إيمان الشعراوي
باحثة دكتوراه بكلية الدراسات الإفريقية العليا
تسبَّبت تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد التي عبّر عنها في خطابه الأخير -والذي تحدث فيه عن مسألة تأمين وصول إثيوبيا إلى البحر الأحمر، وأن هذه المسألة ذات أهمية وجودية لإثيوبيا، وأن الفشل في تأمينه قد يؤدي إلى صراع في المستقبل- حالةً من التساؤلات حول دلالات هذه التصريحات في هذا التوقيت، والمقصود منها، وذلك في الوقت الذي لم يُعلن آبي أحمد عن كيفية حدوث هذا التأمين والوصول، والدولة المعنية التي من خلالها سوف تتمكن إثيوبيا من أن يكون لها منفذ على البحر الأحمر.
وعلى الرغم من خلو خطاب آبي أحمد من الإجابة عن هذه التساؤلات، بالشكل الذي تم وصفه بالغموض؛ إلا أن هذه التصريحات أثارت ردود أفعال بعض دول الجوار الإثيوبي الذين يمتلكون موانئ مطلة على البحر الأحمر؛ حيث نصحت إريتريا -ممثلة في وزارة الإعلام- الجهات المعنية بعدم الاستفزاز. وعلى الرغم من أن بيانها لم يَذكر رئيس الوزراء آبي أحمد بشكل مباشر، ولم يُشِر إلى تصريحاته بشأن البحر الأحمر؛ إلا أن فحوى البيان فُهِمَ منه أنه جاء للردّ على آبي أحمد؛ حيث أكد بيان إريتريا بأن الخطابات -الفعلية والمفترضة- حول المياه والوصول إلى البحر والموضوعات ذات الصلة التي تم طرحها في الآونة الأخيرة كثيرة ومُبالَغ فيها، كما أن هذه القضية قد أثارت حَيْرة جميع المراقبين المعنيين، وأن الحكومة الإريترية لن تنجرّ إلى مثل هذه الموضوعات.([1])
جيبوتي أيضًا رفضت تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي لمنح بلاده إمكانية الوصول المباشر إلى ميناء على البحر الأحمر؛ حيث قال ألكسيس محمد، أحد كبار مستشاري الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيله: إن جيبوتي كانت حريصة دائمًا على علاقات ودية قوية، ولكنها دولة ذات سيادة، وسلامة أراضيها ليست موضع شك.([2])
موقف الصومال لم يختلف كثيرًا عن الموقف الإريتري والجيبوتي؛ حيث أعلن وزير الدولة للشؤون الخارجية علي عمر أنه في حين أن الصومال ملتزمة بتعزيز السلام والأمن والتجارة والتكامل؛ إلا أنها غير مهتمّة بتوفير الوصول إلى أصول استراتيجية مثل الميناء([3])، وأن سيادة الصومال وسلامته الإقليمية البرية والبحرية والجوية مُقدَّسة وغير قابلة للنقاش، كما دعا الحكومة الصومالية إلى زيادة الانتباه بشأن الطموح الإثيوبي ومساعيها لضمّ محتمل للمدن الساحلية في شمال الصومال.([4])
وبالنظر إلى ردود الفعل هذه نجد أنَّ هناك حرصًا من الدول الثلاث على رَفْض تصريحات آبي أحمد؛ وذلك بالرغم من عدم ذِكْره دولة معينة من جهة، وتأكيد هذه الدول على سيادة دولهم من جهة ثانية، والدعوة لضرورة الانتباه بشأن الطموح الإثيوبي نحو ضم إحدى المدن الساحلية المطلة على البحر الأحمر من جهة أخرى.
لماذا تسعى إثيوبيا لإيجاد موطئ قدم لها في البحر الأحمر؟
أصبحت إثيوبيا دولة حبيسة بعد استقلال إريتريا عنها عام 1991م، عقب حرب بينهما اندلعت في مايو 1998م نتيجة الخلاف على ملكية منطقتي بادمبي وزالامبسا؛ ففقدت أديس أبابا ميزة الوصول إلى البحر الأحمر بعد خلافات اقتصادية؛ إذ اتهمتها إريتريا باستغلال مينائي عصب ومصوع الإريتريين وتدفق الاستثمارات الدولية عليها وحدها، وهو ما تسبَّب في حرمان إثيوبيا من استخدام كلّ من المنفذين المطلّين على البحر الأحمر، وبمسافة قدرها 1177 و894 كيلو مترًا عن أديس أبابا على التوالي، واللذين ظلا يمثلان جزءًا من الجغرافيا السياسية للإمبراطورية الإثيوبية طوال قرون ماضية، وفي عام 2018م، توصل رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي إلى اتفاق تحصل بمقتضاه إثيوبيا على خدمات الموانئ الإريترية، لكنه لم ينفذ.([5])
وقد أدَّى افتقار إثيوبيا إلى الوصول المباشر إلى البحر الأحمر إلى تقييد قدرتها على تلبية احتياجات عدد كبير من سكانها، والبالغ عددهم ما يقرب من 127 مليون نسمة، وإعاقة النمو الاقتصادي والتنمية، ومن الناحية السياسية، فإن كونها دولة غير ساحلية يَحُدّ من الخيارات الجيواستراتيجية المتاحة لإثيوبيا في القرن الإفريقي وخارجه.
