشروع بحثي وتقديم استشارات، مُموّل من قِبل وزارة الخارجية الفيدرالية (AA) والوزارة الفيدرالية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ) ووزارة الدفاع الفيدرالية (BMVg) الألمانية. وهو إحدى مبادرات التعاون بين معهد الشؤون الدولية والأمنية (SWP)، والمعهد الألماني للتنمية والاستدامة (IDOS) ومعهد كيل للاقتصاد العالمي (IfW). يعكف المشروع على دراسة كيفية تأثير الاتجاهات الكبرى على الدول والمجتمعات الإفريقية. وتطوير أفكار للتعاون الألماني والأوروبي مع الشركاء الأفارقة بهدف جعل عمليات التغيير الجارية مستدامة وعادلة، نظرًا لتزايد أهمية القارة المجاورة على أجندة السياسية الألمانية والأوروبية. وهذا يضع صُناع القرار الألمان والأوروبيين أمام تحديات جديدة، بما يدفع إلى الحاجة إلى المشورة السياسية القائمة على أساس علمي وأكاديمي.
رابط التقرير: