بسمة سعد
باحثة متخصصة في الشأن الإفريقي – المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
في خِضَمّ انتشار ظاهرة الإرهاب في ربوع منطقة الساحل الإفريقي، وتمدُّدها إلى مناطق جغرافية جديدة في ساحل غرب إفريقيا؛ كان من اللافت أن كوت ديفوار تمكنت من تقديم نموذج فريد في مكافحة الإرهاب؛ من خلال اعتماد استراتيجية شاملة لمكافحة الإرهاب، حرصت الحكومة على تنفيذها، والتي كان لها انعكاس واضح على انخفاض معدل النشاط الإرهابي في البلاد، لا سيما المنطقة الشمالية باعتبارها المنطقة الأكثر خطورة ومحل استهداف مِن قِبَل الجماعات الإرهابية حتى هذه اللحظة.
في هذا الإطار، تطرح المقالة تساؤلًا رئيسًا يتمثل في: ما هي ملامح المقاربة الإيفوارية في مكافحة الإرهاب؟
في هذا الإطار، تهدف المقالة لتناول ما مرت به البلاد من مراحل خلال تمدد النشاط الإرهابي على أراضيها، وتحديدًا في المنطقة الشمالية، بدأت بالانتشار، وانتهت بالانحسار، ثم مناقشة ملامح الاستراتيجية الإيفوارية في مكافحة الإرهاب، وما اعتمدته من آليات أثبتت فاعليتها في التصدي لموجة التمدد الإرهابي نحو ساحل غرب إفريقيا.
أولًا: تطوُّر ظاهرة الإرهاب في كوت ديفوار.. من الانتشار إلى الانحسار
وجود جماعات العنف وانتشارها في منطقة الساحل الإفريقي واتخاذها نقطة ارتكاز رئيسة وتقليدية لم يكن كافيًا ومتسقًا مع الطموح الإرهابي بالتوسُّع والتمدد في مناطق جغرافية جديدة، ومنها دول ساحل غرب إفريقيا، والتي من بينها كوت ديفوار.
وقد وقع أول هجوم إرهابي كبير في كوت ديفوار في شهر مارس 2016م، عندما فتح ثلاثة رجال منتمين لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي –جماعة نصرة الإسلام والمسلمين فيما بعد- قادمين من مالي، النارَ على مرتادي بعض المطاعم ومرتادي الشواطئ في بلدة غراند بسام الساحلية، مما أسفر عن مقتل 19 شخصًا؛ بينهم ستة مواطنين أوروبيين وثلاثة من أفراد قوات الأمن، وإصابة 33 آخرين. هذه الهجمات جاءت على التوالي عقب هجمات إرهابية مماثلة على فنادق ومقاهي راقية في مالي وبوركينا فاسو؛ فكانت واقعة كوت ديفوار فريدة من نوعها لم تشهد لها البلاد مثيلًا خلال هذا العام([1]).
وعلى الرغم من عدم تسجيل البلاد عملية إرهابية جديدة؛ إلا أن البلاد كانت ضمن المخطط الإرهابي للتوسُّع والتمركز فيها، لا سيما في المنطقة الشمالية للبلاد، ويظهر ذلك فيما عبَّر عنه قادة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين خلال مقطع فيديو في نوفمبر 2018م، حثَّ فيه شعب الفولاني في غرب إفريقيا على “مواصلة الجهاد” -نظرًا لانضمام عدد كبير منهم للجماعات الإرهابية-، وهو ما تزامن مع ما ورد من معلومات بشأن تكليف حمدون كوفا، رئيس كتيبة ماسينا التابعة لجماعة نصرة الإسلام، لقيادي من بوركينا فاسو معروف بالاسم الحركي “حمزة” بإنشاء خلايا في شمال كوت ديفوار وتجنيد مقاتلين جُدد([2]).
خلال الفترة (2019 – 2021م)، نفَّذت الجماعات الإرهابية في هذه المنطقة سلسلة هجمات إرهابية ضد قوات الأمن والدفاع، بلغ عددها خلال عامي 2020 و2021م نحو 20 هجومًا إرهابيًّا([3])، كما اتخذت خطوات مهمة لتحويلها إلى مناطق تمركز مهمة ومخابئ لعناصرها، بالإضافة إلى جعلها مصدرًا رئيسًا لتجنيد المزيد من الإرهابيين، وتحويلها لحزمة رئيسة من مصادر تمويل الجماعات الإرهابية عبر أنشطة غير مشروعة؛ أبرزها: سرقة المواشي، والتنقيب عن الذهب، هذه الممارسات امتدت على طول الشريط الحدودي بين مالي وبوركينا فاسو وكوت ديفوار، لا سيما مع سيطرة الجماعات الإرهابية على مساحات شاسعة من بوركينا فاسو، بما في ذلك منطقة كاسكيدز الجنوبية الغربية.