خريطة رقم (1)
توضّح خيارات الموانئ البحرية لإثيوبيا
Source: Namhla Matshanda, Landlocked Ethiopia wants better sea access: a port deal with neighbours could benefit the region, theconversation, 29 August 2023, URl
ومن شأن حصول إثيوبيا على منفذ بحري على البحر الأحمر أن يمنحها عددًا من المميزات، منها:
– المزيد من النفوذ السياسي لمساعدتها على تحقيق طموحها في السيطرة على القرن الإفريقي، فمنذ عام 1991م، كانت إثيوبيا تسير على طريق الهيمنة الإقليمية، مدعومة بهيمنتها الاقتصادية في المنطقة وفي إفريقيا، وهو ما توقَّف بسبب فقدانها أيّ وجود لها على البحر الأحمر، وقد حدَّ الصراع من طموحات إثيوبيا السياسية في المنطقة، لكنه لم ينهها.([6])
– على الجانب الأمني أظهرت الحرب الإثيوبية مع إقليم التيجراي، أهمية أن يكون لإثيوبيا منفذ بحري، وذلك في ظل مخاوف إثيوبيا خلال الفترة الماضية من إخفاقها في تأمين أكثر من بديل للتواصل مع العالم الخارجي من خلال طرق الملاحة البحرية، لا سيما بعدما أطلق مقاتلو قوات دفاع تيجراي تهديداتهم أثناء حربهم مع نظام آبي أحمد بقطع الطريق الأساسي الموجود في إقليم عفر، الواصل بين أديس أبابا وميناء جيبوتي، ما جعل الحكومة الإثيوبية تنتبه لأهمية استمرار مساعيها لإيجاد بدائل إستراتيجية لها.([7])
– البحث عن دور في أمن البحر الأحمر من خلال الانخراط في لعبة الأمم بإقليم البحر الأحمر؛ رغبةً منها في الدفاع عن مصالحها الاستراتيجية في المنطقة من خلال الحصول على موطئ قدم استراتيجي هناك، وحماية السفن الإثيوبية البالغ عددها 11 سفينة تتمركز في البحر الأحمر، خاصةً مع القرب الجغرافي لإثيوبيا من البحر الأحمر بمسافة تبلغ حوالي 60 كيلو مترًا تقريبًا، علاوةً على تقديم تسهيلات عسكرية ولوجستية للدول الحليفة لها. وقد يسهم ذلك بدوره في تعزيز دورها الإقليمي والظهور كرقم مهم في المعادلة الأمنية للبحر الأحمر، وإبداء الرأي في صياغة الأهداف البحرية الإقليمية إلى جانب تقديم نفسها للقوى الدولية الفاعلة كشريك وحليف كفء في أمن واستقرار القرن الإفريقي والبحر الأحمر، وذلك من خلال لعب دور في تأمين التجارة الدولية والملاحة البحرية والمضايق البحرية بما في ذلك مضيق باب المندب الاستراتيجي.([8])
– إعادة تأسيس إثيوبيا قواتها البحرية التي تفككت إبَّان استقلال إريتريا، وهو ما تم الإعلان عنه في عام 2019م، ولكنه لن يُكتب له النجاح والفاعلية بدون وجود منفذ على البحر الأحمر، ويأتي ذلك في إطار رغبة إثيوبيا في لعب أدوار إقليمية تتجاوز الجغرافيا الإثيوبية، والبحث عن توسيع دائرة قدراتها؛ حيث لا يتوقف الأمر على مجرد توسيع قدراتها لأغراض الملاحة التجارية، لكن المشروع في شقّه العسكري يطرح قضايا إشكالية؛ لا سيما وأنه لم يتمَّ في إطار اتفاقات وتفاهمات إقليمية، ما عزَّز فكرة إعادة تأسيس القوة البحرية الإثيوبية في عقل آبي أحمد.([9])
إثيوبيا وتنويع منافذها البحرية
بعد حرمان إثيوبيا من استغلال مينائي عصب ومصوع، بدأت تبحث عن بدائل لهما؛ حيث اعتمدت بشكل كلي على ميناء جيبوتي الذي يبعد 560 كيلو مترًا من أديس أبابا، وفق اتفاق ثنائي بين البلدين.
