لم تكن بوتسوانا من الدول الإفريقية التي يرد ذكرها كثيرًا في وسائل الإعلام الدولية, اللهم إلا إذا حدثت تقلبات في أسعار الماس, أو أدلى رئيسها السابق إيان خاما بتصريحات مثيرة للجدل، والتي كان آخرها عندما انتقد عددًا من الرؤساء الأفارقة؛ لمكوثهم الطويل في السلطة، وحثّهم على تخفيف قبضتهم الرئاسية.
كان تنحّي الرئيس خاما يوم السبت – بعد عشر سنوات من رئاسته وانتهاء فترة ولايته الثانية والأخيرة – قد يعني أنه ملتزم بما ينصح به غيره من القادة الإفريقيين, وأنه يحترم دستور بلاده نسبيًّا لكي يُفْسِح الطريق لنائبه موكغويتسي ماسيسي، وليترك بلاده حسنة السمعة ومتطلعة لما بعد حكمه بسلام.
وفي سبيل التنحِّي, أغدق المواطنون على خاما بكل أشكال الثناء أثناء قيامه بعدد من طواف الوداع في جميع أنحاء البلاد. وفي تجمُّع للمزارعين، أُهدي إليه 35 رأسًا من الماشية، وثورًا واحدًا، واثنين من الأغنام والماعز، وحصانًا، وأسهما بقيمة 25,000 بولا (حوالي 2,628 دولارًا) في شركة لتنمية الفحم.
وفي نهاية جولته الوطنية، شملت الهدايا المقدَّمَة له؛ سيارة، و143 بقرة ومئات الدجاج. الأمر الذي جعل خاما نفسه في إحدى خطابات وداعه الكثيرة، يقول: إنه لم يرغب أبدًا في أن يكون رئيسًا.
ولكنه قال ساخرًا: “الآن صارت بوتسوانا تقنعني بأنني يجب أن أكون مزارعًا بعد التنازل؛ نظرًا لكل الحيوانات المهداة لي”.
يتميز سجل بوتسوانا حال مقارنتها بغيرها من دول القارة؛ إذ هي تُجرِي انتخابات حرة ونزيهة منذ الاستقلال، وتنخفض فيها مستويات الفساد. بل الإحصاءات أيضًا تعطي نظرة جميلة عن البلاد. ففي بطاقة التقرير السنوي لمؤسسة “مو إبراهيم” عن الحكومات الإفريقية، دائمًا ما تحتل بوتسوانا مرتبة عالية وإيجابية وتُصنَّف بانتظام في أعلى القمة من القائمة.
وقد ساهم كون بوتسوانا ثاني أكبر منتج للماس في العالم مع عدد سكان يقدَّر بحوالي 2 مليون شخص فقط، في أن تتحول من إحدى أفقر البلدان في العالم في استقلالها –حيث لا يوجد فيها سوى أقل من 10 كيلومترات فقط من الطرق الممهدة دون أثر معين للعاصمة غابورون- إلى واحدة من أعلى الناتج المحلي الإجمالي للفرد في إفريقيا.
“لقد كانت لدينا ديمقراطية وتطور بلا انقطاع في بلدنا منذ عام 1965م، على الرغم من أن الاستقلال كان (عام 1966م)، مع أول انتخابات وحكم ذاتي”؛ يقول جيف رامزي المتحدث باسم الرئاسة لـ”إذاعة صوت أمريكا”. أما “في حالة خاما، فإن بها بعض النقاط البارزة، أولاً، ستكون دفعة لتعزيز القضاء على الفقر. لدينا برنامج للقضاء على الفقر، وقد أحرزنا تقدمًا في خفض مستويات الفقر”.
خاما.. وانتقاد الزعماء الإفريقيين:
يرى الكثيرون تنازل خاما الطوعي نقطة مضيئة في قارة يلجأ قادة بعض دولها إلى أبعد مدى باستخدام كل الوسائل للبقاء في السلطة؛ حتى وإن كان البقاء متعارضًا مع تفويضهم الدستوري.