ففي يونيو 2020م، استهدفت عناصر من جماعة نصرة الإسلام والمسلمين 14 جنديًّا في موقع مختلط لقوات الدرك والجيش في قرية كافولو الشمالية، على بُعد أقل من كيلومترين من الحدود([4])، جاءت العملية ردًّا على عملية كوموي المشتركة لمكافحة الإرهاب بين بوركينا فاسو وكوت ديفوار التي تم تنفيذها قبل شهر من تنفيذ هذه العملية الإرهابية، والتي تمكَّنت خلالها القوات الأمنية والعسكرية المشتركة من تفكيك البنية التحتية للجماعات الإرهابية في منطقة كوموي والمنطقة المحيطة بها في شمال شرق كوت ديفوار([5]).
وفي مارس 2021م، نفَّذت الجماعات الإرهابية هجومًا ثانيًا على مواقع للجيش في كافولو أسفر عن مقتل ثلاثة جنود. كما عثرت قوات الأمن الإيفوارية على عبوات ناسفة بدائية مزروعة على طول المسارات القريبة من الحدود، يبدو أنها محاولة مِن قِبَل جماعات العنف لإنشاء منطقة عازلة على الحدود المالية البوركينية الإيفوارية. وعقب ثلاثة أشهر من هذه الواقعة؛ بدأت الجماعات الإرهابية في تنفيذ ثاني أدواتها في التمركز بشكل خفي عبر تنفيذ محاولة للتجنيد الجماعي عبر دخول مسجد في قرية بولي من أجل إقناع المصلين بتبنّي الفكر المتطرف، وتحذيرهم من التعاون مع القوات الحكومية، وذلك دون تبني جماعة نصرة الإسلام والمسلمين لأيّ من هذه الممارسات، التي أرجع مسؤول أمني تنظيمها إلى مجموعات مسلحة صغيرة تسعى لإثبات حسن ولائها لقادة الجماعات الإرهابية([6]).
ومن اللافت للنظر أنه منذ نهاية عام 2021م وحتى يوليو 2023م، لم تُسجّل البلاد عملية إرهابية واحدة على الرغم من تدني الوضع الأمني في مالي وبوركينا فاسو كمُهدِّدات رئيسة لأمن كوت ديفوار على طول الحدود الشمالية، وذلك دون تحييد محاولات الجماعات الإرهابية لاختراق الحدود الإيفوارية والدخول إلى عمق البلاد وإنشاء مناطق تمركز لها، لا سيما في المنطقة الشمالية، وهو ما أثار تساؤلًا حول ما اعتمدته البلاد من استراتيجية لمكافحة الإرهاب، ومنع العناصر الإرهابية من خلق مناطق تمركز لها في المنطقة الشمالية.
ثانيًا: ملامح المقاربة الإيفوارية في مكافحة الإرهاب
في ظل محيط إقليمي مضطرب يتَّسم بالهشاشة والضعف على كافة المستويات، كان من اللافت تمكُّن كوت ديفوار من تحييد ساحاتها عن النشاط الإرهابي المستشري في ربوع الإقليم، والمُهدِّد لأمنها القومي، لا سيما من خلال حدودها الشمالية، وهو ما يكشف عن مقاربة أمنية فعَّالة اعتمدتها البلاد، لإفشال أيّ محاولات مِن قِبَل الجماعة الإرهابية للتمدُّد على أراضيها واعتمادها مناطق تمركز رئيسة، وهو ما يُمكن مناقشته كالتالي:
1- البُعد الأمني والعسكري لمكافحة الإرهاب:
تدرك أبيدجان أن مكافحة الإرهاب في جانبٍ منه يتطلب التعاون الإقليمي عبر تنفيذ عمليات عسكرية مشتركة بالتعاون مع الدول المجاورة، تكون قادرة على خَنْق العناصر الإرهابية وتقييد تحركاتها؛ فأطلقت البلاد أول عملية عسكرية مشتركة لمكافحة الإرهاب “عملية كوموي” في العام 2020م، بالتعاون مع القوات البوركينية بعدما عثرت الأجهزة الاستخباراتية على قائد مطلوب في شمال كوت ديفوار، هذا إلى جانب مشاركة ساحل العاج في مبادرة أكرا الأوروبية لمكافحة الإرهاب، والتي كانت القاعدة العسكرية الإيفوارية مركزًا لتدريب جيوش غرب إفريقيا الأخرى([7]).