كما دخل كلّ من السودان ودولة صومالاند (غير معترف بها دوليًّا) في اتفاقات ثنائية مع أديس أبابا؛ تستخدم بموجبهما الأخيرة المنطقة الحرة في ميناء سواكن السوداني الذي يبعد عن العاصمة الإثيوبية مسافة 1192 كيلو مترًا، إلى جانب اتفاق آخر مع دولة صومالاند لاستخدام ميناء بربرة المُستحدَث على بعد 943 كيلو مترًا تمتلك بموجبه إثيوبيا 19% منه، وحصول موانئ دبي على حصة ملكية تبلغ 51%، وصومالاند على 31%، فضلًا عن توقيع عدد مع الاتفاقيات الأخرى مع الصومال وكينيا بشأن استخدام موانيهما البحرية لتسهيل التجارة الإثيوبية.([10])
وظلت إثيوبيا (ثاني تعداد سكاني في إفريقيا بعد نيجيريا)، تعمل على تنويع منافذها البحرية؛ حتى لا تكون رهينة لأيّ جهة، وذلك في ظل اقتصادها البالغ 126.78 مليار دولار عام 2022م.([11])، إلا أنه مع ذلك يُعتبر ميناء جيبوتي العصب الرئيسي لنقل التجارة الإثيوبية بنسبة تتجاوز الـ90%، وإلى الآن لم تنجح محاولات إثيوبيا في تنويع منافذها البحرية، وذلك بسبب الأزمات السياسية والأمنية التي واجهت إثيوبيا نفسها، فضلًا عن حالة عدم الاستقرار في الصومال والسودان.
“عصب ومصوع.. جيبوتي.. بربرة”.. من الأقرب لطموحات آبي أحمد؟
على الرغم من عودة العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا عقب توقيع اتفاق السلام بين آبي أحمد والرئيس أسياس أفورقي في عام 2018م، ومساندة إريتريا لإثيوبيا في حربها الأخيرة ضد إقليم التيجراي؛ إلا أنه ما لبثت أن شهدت هذه العلاقة تدهورًا بعد توقيع اتفاق السلام الشامل بين الحكومة المركزية لأديس أبابا، وجبهة تحرير التيجراي، ويدلل على ذلك تعليق الزيارات الرسمية بين قيادة البلدين مند توقيع اتفاق السلام، لا سيما أن الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، ظلا يعقدان لقاءات قمة متكررة خلال العامين الماضيين، قبل أن تتوقف تلك الزيارات.
كما يمكن ملاحظة الانتقادات التي وجَّهها الرئيس الإريتري لاتفاق بريتوريا، الذي اعتبره “صفقة أمريكية مُعدَّة مسبقًا، وأن دور المفاوضين من الطرفين لم يتعدَّ حدود تنفيذ الأوامر الأمريكية بالتوقيع على الوثيقة التي أتت من واشنطن”، وفي حين لم يصدر تعليق على تلك التصريحات من الجانب الإثيوبي حينها، إلا أن إعلام أديس أبابا وبعض الشخصيات المعارضة، اعتبرت ذلك “تدخُّلًا سافرًا في الشؤون الداخلية الإثيوبية، من قبل رئيس دولة جارة”.([12])
ومع انفجار الأوضاع مؤخرًا، في إقليم الأمهرا في أبريل 2023م إثر محاولات الحكومة المركزية نزع سلاح الميليشيات، وما تبع ذلك من أحداث، وجَّه آبي أحمد انتقادات لأطراف من الخارج لم يُسَمِّها، لكنها فهمت بأنها موجهة للطرف الإريتري، الذي يعتقد أنه يدعم موقف الأمهرا.
