في 9 يوليو الماضي 2012م احتفلت دولة «جنوب السودان» – التي انسلخت عن السودان – بالعيد السنوي الأول لميلادها، وسط تزايد تهديدها، ليس فقط للسودان بعدما سعت لاحتلال أرضه وتهديد سلامته بالتعاون مع متمردي دارفور والحركة الشعبية – قطاع الشمال، ولكن أيضاً لمصر.
وذلك بسبب استمرار رفضها لقيام مصر بتنفيذ مشروع شق قناتي جونجلي ومشار اللتين ستوفّران 10 مليارات متر مكعّب من المياه، تحتاج إليها مصر لمواجهة الأزمة المائية المقبلة عليها.
ويأتي هذا التهديد المائي من دولة «جنوب السودان» متسقاً مع خرق بعض دول حوض النيل الإحدى عشرة لاتفاق النيل القديم الموقّع عام 1959م، وإبرام سبع دول منها اتفاقية إطارية جديدة تلغي حقّ مصر والسودان في «الفيتو» ضد بناء أي سدود على النيل إلا بموافقتهما، ومن ثم تتيح لها البدء في إنشاء سلسلة سدود، وخصوصاً في إثيوبيا، تؤثر في حصّة مصر من المياه.
الأخطر هو الاستمرار في توثيق العلاقات بين تل أبيب وجوبا، من خلال زيارات متكرّرة بين قادة البلدين، كان آخرها الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإسرائيلي «أفيجدور ليبرمان» لجوبا، ضمن جولة إفريقية شملت خمس دول من دول أعالي النيل في سبتمبر 2012م، وسعي مسؤولي جنوب إفريقيا لتوصيف العلاقة بين البلدين بأنها مصيرية ومتشابهه بين شعبين (الإسرائيلي والجنوب سوداني) يعانيان رغبة العرب والمسلمين في قتلهم!
فعلى هامش توقيع إسرائيل ودولة «جنوب السودان» يوم 24 يوليو 2012م اتفاقية تعاون حول البنية التحتية للمياه وتطوير التكنولوجيا والزراعة، تعد الأولى بين الجانبين، حرص وزير الطاقة الجنوبي «آكيك بول مايوم» على التأكيد أن «هناك وجه شبه كبير بين تجربة إسرائيل و «جنوب السودان» من حيث التحديات الوجودية، ومن حيث نوعية البشر الذين لا يريدون لنا ولكم الحياة.. فجنوب السودان فقد 2,5 مليون نسمة من شعبه، واليهود فقدوا 6 ملايين، ومن واجب كلينا أن نسعى لأن لا يتم تكرار هذه الإبادة»[1].
وخلال زيارته الأخيرة لمصر في يوليو 2012م؛ أكّد «لام أكول» – السياسي المعارض بدولة الجنوب – أن دولة الجنوب ستوقّع بالفعل الاتفاقية الإطارية المعروفة بـ «اتفاقية عنتيبي» بعد موافقة من مجلس وزراء مبادرة حوض النيل على انضمام جوبا بصفة رسمية، لتصبح العضو رقم 11 في دول حوض النيل.
وسيكون توقيع جوبا «اتفاقية عنتيبي» «القشة» التي ستقصم ظهري مصر والسودان، إذ ستصبح جوبا هي الدولة السابعة الموقّعة على الاتفاقية من دول الحوض الـ 11، بسبب خلافاتها المستمرة مع حكومة الخرطوم، بالرغم من تمسّك مصر والسودان والكونغو الديمقراطية برفض التوقيع، ما يجعل الموافقين أغلبية، ويزيد من الإضرار بموقف مصر المائي.
وتتطلب هذه المستجدات تحركاً مصريّاً كبيراً له رؤية استراتيجية واعية تجاه الدولة الوليدة، بدأ الرئيس مرسي هذا التحرك الاستراتيجي بتهنئتها بعيدها القومي، ومن المهم أيضاً أن يكون التحرّك المصري شعبياً وحكومياً معاً، ومنسّقاً بين جميع هيئات مصر المسؤولة ذات الوجود الفاعل في الجنوب، سياسيّاً واقتصاديّاً وثقافيّاً، الكنيسة والأزهر، وشركات ورجال أعمال، كي تظل «جنوب السودان» غير معادية لمصر ولا لمصالحها المائية حتى لو أصبحت «اتفاقية عنتيبي» سارية.
