ما الذي يدفع الأفارقة نحو الهرولة إلى إسرائيل، والتمادي في طلب حبل ودادها؟!
لقد ضربت تنزانيا بميراث مواليمو جوليوس نيريري المدافع عن حقوق الشعوب في التحرر عرض الحائط عندما قررت إرسال أول سفير لها إلى تل أبيب منذ استئناف العلاقات بين البلدين عام 1995م.
أدهش السفير التنزاني داودي ماسيما الحضور أثناء استقبال الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين له في يونيو 2017م؛ فبينما ينتظر الجميع كلمات الترحيب البروتوكولية التي تُقال في تلك المناسبات المتعلقة بتقديم أوراق اعتماد السفراء الجدد؛ فإذا بالسفير ماسيما يتحسس جيبه ويُخرج “الكيباه” اليهودية ليضعها على رأسه ويتمتم بكلمات صلوات عبرية، وهو ما دفع الرئيس الإسرائيلي بأن يضع هو الآخر غطاء رأسه، وكأن مقر إقامته تحول إلى معبد يهودي.
وبعد تبادل كلمات الاستحسان، قال رئيس الدولة العبرية بلغة الواثق موجِّهًا حديثه للسفير التنزاني: “نحن اليوم نصنع التاريخ.. إننا نرى إفريقيا أرض المستقبل. إنها تمثل شعوب وأفكار الغد، ونحن نُولِي اهتمامًا كبيرًا للتعاون مع إفريقيا، والعلاقة -على وجه الخصوص- بشعبك مهمة جدًّا بالنسبة لنا”.
لم يأتِ خبر إرسال «دار السلام» سفيرًا لها لدولة إسرائيل من فراغ؛ فقد سبقته تحركات تخرج إلى فضاء العلن تارة، وتستتر بلحاف الخفاء تارة أخرى لحاجة في نفس أصحابها. ففي ديسمبر الماضي قام زعماء برلمانيون من تنزانيا وغانا بزيارة إسرائيل للاحتفال بالتعاون المشترك كجزء من مبادرة “الطاقة لإفريقيا”، وهي المبادرة التي أطلقها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، وتهدف إلى مضاعفة فرص الحصول على الكهرباء في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. إذ تشير التقديرات إلى وجود نحو 600 مليون إفريقي (70% من السكان جنوب الصحراء) يعيشون بدون كهرباء.
لقد كسر هؤلاء البرلمانيون الأفارقة كل الثوابت الأخلاقية المتعلقة بالموقف الإفريقي من القدس والقضية الفلسطينية، ليس هذا فحسب، بل أعلنوا دعمهم الكامل لتغيير السياسة الأمريكية في ظل الرئيس ترامب تجاه المدينة المقدسة، وعلى سبيل المثال يقول رئيس الجمعية الوطنية في تنزانيا (البرلمان)، نودجاي: “إن القدس هي المكان المناسب لكي تكون مقرًّا للسفارات الأجنبية بحسبانها عاصمة لإسرائيل”.
ما الذي حدث إذن ودفع بتنزانيا لتسريع وتيرة دعم علاقاتها مع إسرائيل إلى حدِّ المطالبة الرسمية بإعادة افتتاح السفارة الإسرائيلية في دار السلام؟
قبل بضع سنوات لم تكن تنزانيا حليفًا محتملاً لإسرائيل، بل إنها عوضًا عن ذلك، كانت تقف، باعتبارها أحد أقطاب ما يسمى بمجموعة عدم الانحياز موقف المتربص في مواجهة السياسات الإسرائيلية من خلال التصويت في الغالب الأعم ضدها في محافل الأمم المتحدة.
لقد تمسكت القيادة التنزانية بسياسات الأب المؤسس مواليمو جوليوس كامباراجي نيريري سنين عددًا. فقد كان الرجل مناهضًا قويًّا للإمبريالية، ومؤمنًا بقيم التحرُّر والاستقلال لكافة الشعوب المقهورة، ليس فقط في إفريقيا، ولكن في كل أنحاء العالم.