ويمكن تفسير شجاعة الرئيس خاما لنشأته وخلفيته العسكرية. فهو جنرال سابق وابن السير سيريتسي خاما, الرئيس الأول المؤسس لبوتسوانا بعد استقلالها عن المملكة المتحدة في عام 1966م. وبعد خروجه من الجيش، عمل لمدة عشر سنوات كنائب للرئيس الأسبق فيستوس موغاي، ليحل مكانه كرئيس عندما تنحى الأخير في أبريل 2008م.
بعد عدة أشهر فقط من توليه المنصب الرئاسي، رفض خاما إعلان موغابي كالفائز في انتخابات زيمبابوي عام 2008م التي شابها العنف والترهيب. وهو الرئيس الوحيد الذي قام بذلك من بين رؤساء “مجموعة التنمية لإفريقيا الجنوبية” (SADC) التي تضم 15 دولة إفريقية جنوبية.
وبالنسبة لأنصار الرئيس خاما البالغ 65 عامًا, فإن مثل هذه المواقف والتصريحات مما يفتخرون به، وخصوصًا لتواضعه في العمل، وانتقاده لما يراه غير صحيح في الدول الإفريقية الأخرى, في حين يخاف معظم القادة الإفريقيين من قول الحقيقة.
وقد خرج خاما مرة أخرى عن إجماع القارة في عام 2009م، عندما قال: إنه يجب إرسال الرئيس السوداني عمر البشير إلى “المحكمة الجنائية الدولية” لمحاكمته بسبب “دوره في الأعمال الوحشية المرتكبة في إقليم دارفور” بغرب السودان.
وبما أنَّ معظم الزعماء الأفارقة فضَّلوا الصمت المزري تجاه تصميم الرئيس الكونغولي جوزيف كابيلا على تأجيل الانتخابات، وتمديد فترة بقائه في السلطة، وارتكاب حكومته لفظائع ضد المواطنين المحتجين, فإن حكومة رئيس بوتسوانا إيان خاما فضَّلت الانتقاد اللازع بشكل مباشر.
“يرفض بعض القادة السياسيين التخلي عن السلطة عندما تنتهي فترة ولايتهم”؛ قالت حكومة بوتسوانا على تويتر, وأضافت “من الواضح أن هؤلاء القادة تحرِّكهم المصلحة الذاتية، بدلاً من مصالح الأشخاص الذين يحكمونهم. جمهورية الكونغو الديمقراطية هي مثال على ذلك”.
“محاولات لإرضاء الغرب”
وكردود أفعال متوقعة, فإن تصريحات خاما العلنية – بالنسبة لنظرائه الأفارقة – محاولات لإرضاء الحكومات الغربية, والبعض يصنِّفُونه ضمن أتباع الحكومات الغربية في القارة. وقد اتهم لامبرت ميندي، وزير الاتصالات في الكونغو الديمقراطية انتقاد حكومة بوتسوانا بـ”محاولة إرضاء بعض الأصدقاء الأقوياء” بالتحدث ضد الرئيس كابيلا.
وفي عام 2011م، وصف المعارض الجنوب إفريقي جوليوس ماليما، الذي كان آنذاك القائد الشبابي لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم بجنوب إفريقيا، إيان خاما بأنه “دُمْيَة في يد الغرب”؛ بسبب علاقاته الوثيقة مع الولايات المتحدة, وطالب ماليما الإطاحة بـخاما من السلطة –وهي تصريحات خطيرة دفعت حزب المؤتمر الوطني الإفريقي لفصل ماليما من صفوف الحزب.