وقد وافقت دول حوض النيل، ومعها مصر والسودان، على 41 بنداً من 44 بنداً من بنود الاتفاقية الإطارية، ورفضت دولتا المصبّ التوقيع على 3 بنود لتهديدها الأمن المائي لهما، وهي:
– البند رقم 8 : الخاص بالإخطار المسبق للدول بالمشروعات التي تنفّذها على النيل.
– والبند 14 : والمتعلق بالأمن المائي، فكلّ دولة لها حق الاستخدام العادل والمنصف دون التإثير في أي دولة، وطالبت دولتا المصبّ بإضافة جملة: «عدم التأثير السلبي على الحقوق والاستخدامات المائية».
– ثم يأتي البند رقم 35 : وهو تعديل بنود الاتفاقية الذي رفضت مصر الصياغة التي كتب بها من أنه يتم ذلك بالتوافق، حيث طالبت مصر بأنه في حال التعديل أن يكون بالتوافق بأغلبية الثلثين ووجود مصر والسودان معها.
زيارة ليبرمان وتطويق مصر:
والحقيقة أنه لا يمكن قراءة ثاني زيارة لمسؤول صهيوني رفيع مثل وزير الخارجية «أفيجدور ليبرمان» إلى جنوب السودان في سبتمبر 2012م، ضمن جولة تضم كلاً من كينيا وأوغندا وإثيوبيا ورواندا، في أعقاب زيارة رئيس دولة الجنوب (سلفاكير) لتل أبيب، إلا بوصفها جولة جديدة ضمن الخطة الصهيونية لتطويق دول الربيع العربي، وعلى رأسها مصر، وأن تطوير علاقاتها الإفريقية – وخصوصاً مع دول منابع النيل – يستهدف الضغط على القاهرة، إضافة لأهداف اقتصادية واستخبارية أخرى.
وربما لهذا وصفت صُحف (تل أبيب) الزيارة بـ «التاريخية»، وركزت في مزايا زيارته الثانية لدولة «جنوب السودان» التي ترتبط معها تل أبيب بعلاقات معادية للعرب، والسودان ومصر تحديداً، منذ الخمسينيات، عبر الدعم العسكري واللوجستي الذي كانت تقدّمه الدولة الصهيونية لمقاتلي جنوب السودان في حربهم ضد الشمال من أسلحة وذخائر، والتي تطوّرت حتى وصلت لزيارة مساعد وزير الدفاع الإسرائيلي «عاموس جلعاد» للجنوب في أبريل الماضي، في أثناء احتلال دولة الجنوب لمنطقة هجليج النفطية السودانية[2].
فزيارة «ليبرمان» الأخيرة للجنوب لها هدف رئيس، هو تطويق الجهود المصرية لتحسين العلاقات في عهد الرئيس المصري الجديد محمد مرسي مع دول إفريقيا، وبخاصة دول حوض النيل، وإنهاء النزاع القديم حول (الاتفاقية الإطارية)، ويقترن هذا الهدف باستغلال التدهور الاقتصادي الذي يعانيه «جنوب السودان» حالياً، وذلك بتقديم دعم صهيوني يزيد من تثبيت التغلغل الاستخباري والاقتصادي هناك، بهدف تطويق دولة السودان أيضاً، وخلق المشكلات لها كيلا تتمكن من تنفيذ خطة (المثلث الذهبي) مع مصر وليبيا من أجل إنتاج الغذاء العربي وتوفيره بعيداً عن سلاح القمح الذي بات سلاحاً أمريكياً استراتيجياً؛ يحرصون على بقائه منذ واقعة منع النفط عن الغرب خلال حرب 1973م العربية الصهيونية.
فـ «ليبرمان» (الصهيوني المتطرّف) يبدي اهتماماً خاصاً بملف مياه النيل، ويرى أنه يمكن تركيع مصر من هذا الملف تحديداً، ولهذا سعى لتقديم حزمة مساعدات صهيونية لدول حوض النيل، وبخاصة جنوب السودان، لمنعه من التعاطي مع الجهود المصرية لتوفير مزيد من المياه لمصر والسودان عبر حفر قناتي جونجلي ومشار، وبالمقابل الحصول على امتيازات اقتصادية واستثمارية، والأهم استخبارية وعسكرية، في ظل أنباء متزايدة عن سعي الصهاينة لبناء قاعدة عسكرية في «جنوب السودان» تكون جبهة جديدة ضد مصر والعالم العربي من الجنوب[3].