وفي هذا السياق قامت تنزانيا بقطع علاقتها الدبلوماسية مع إسرائيل في أعقاب عدوان الأخيرة على الدول العربية عام 1967م. وكان مواليمو نيريري من الداعمين لحملة المقاطعة الإفريقية لإسرائيل تمامًا مثل قيادته لحملة المقاومة ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. وعليه فقد كانت القضية الفلسطينية تحتل مكان القلب في توجهات تنزانيا الخارجية.
ذهب نيريري، وهُزِمَتْ بعدَه سياساتُه الاشتراكية، وتغيَّر العالم من حولنا وهو ما دفع بمن ساروا على نهجه النضالي والمثالي أن يميلوا بلين ليستوعبوا رياح التغير بالتخلي عن ثورية الحزب الواحد في الداخل ورفع لواء البرجماتية السياسية في الخارج؛ عندئذ تم إعادة ما انقطع من علاقة مع إسرائيل.
وكانت الدولة العبرية كسابق عهدها في مرحلة العلاقات الأولى (1963-1973م) تركز على المساعدات التنموية، ولاسيما في مجال الزراعة، والبنية الأساسية، والصحة والتعاون الأمني؛ خلال السنوات الماضية قام الإسرائيليون ببناء عشرات الطرق في العاصمة دار السلام، وتشييد كثير من المنتجعات السياحية شمال البلاد. لكن يظل السؤال المرتبط بدوافع الإلحاح التنزاني خلال العامين المنصرمين على بناء علاقات وثيقة مع إسرائيل بشكل غير مسبوق؟
يبدو أن الأمر يرتبط بحدَث مفصلي في السياسة التنزانية عام 2015م مع تولي الرئيس جون ماغوفولي منصبه في البلاد؛ حيث يبدو أن الرجل الذي يُلَقَّب عادة بـ”الرئيس البلدوزر” كاثوليكيًّا متدينًا وصاحب رؤية تجاه إسرائيل قد تتجاوز عوالم السياسة والاقتصاد لتحلِّق في أجواء كهنوتية، ربما لم يستطع سفيره الأول في تل أبيب إخفاء بعض مراميها.
ولعل ذلك يؤكد مرة أخرى أن بعض مقولات “الحكم الشخصي”، و”الرجال الكبار” ضمن تحليل النُّخَب الحاكمة في إفريقيا لا تزال تحتفظ بمصداقيتها عند تحليل المشهد الإفريقي المعاصر.
انطلق الرئيس البلدوزر مسرعًا ليحطِّم أجواء الشك وعدم الثقة مع إسرائيل؛ مؤكدًا على أن علاقات تنزانيا مع إسرائيل تُعَدُّ مصيرية بالنسبة له منذ البداية. وبالفعل اجتمع في أوائل عام 2016م بالسفير الإسرائيلي في نيروبي؛ ياهيل فيلان، وهو السفير المكلَّف بملف العلاقات الدبلوماسية مع تنزانيا .
اتساقًا مع هذا التحوُّل الفارق كان موقف المفاوض التنزاني في أكتوبر 2017م محوريًّا في تخفيف حدة قرار اليونسكو المتعلق بالقدس الذي أكَّد عدم وجود سيادة إسرائيلية على مدينة القدس، كما أدان أعمال الحفر التي تقوم بها دائرة الآثار الإسرائيلية بالمدينة المحتلة، ورغم ذلك امتنعت تنزانيا عن التصويت.
لعل هذا التحول الكبير في الموقف التنزاني هو ما دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى توجيه الشكر إلى الرئيس التنزاني؛ لإحباطه المسودة الأولى لمشروع القرار الثاني لليونسكو المتعلق بالقدس.