هذا, ولم تتحدث إدارة خاما فقط ضد التجاوزات الملحوظة في قارته الأم، بل تعدتها إلى الولايات المتحدة. فأصدرت بوتسوانا بيانًا على تويتر يطلب من السفير الأمريكي توضيح ما إذا كان قد أدرجت بوتسوانا في فئة دول “الأوكار القذرة”, وذلك بعدما ذُكِرَ في العام الماضي أن ترامب قد وَصَف الدول الإفريقية بأوصاف مخلة بالأدب، وأنه تساءل عن سبب السماح لمواطني القارة بالهجرة إلى الولايات المتحدة.
ووجَّهت بوتسوانا انتقادات شديدة اللهجة إلى مجلس الأمن الدولي حول تعامله مع الصراع الجاري في سوريا، قائلة إنه تخلى عن مسؤوليته في استعادة السلام والأمن.
ورفضت بوتسوانا أيضًا الانصياع للصين؛ حيث دعت “دالاي لاما” لزيارة البلاد، وتحدتْ بذلك تحذيرات الصين على الرغم من أن دالاي في النهاية ألغى الزيارة.
“نزعة استبدادية”
وعلى الرغم من الإنجازات التي حقَّقها إيان خاما خلال فترة رئاسته لبوتسوانا, إلا أن منتقديه يقولون: إنه في الوقت الذي يشيدون فيه باحترامه للقانون بالتنازل عن منصبه، فقد أظهر أثناء حكمه “نزعة استبدادية”.
وكما يقول المحلل السياسي ندولامو أنتوني موريما، دفع خاما الفواتير ووقَّع بعض الأوامر دون المرور بالعمليات البرلمانية، وخنَق المعارضة، وأشرَف على قرار الحكومة بوقف الإعلانات في وسائل إعلام خاصة تعتبرها مؤسسات انتقادية لإدارة خاما.
“كانت هناك بعض النزعات الاستبدادية، ولكن من الواضح أنها ليست على مستوى بلداننا الإفريقية، حيث نعرف أن هناك نقصًا للديمقراطية”؛ قال موريما لـ “إذاعة صوت أمريكا”.
تأسيس أسرة حاكمة
واتّهم منتفدو الرئيس إيان خاما – وهو الابن الأكبر للزعيم سيريتسي – بأنه يحاول تأسيس أسرة حاكمة في بوتسوانا. ففي عام 2014م، رفض أفراد حزبه خطوة اتخذها لتنصيب شقيقه الأصغر – تشيكيدي – نائبًا له.
وحتى اليوم, لا يزال تشيكيدي واحدًا من عدة مرشحين يُشاع بأنهم سيشغلون منصب نائب الرئيس الجديد.
بينما تحتل عائلة خاما أيضًا عددًا من المناصب الرئيسة داخل الحكومة وغيرها. فشقيق خاما الصغير “تشكيدي” هو وزير السياحة. وتوأمه أنتوني، هو رجل أعمال كان متورطًا في فضيحة عام 2015م؛ حيث زُعِمَ أن شركته مُنحِتَ عقدًا دفاعيًّا كبيرًا.
أما ابن عمهما, فهو وزير الدفاع ويشرف على وكالة المخابرات الوطنية. وهناك ابن عم آخر ضمن كبار مستشاري الحزب الحاكم, وقد عمل مرة كسفير في السويد. وزوجة الرئيس خاما السابقة تترأس امتياز شركة “ماس دي بيرز” في البلاد.
وكما يقول المحلل السياسي نيكول بيردسورث, فإن نهاية فترة رئاسة خاما لا تعني أن اسم خاما لن يلعب أي دور في السياسة البوتسوانية.
“موكغويتسي ماسيسي” .. رئيسا لبوتسوانا
كان الرئيس الجديد موكغاويسي ماسيسي البالغ 54 عامًا، شخصية معروفة, انتُخِبَ لأول مرة في البرلمان عام 2009م. وكان مدرِّسًا في المرحلة الثانوية، ثم عمل لدى وكالة (اليونيسف) التابعة للأمم المتحدة في بوتسوانا.