كما أنه في إطار الجهود الإيفوارية لتعزيز سياستها الأمنية في شمال البلاد بالتعاون مع دول الإقليم وشركائها الدوليين، تعمل أبيدجان على تأسيس مركز أمني إقليمي من أجل مكافحة الإرهاب، كما افتتحت في يونيو 2021م، الأكاديمية الدولية لمكافحة الإرهاب (Académie Internationale de Lutte contre le Terrorisme، أو AILCT) في مدينة جاكوفيل الساحلية، بالتعاون مع فرنسا، تجمع بين التدريب العملي وبناء القدرات والبحث الاستراتيجي، كما تضم الأكاديمية أيضًا وحدات تدريبية للموظفين القضائيين ومديري السجون، إلى جانب كونها منصة للتعاون بين الضباط العسكريين وغيرهم من الموظفين المعنيين، مع نظرائهم من جميع أنحاء المنطقة والقارة الأوسع بعدما أكمل المسؤولون والضباط من 26 دولة إفريقية دورات تدريبية في الأكاديمية بحلول عام 2023م([8]).
أما على مستوى التحركات الأمنية المحلية؛ فقد أعلنت أبيدجان المنطقة الشمالية منطقة عسكرية مقسَّمة إلى منطقتين فرعيتين للعمليات (الشمال الغربي والشمال الشرقي)، وأرسلت قوات إضافية إلى المنطقة، بما في ذلك من وحدات مكافحة الإرهاب التابعة للجيش والشرطة والدرك([9]).
كما أنشأت قيادة عسكرية مركزية في كورهوغو في العام 2020م، وهي مدينة شمالية، لتنسيق مختلف القوات الموجودة في المنطقة، إلى جانب قواعد عسكرية أخرى على طول الحدود مع مالي وبوركينا فاسو، كالقاعدة العسكرية في كافولو باعتبارها نقطة استراتيجية حيوية يُمكن اختراقها من قبل الجماعات الإرهابية، ناهيك عن نشر ما بين 2000 و2500 جندي في المنطقة، يتم تناوبهم كل شهرين إلى ثلاثة أشهر، هذا إلى جانب ضخّ استثمارات كبيرة لتعزيز إمكانات وقدرات القوات العسكرية والأمنية(([10].
ففي أبريل 2016م، خصَّصت الحكومة أكثر من 130 مليون دولار لتعزيز قدرات قوات الأمن، تبعها تبني البرلمان خططًا بعيدة المدى لجعل الأجهزة الأمنية أكثر احترافية، تضمَّنت إجراء تخفيضات في الرواتب للسماح بزيادة الإنفاق العسكري، ومنح ضباط الجيش مكافآت كأداة تحفيزية للضباط، وكسبيل للحد من أيّ مشاعر للسخط بين صفوف القوات، ووأد أيّ محاولات للتمرد داخل الجيش، ناهيك عن رفع وتعزيز المهارات القتالية للقوات الأمنية والعسكرية، وتوفير المعدات اللازمة لتعزيز أمن الحدود وزيادة المراقبة الجوية([11]).
بالإضافة إلى ذلك؛ قامت أبيدجان برفع القوة العددية للجيش ليبلغ قوامه بحلول نهاية عام 2023م، نحو 24 ألف فرد، في حين تشير التقديرات إلى أن قوات الشرطة والدرك تمثل 40 ألف فرد إضافي من أفراد الأمن، إلى جانب إجراء حركة تغييرات في القيادات العسكرية والأمنية تضمَّنت استبدال رئيس أركان الجيش ووزير الدفاع، وكان لذلك انعكاسات على الاستراتيجية العسكرية لمكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى إنشاء مركز استخبارات لمكافحة الإرهاب Centre de rensignement opérationnel antiterroriste في أغسطس 2021م؛ لتحسين جمع المعلومات الاستخبارية، بما يُعزِّز من دور الدولة في تنفيذ العمليات البرية والجوية والاستخباراتية للحدّ من قدرة الجماعات الإرهابية على تنفيذ عمليات التوغل داخل الدولة([12]).