وقد ألمح الناطق بلسان وزارة الخارجية الإسرائيلية «يجئال طلمور» لأهمية هذه الزيارات الإفريقية عندما قال: إن 20 مسؤولاً إسرائيلياً زاروا دولاً إفريقية بالنصف الأول من العام الحالي؛ مقابل أربعة بالفترة الموازية في 2011م.
أما « ألون ليئيل» مدير عام وزارة خارجية إسرائيل الأسبق وسفيرها السابق في عدة دول إفريقية؛ فأشار لجانب آخر من أهداف الزيارة بقوله: إن «إسرائيل محاطة اليوم بنحو 40 دولة لا نستطيع الاقتراب منها، بسبب تعنّتها، وانهيار المفاوضات مع الفلسطينيين، والربيع العربي، رغم أن بعضها ارتبط بعلاقات دبلوماسية معنا».
ولهذا يعتقد العديد من خبراء الشأن الإفريقي أن زيارة «ليبرمان» تستهدف أيضاً تقوية العلاقات مع الدول الإفريقية ضمن سعيهم لمنع تراجع هذه العلاقات عقب الربيع العربي، فهناك دراسات إسرائيلية تحث إسرائيل على توطيد علاقتها بدول القارة السمراء مستغلة احتياجاتها الاقتصادية والسياسية في العديد من المشروعات والقضايا السياسية، واستباق قيام مصر بالعودة لإفريقيا بعدما انشغلت عنها لسنوات عديدة[4].
ولا تنفصل زيارة «ليبرمان» لدولة «جنوب السودان»، ودول حوض النيل عموماً، عن خطة تل أبيب لتطوق العرب عامة بتحالفات أجنبية لعزلها بـ «طوق إقليمي»، وكشف (معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي) The Institute for National Security Studiesعن أن «جنوب السودان» تأتي على رأس هذه الدول التي تستهدفها تل أبيب لتطويق العرب؛ بجانب اليونان وقبرص وبلغاريا ورومانيا وصربيا وكرواتيا وأذربيجان .
وجاء في دراسة كتبها في سبتمبر 2012م «يوال جوجنسكي» و «جليا ايندنشتراوس» – الباحثان بمعهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي – أن السياسة الإسرائيلية أصبحت تعتمد على أساس «عدوّ عدوّي .. صديقي» و «جار عدوّي.. صديقي»، وتوجّه نظر إسرائيل نحو الدول القريبة منها أو المحاذية للدول العربية، حيث استغلت إسرائيل الحدود المشتركة لتلك الدول مع الدول العربية لجمع المعلومات الاستخبارية عن الدول العربية المختلفة، والتعاون الأمني المشترك، مثل علاقاتها باليونان وقبرص، للضغط على تركيا، وتفعيل سياسة الطوق، وزيادة التعاون الأمني والاقتصادي والتكنولوجي المشترك بينها وبين الدول المحيطة بالمنطقة العربية من مختلف الجهات، وبخاصة دول حوض المتوسط، مثل اليونان وقبرص وبلغاريا ورومانيا وصربيا والجبل الأسود ومقدونيا وكرواتيا، وأذربيجان في آسيا الوسطى، وجنوب السودان في إفريقيا[5].
أصابع إسرائيل الخفية في حوض النيل:
كشف كتاب (صراعات المياه في الشرق الأوسط)، للخبير الاستراتيجي الإسرائيلي «أرنون سوفر»، الدور الرئيس والبارز للدولة الصهيونية في الاضطرابات والفوضى والخلافات التي تنشب من حين لآخر في منطقة حوض النيل.