أما والد ماسيسي، اديسون سيثلومو ماسيسي الذي توفي عام 2003م، فهو عضو في برلمان موشوبا، وكان مقرَّبًا من والد الرئيس السابق إيان خاما. وشغل ماسيسي – قبل تعيينه كنائب للرئيس – منصب وزير شؤون الرئاسة والإدارة العامة. وفي حين يرث دولة مستقرة وأحد أغنى الدول بالقارة، فإنه يواجه مهمة صعبة تتمثل في تنويع الاقتصاد من اعتمادها على الماس الذي قد ينفد في غضون 30 أو 40 سنة، وأصبح استخراجه أكثر تكلفة.
كما يواجه الرئيس الجديد أيضًا مهمة إعادة النظر في نظام التأشيرات وشروطه الصارمة المفرطة، والحد من الفساد المنتشر في إدارة سَلَفه, إضافة إلى ضبط وتنظيم مديرية المخابرات والخدمات الأمنية (DISS), التي يديرها مقرب خاما، إسحاق كغوسي.
“يجب أن يتدخل بسرعة لوقف العفن، ويعيد مديرية المخابرات والخدمات الأمنية إلى صندوقها”؛ هكذا يقول رجل أعمال بارز في جابورون.
ويخشى مسئول من “حزب بوتسوانا الديمقراطي” الذي يحكم البلاد منذ الاستقلال من أن تحدث مشاكل إذا استمر الفساد في وضعه الحالي. كما تطالب المعارضة والصحف المستقلة في البلاد بإقالة مدير الوكالة الأمنية إسحاق كغوسي – لإرسال إشارة مبكرة عن نواياه لإجراء الإصلاحات.
من الناحية النظرية، أمام الرئيس الجديد ماسيسي, الآن 18 شهرًا فقط لتوطيد منصبه، وفرض مزايا شغل وظائفه، واستغلال الفرص كي يفوز بترشيح حزبه له في الانتخابات القادمة.
لكن بيردسورث يرى أنه “إذا قضى إيان خاما (بعد تنحيه عن الرئاسة) السنتين التاليتين في محاولة لتثبيث شقيقه، وجمع الدعم والزخم لترشيحه، فعندئذ من المحتمل تمامًا أن يكون شقيق إيان خاما (مرشح الحزب) بدلاً من (ماسيسي)”.
ومما يدعم هذه النظرية في الدوائر السياسية في غابورون, أنَّ المعارضة في البلاد قد فشلت في فرض تحدٍّ قوي على الحزب الديمقراطي الحاكم.
“لذا أعتقد أن ما يجب فعله هو أن تأخذ المعارضة نفسها على محمل الجد، وتلتفُّ حول منصة معينة بحيث تمثل تحديًا حقيقيًّا للحزب الديمقراطي البوتسواني، وهو الأمر الذي لا تقوم به (المعارضة) حاليًا”؛ هكذا يقول موريما. ومن ثمَّ يتوقع أن نرى في عام 2019م، فوز الحزب الديمقراطي الحاكم مرة أخرى في الانتخابات.
المصادر:
– The Economist: How to save Botswana’s sparkling reputation. Published on: March 10 2018. Retrieved from URL: https://goo.gl/9eFk8D
– VOA: Botswana President Leaves Office on Time, But With Mixed Reviews. Written by: Anita Powell. Published on: March 29 2018. Retrieved from URL: https://goo.gl/eqvxFF
– Mail & Guardian: Botswana president’s bittersweet farewell. Written by: Tsaone Segaetsho. Published on: March 29 2018. Retrieved from URL: https://goo.gl/fJ9vAy
– Bloomberg: Masisi to Lead Botswana as Khama Steps Down After a Decade. Written by: Mbongeni Mguni, Micheal Cohen. Published on: March 29 2018. Retrieved from URL: https://goo.gl/fvSih3
– Deutsche Welle: Botswana: Mokgweetsi Masisi takes over presidency amid opposition resurgence. Written by: Chrispin Mwakideu. Published on: March 31 2018. Retrieved from URL: https://goo.gl/XU1Yoy