كما قامت أبيدجان بتطوير استراتيجية وطنية لمكافحة الإرهاب في عام 2018م، وأصدرت قانونًا لمكافحة الإرهاب لتقييد النشاط الإرهابي عبر تجفيف مصادر تمويل الجماعات الإرهابية، وتقييد سياسات الجماعة لتجنيد مزيد من العناصر الإرهابية، يتضمن السماح لقوات الأمن بالتنصت على المكالمات الهاتفية.
2- البعد الاجتماعي والاقتصادي في استراتيجية أبيدجان في مكافحة الإرهاب
من اللافت في التجربة الإيفوارية في مكافحة الإرهاب، هو عدم اقتصارها على البعد الأمني والعسكري في مكافحة النشاط الإرهابي، وإنما اعتمدت بالتوازي على إصلاحات اقتصادية هيكلية واجتماعية كانت بمثابة العمود الرئيس لفعالية دور الحكومة في مكافحة الإرهاب؛ حيث قامت أبيدجان باستثمارات عامة ضخمة في البنية التحتية لتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين، بما في ذلك الطرق وخطوط الكهرباء والمدارس والمستشفيات، لا سيما في المنطقة الشمالية([13]).
وفي خضم زخم النشاط الإرهابي خلال الفترة (2020- 2021م)؛ عملت الحكومة على معالجة مخاوف الشباب والشابات القاطنين في المنطقة الشمالية من آليات تجنيدهم مِن قِبَل الجماعات الإرهابية؛ نتيجةً للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية؛ حيث قامت الحكومة بإطلاق مبادرة لتنسيق وتنفيذ مجموعة متنوعة من المشاريع الاجتماعية، والاستثمار الأمثل لما يقدمه المانحون من مساعدات مالية وفنية كبيرة.
ولقد أطلق رئيس الوزراء حينئذ “باتريك آشي” في يناير 2022م، المرحلة الثانية من برنامج اجتماعي وطني مصمم لتقليل الفوارق الاقتصادية الإقليمية، والمعروف باسم PSGouv2.65 والممتد خلال الفترة (2022 – 2024م)([14])، والذي يستهدف تحسين الظروف المعيشية للمواطنين في المناطق الشمالية الست، إلى جانب تحسين البنية التحتية للمنطقة الشمالية وتمكين قاطنيها من الوصول إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية من تعليم وصحة وكهرباء ومياه شرب وصيانة طرق، بالتزامن مع مشروعات الإدماج المهني وتوظيف الشباب وتوفير بدلات الأمان الاجتماعي، بشكلٍ يمحو تمامًا التصورات السائدة في العادة بشأن تخلي الدولة عن المناطق الحدودية.
في هذا الإطار، قدمت الدولة من خلال هذا البرنامج دورات تدريبية مدفوعة الأجر لمدة تتراوح من 6- 9 أشهر في مِهَن مثل النجارة والخياطة وتصفيف الشعر استفاد منها نحو 22000 شاب وفتاة، معظمهم من ذوى التعليم المتدني أو الأميين، والتي تؤهلهم للحصول على قروض منخفضة الفائدة أو بدون أيّ فوائد؛ من أجل الشروع في مشاريعهم التجارية الخاصة بعد الانتهاء من التدريب. وبدلًا من ذلك، يمكن للشباب اختيار الدروس من أجل الحصول على رخصة القيادة([15]).
كما تمكنت الحكومة من توظيف محطات الإذاعة المحلية بشكل فعَّال لتعريف المواطنين بما تقدمه الحكومة من برامج تدريبية وتنموية فعَّالة وما توفره من وظائف، تمكنت من قطع الطريق أمام الجماعات الإرهابية لتوظيف المستويات الاجتماعية والاقتصادية للقاطنين في المنطقة الشمالية لتجنيد من العناصر وخلق مناطق تمركز رئيسة في شمال البلاد؛ فقد منح برنامج الأشغال العامة في كورهوغو عمال النظافة في الشوارع راتبًا شهريًّا، بالإضافة إلى مبلغ محدد لإيداعه في حساب توفير بعد ستة أشهر من العمل، وهو ما منَح فرصة للنساء للادخار وإعادة استثمار أموالهن في مشروعات صغيرة.