هذا، ويمكن الإشارة إلى ثلاثة دوافع كبرى تجعل الهرولة التنزانية موضع ترحاب لدى صانع القرار الإسرائيلي:
– الأخذ بعين الاعتبار الدوافع السياسية، هناك أيضاً روابط اقتصادية وتجارية متزايدة بين إسرائيل وشركائها الأفارقة، ومن بينهم تنزانيا. على أرض الواقع ساعدت الاستثمارات التي قامت بها الشركات الإسرائيلية، وخاصة في قطاعات المياه، والزراعة والطاقة، وتكنولوجيا المعلومات في تدعيم قواعد العديد من الاقتصادات الناشئة في إفريقيا. يتضح ذلك من دعوة الرئيس ماغوفيلي بنفسه المستثمرين والسياح الإسرائيليين للقدوم إلى بلاده.
– كما تحاول إسرائيل دومًا تغطية دوافعها الحقيقية من خلال قوتها الناعمة لكسب عقول وقلوب الأفارقة؛ فقد ازدادت وتيرة الهجوم الناعم لوكالات التنمية الرسمية الإسرائيلية، وكذلك المؤسسات الخيرية الخاصة من خلال تكثيف أنشطتها في إفريقيا. فمنذ تأسيسها قبل نحو عقد مضى، استخدمت مؤسسة “الابتكار الإسرائيلي: إفريقيا” غير الربحية تكنولوجيا الطاقة الشمسية والمياه في إسرائيل لتوصيل المياه النظيفة إلى ما يقرب من مليون قروي ريفي في سبع دول إفريقية (جمهورية الكونغو الديمقراطية، إثيوبيا، ملاوي، السنغال، جنوب إفريقيا، تنزانيا، وأوغندا).
– الأمن: مواجهة كل من إيران والجماعات الإرهابية في شرق إفريقيا بمعناه الجيوستراتيجي الكبير. اتضح ذلك جليًّا من زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان أواخر شهر مارس 2018م لكل من تنزانيا ورواندا وزامبيا؛ حيث أكَّد صراحةً أن أحد أهداف إسرائيل الكبرى من عودتها إلى إفريقيا هو مواجهة النفوذ الايراني في القارة والحدّ منه.
ويقرر ليبرمان أنه “إذا لم تنتهز إسرائيل الفرصة لتعميق التعاون مع الدول الإفريقية؛ فإن الآخرين، ولا سيما الإيرانيون، سيفعلون ذلك بدلاً عنا”. وبالفعل وَقَّع ليبرمان مع نظيره التنزاني مذكرة تفاهم بين البلدين “لتبادل المعلومات الاستخباراتية الحيوية للتخلُّص من جميع أشكال التهديدات الأمنية”.
ولا شك أن هذا الاتفاق يعني تكثيف التعاون المشترك في أمور الدفاع والأمن الرئيسية، لا سيما في تدريب القوات والأمن المعلوماتي، بالإضافة إلى مجالات تطوير التكنولوجيا العسكرية.
وأغلب الظن أن موقف تنزانيا من تصويت اليونسكو المتعلق بالقدس الشريف يُظْهِر بعض دوافع الهرولة والاستجابة في منظومة العلاقات الإسرائيلية الإفريقية، وهو أمرٌ لا يختلف عن سوابق مرحلة ما قبل حرب عام 1967م؛ حيث تسعى القيادة الإسرائيلية إلى ضمان الحصول على الدعم الإفريقي لإسرائيل في الأمم المتحدة وغيرها من المحافل الدولية؛ إذ كثيرًا ما عارضت الدول الإفريقية إسرائيل في الأمم المتحدة بشأن القضية الفلسطينية، وربما يُعْزَى ذلك إلى الكتلة الإسلامية الضخمة في إفريقيا، وتعاطف كثير من الأفارقة مع محنة الفلسطينيين.
وعليه تحاول إسرائيل جاهدةً إغراء الكتلة الإفريقية العريضة؛ من خلال الزيارات والصفقات التجارية، وتقديم العون الفني والأمني؛ إنها لغة المصالح المتغيرة التي تُعلِي من نفعية السياسة على مبادئ الأخلاق.