تضمّن الكتاب اعتراف مؤلفه صراحة بوجود مصالح إسرائيلية ومخططات صهيونية في منطقة حوض النيل، ويدّعي أن نسب توزيع المياه بين دول نهر النيل لها تأثير مباشر في إسرائيل[6]، حيث ذكر الخبير الإسرائيلي «أرنون سوفر» في كتابه أنه من حسن حظ إسرائيل أن النيل يمثّل شريان الحياة بالنسبة لمصر، لأن هذا الأمر منح الدولة اليهودية تفوّقاً تكتيكياً واستراتيجياً في حروبها السابقة مع مصر، ففي حرب الاستنزاف مثلاً قامت إسرائيل بضرب سد نجع حمادي وسد إسنا وخطوط الكهرباء الرابطة بين أسوان والقاهرة، الأمر الذي دفع مصر إلى تغيير خططها، واضطرها إلى إرسال قوات لحماية السد العالي من أي هجوم إسرائيلي، الأمر الذي أدى إلى تقليل حدّة الضغوط والهجمات المصرية التي كانت تتعرض لها إسرائيل على خط القناة.
ويكشف الكاتب عن «المخطط الصهيوني» المتعلق بمصر، والذي يأتي ضمن مخطط واستراتيجية أوسع تشمل كلّ دول حوض النيل، حيث يكشف أن موجات الجفاف المتعاقبة التي تعرض لها حوض النيل، بالإضافة إلى الزيادة السكانية المرتفعة في مصر، أدت إلى عدم تمكّن مصر من توفير اكتفائها الذاتي من الغذاء، ومن ثم اعتمدت على دول أخرى لتوفير الغذاء لسكانها، الأمر الذي جعل مصر ترتبط بدول خارجية، وبخاصة الولايات المتحدة التي تُعد أكبر منتج للغذاء في العالم، ما سهل السيطرة عليها وتبعيتها.
ويرى الخبير الصهيوني أنه كلما زاد اعتماد مصر على الولايات المتحدة كان هذا الأمر في مصلحة إسرائيل؛ لأنه يضمن استقرار «اتفاقية السلام» الموقّعة بين القاهرة وتل أبيب.
ولهذا ترى تل أبيب أن من مصلحتها حدوث «أزمة مياه» في مصر؛ لأن ذلك سيدفع مصر إلى الانشغال في صراعات بهذا الشأن مع جيرانها في منطقة حوض النيل، الأمر الذي سيقلّل من تدخلها في شؤون العالم العربي وقضاياه، وهو ما تريده إسرائيل بـ «التحديد».
وهنا تأتي أهمية المصالح المشتركة بين الدولة الصهيونية ودول الجنوب، والتي بدأت منذ الخمسينيات، وزادت أهميتها مع انفصال دولة الجنوب واستقلالها، ورفع جنوبيين أعلام الدولة الصهيونية يوم احتفالهم بالاستقلال في يوم 9 يوليو 2011م، ومع تزايد حاجة مصر إلى المياه، والقيود التي شكّلتها الاتفاقية الإطارية لدول حوض النيل، ورغبة الدول الموقّعة عليها لضم دولة الجنوب للتوقيع، ليصبح هناك 7 دول موقّعة من 11 دولة من دول حوض النيل، ما يعني تمرير الاتفاقية التي يرى الموقّعون عليها أنه يكفي توقيع 7 دول كأغلبية، بينما تطالب مصر والسودان بتوقيع كلّ الدول.
ومع تزايد الارتباطات الاستراتيجية والتجارية والاقتصادية بين جوبا وتل أبيب؛ تتحوّل «جوبا» تدريجياّ إلى شوكة في ظهر كلٍّ من مصر والسودان.
الهوامش والإحالات:
(*)كاتب وباحث سياسي – نائب رئيس تحرير جريدة الحرية والعدالة
[1] جريدة الشرق الأوسط، عدد 25 يوليو 2012م، العدد 12293.
[2] وديع عواودة: ماذا وراء زيارة ليبرمان لجنوب السودان، الجزيرة نت، 7 سبتمبر 2012م.
[3] صحيفة الانتباهة، الخرطوم، عدد 16 أكتوبر 2011م.
[4] إحسان مرتضى: الأمن العربي وإشكاليات التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا، مجلة (الدفاع الوطني)، الجيش اللبناني، بيروت، عدد سبتمبر 2012م.
[5] تل أبيب تطوّق العرب بتحالفات أجنبية لعزلها بـ «طوق إقليمي»، جريدة الحرية والعدالة، مصر، عدد 9 أغسطس 2012م، ص 12.
[6] أرنون سوفر: الصراع على المياه في الشرق الأوسط، جامعة حيفا، تل أبيب، ترجمة: المعرفة، الجزيرة نت، 5/12/2006م.