كما تستهدف التسهيلات الائتمانية الجمعيات القروية التي تحتاج إلى تمويل لشراء المحاصيل النقدية، أو القروض لشراء الآلات الزراعية، وكذلك أصحاب الأعمال الصغيرة مثل الخياطين أو البقالين أو مزارعي الدواجن، كما تقدم الحكومة برامج حماية اجتماعية تشمل تحويلات نقدية ربع سنوية للأسر الضعيفة للغاية. يُضاف إلى ذلك، أن الحكومة الإيفوارية حرصت في ما تقدمه من برامج للتمكين الاقتصادي والحماية الاجتماعية على إيلاء اهتمام واسع بالنساء والفتيات وتضمينهم في ما يقدمونه من مشروعات انطلاقًا من رؤيتها بأن زيادة الاستقلال المالي للنساء والفتيات يحسن رفاهية الأسر ويرفع مستوى معيشتها بشكل عام”.
علاوةً على ذلك، تعطي الحكومة الأولوية للمجموعات المكونة من ستة أشخاص أو أكثر كمعاير للموافقة على طلبات الحصول على الائتمان، وذلك للتخفيف من مخاطر عدم سداد الأموال وتعزيز التماسك الاجتماعي. كما أن اشتراط تقديم المتقدمين لوثائق الهوية والتسجيل للحصول على مدفوعات الأموال عبر الهاتف المحمول يساعد الحكومة أيضًا على تعزيز مراقبتها في المنطقة. وفي يوليو 2023م، استضافت مدينة فيركيسيدوغو الشمالية الإطلاق الرسمي للمرحلة الثانية من البرنامج الذي يستهدف نحو 30 ألف إيفواري إضافي([16]).
يُضاف إلى ذلك؛ حرصت الحكومة الإيفوارية على الحفاظ على قناة اتصال بين مسؤولي الملفين الأمني والاجتماعي للتباحث بشكل التحديات التي تواجه المنطقة الشمالية؛ عبر تشكيل ما يُعرَف بـ”اللجان المدنية العسكرية” التي تعقد اجتماعًا شهريًّا لمرة واحدة تُحافظ من خلاله على قنوات الاتصال المفتوحة بين الجيش والمحافظين والسلطات البلدية وقادة الشباب وممثلي المجتمع المحلي، بما في ذلك النساء، والتي بموجبها تُجدِّد الحكومة الثقة مع شركاء التنمية عبر الحفاظ على لغة الحوار والتفاهم والتنسيق بينهما، حول الرؤية المجتمعية والأمنية لحلّ الخلافات بين السكان المحليين والأجهزة الأمنية من جانب، والتوصل لمعالجات ممكنة لما تواجهه المنطقة من تحديات متعددة ومشتركة.
فلم يَغِب عن الحكومة الإيفوارية توظيف الجماعات الإرهابية للتحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها المنطقة الشمالية، وهو ما يُستدل عليه بما توصلت إليه دراسة حديثة صادرة 2022م بأن نحو 74% من قاطني المنطقة الشمالية يشعرون بإيجابية تجاه ما تبذله الأجهزة الأمنية من دور تجاههم، كما أعربوا عن تخوفهم من ارتفاع أسعار المواد الغذائية ومعدل البطالة، أكثر من مخاوفهم على أمنهم وسلامتهم الشخصية([17]). علاوة على ذلك، قام الرئيس واتارا بزيادة عدد مناطق البلاد من عشرة إلى 31([18])، وزيادة عدد ممثلي الحكومة (والمعينين السياسيين) من الشمال، بما يزيد الروابط بين العاصمة والمنطقة الشمالية، ويُيسر من تنفيذ أجندة التنمية الاقتصادية.
3- إعلاء التسامح الديني في المجتمع متعدِّد عرقيًّا ودينيًّا
إن أحد الأبعاد التي اعتمد عليها الرئيس واتارا في استراتيجيته الفعالة في مكافحة الإرهاب، هو بُعْد التسامح الديني؛ حيث قدَّم واتارا من نفسه كمسلم متزوج من امرأة كاثوليكية نموذجًا يُعتدّ به في التسامح الديني والتعايش السلمي؛ بغض النظر عن الاختلافات الدينية أو العرقية، لا سيما أن المسلمين يتمركون بشكل رئيس في المنطقة الشمالية، وهو يُعدّ أحد مُحفّزات التمدد الإرهابي للمنطقة الشمالية في البلاد، لذا عمل الرئيس واتارا على قطع الطريق أمام هذه الجماعات عبر إعلاء مبدأ التسامح الديني والتعايش السلمي، وتغليب لغة الحوار لتعزيز التنوع الديني في البلاد([19]).
4- تمكّن حكومة واتارا من تأمين الاستقرار الداخلي عقب توليه السلطة عام 2011م
عقب ما شهدته البلاد من صراع خلال الفترة الممتدة (2002- 2011م)، تمكنت الحكومة الإيفوارية خلال عهد الرئيس الإيفواري الحسن واتارا من فرض حالة من الاستقرار بالتوازي مع تحقيق التنمية؛ من خلال بناء بنية تحتية اقتصادية حديثة في جميع أنحاء البلاد، مكَّنته من استعادة سلطة الدولة في المناطق التي تراجعت فيها، بما في ذلك المنطقة الشمالية، وفَّرت جميعها بيئة مُحصَّنة لحد كبير على مختلف الأصعدة؛ حيث عمل واتارا على تنفيذ اتفاق السلام المبرم عام 2007م، والذي نص على تسريح نحو 6000 من المتمردين، ودمج آلاف المتمردين السابقين في القوات المسلحة، عقب تلقيهم تدريب مهني، بما ذلك قادة المتمردين الذين كانوا يديرون ميليشياتهم الخاصة في الشمال، وتمكنوا من الحفاظ عليها تحت مظلة الجيش([20])، أسفرت عن بناء جيش متماسك لحد كبير بدعم من شركاء أبيدجان الأجانب كفرنسا والصين والمغرب، فضلًا عن حفاظ النخبة السياسية على الروابط العرقية والعائلية الوثيقة التي تربط النخبة السياسية في أبيدجان بالشمال.
خلاصة القول: على الرغم من حديث العديد من البلدان الإفريقية في منطقة الساحل عن اعتمادها استراتيجية شاملة لمكافحة الإرهاب، تعتمد على الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية إلى جانب الأمنية والعسكرية؛ إلا أنه حتى هذه اللحظة تمكنت كوت ديفوار من تقديم نموذحها الناجح في تقييد تمدد النشاط الإرهابي إلى أراضيها عبر تفعيل استراتيجيتها الشاملة في مكافحة الجماعات الإرهابية.
لكن في الوقت ذاته، هناك العديد من المخاطر المحفوفة بالنموذج الإيفواري في مكافحة الإرهاب، من بينها؛ خلق الجماعات الإرهابية شبكة من التفاعلات التجارية غير المشروعة مع تجار المنطقة الشمالية؛ لتعزيز مصادر تمويلها (مثل: تربية الموشي، والزراعة والتجارة، والتنقيب عن الذهب)، إلى جانب تدفق اللاجئين من البلدان المجاورة لشمال البلاد، بما يشكلونه من مخاطر وتحديات؛ لا بد من أن تنتبه لها الحكومة الإيفوارية وتعمل على معالجتها.
………………………………..
1] Keeping Jihadists Out of Northern Côte d’Ivoire, BRIEFING 192 ( : Crisis Group, 11 AUGUST 2023)
[2] -Idem
[3] -WILLIAM ASSANVOو The threat isn’t over, but the spread has been contained by adapting and balancing military and social responses.
25 JUL 2023
https://issafrica.org/iss-today/has-cote-divoire-found-the-solution-to-violent-extremism
[4] -Living with the jihadist threat in Ivory Coast, France 24, 2 Septamber 2022.
[5]– Keeping Jihadists Out of Northern Côte d’Ivoire, OP.CIT.
[6]– Idem
[7] – نسرين الصباحى، نقاط ارتكاز: أهداف ودوافع المهمة الأمنية الأوروبية الجديدة في خليج غينيا، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 6 سبتمبر 2023م. https://ecss.com.eg/36432/
[8] -Keeping Jihadists Out of Northern Côte d’Ivoire, OP.CIT.
[9] -Idem
[10] -Idem.
[11] -Idem
[12] -Idem
[13] -Idem
[14] -Idem
[15] -idem
[16] –Idem.
[17] -Idem
[18] – Idem
[19] –Idem.
[20] -Idem.