وبالرغم من أن خطاب رئيس الوزراء الإثيوبي لم يذكر فيه أي دولة، إلا أنه يُفهَم منه أن المَنْفَذ البحري الذي تريده إثيوبيا هو ميناء عصب الإريتري، ويعزز أهمية ميناء عصب بالنسبة لإثيوبيا عدة أسباب، من أهمها ما يلي:
– ميناء عصب كان تاريخيًّا تابعًا لإثيوبيا، وجزءًا لا يتجزأ من البنية التحتية البحرية لها، وبوابة حيوية للتجارة الإثيوبية وربطها بالاقتصاد العالمي، وقد أثَّر الحرمان اللاحق من الوصول إلى هذا الميناء بشكل كبير على اقتصاد إثيوبيا، وأعاق قدرتها على المشاركة في التجارة الدولية بحُرّية.([13])
– أثبت الاعتماد على ميناء جيبوتي أنه مُكلّف وغير مستدامٍ، كما أنه لا يكفي لخدمة إثيوبيا؛ بسبب ارتفاع حجم الواردات وازدحام الميناء بخدمة عدد من القوات البحرية، واحتواء جيبوتي على أكبر قواعد عسكرية في العالم؛ مما يُصعّب على إثيوبيا الاستحواذ على ميناء جيبوتي، كما أن النقل بين جيبوتي وبحر دار، يحتاج إلى بناء سكك حديدية مكلفة، والنقل البري بين الموانئ الإريترية والأجزاء الشمالية لإثيوبيا قصير للغاية، وذلك في الوقت الذي قد يحدث الاضطراب السياسي في أيّ دولة في العالم بما في ذلك جيبوتي، بما يحتّم على إثيوبيا تهيئة بدائل أكثر ضمانًا تتيح الوصول إلى البحر الأحمر، كما أن استعانة جيبوتي بمصادر خارجية لخدمات الموانئ قد يتسبّب بزيادة التكاليف، بما يجعل ميناء عصب خيارًا أفضل يخدم إريتريا، ويضمن نقل السلع الإثيوبية بتكاليف معقولة.([14])
– ميناء عصب خيار حيوي لخدمة الأجزاء الشمالية والشمالية الشرقية من إثيوبيا، وللمساعدة في تسهيل نقل البضائع إلى الأسواق الدولية، وتعظيم الاستفادة من الموارد المعدنية الهائلة بشرق إثيوبيا وايصالها الى الأسواق العالمية.
– القرب الجغرافي لميناء عصب مفيد في تصدير السلع بأقل تكلفة، بما يعزّز القدرة التنافسية الدولية واختراق الأسواق العالمية، وضمان الأمن التجاري ودعم كفاءة التصدير في إثيوبيا، وبالتالي مساعدة البلاد على تصدير كميات السلع المعنية في الزمان والمكان المحددين؛ خاصةً وأن ارتفاع تكلفة النقل تُعتبر من محددات التصدير الرئيسية في إثيوبيا.
– ازدحام ميناء جيبوتي يفرض على إثيوبيا بناء موانئ جافة مكلِّفة في المناطق النائية، خاصة مع حاجة إثيوبيا إلى تعزيز أنشطة الاستيراد والتصدير، ومعالجة تأخير استيراد المدخلات وضمان إنجاز المشاريع الضخمة في الوقت المناسب بخلاف بقاء السفن في البحر لعدة أيام بجيبوتي، واضطرار إثيوبيا لاستخدام قوارب صغيرة لنقل البضائع، وبالتالي تكبّدها تكاليف إضافية، بعكس ميناء عصب الذي يمكنه استقبال السفن الضخمة، وتفريغ حمولتها، وإمكانية توسعته كمنطقة معفاة من الضرائب ولكونه منفذًا بحريًّا دوليًّا.([15])
– تواجه إثيوبيا تحديات كثيرة في الاستفادة من ميناء بربرة، خاصةً فيما يتعلق بالوضعية القانونية لأرض الصومال الذي لم ينل الاعتراف الدولي منذ إعلانه الانفصال عن الصومال في تسعينيات القرن الماضي، كما أن التقارب مع أرض الصومال يؤثر على علاقة إثيوبيا بالحكومة المركزية في مقديشو([16]).
– على الرغم من أن ميناء عصب ليست متطورة مثل ميناء جيبوتي، لكن بالإمكان تطوير مرافقها وبنيتها التحتية، كما أن إعادة استخدام ميناء عصب سيساعد إثيوبيا في تصدير النفط المعالج إلى السوق العالمية بأسعار أفضل، من خلال تجديد منشأة مصفاة النفط الحالية. علاوة على ذلك، سيكون المرفق ضروريًّا لإنتاج المشتقات النفطية محليًّا.
جدول رقم (1)
يوضح الموانئ الأكثر أهمية بالنسبة لإثيوبيا لنقل تجاراتها للعالم الخارجي
الدولة | الميناء الأكثر نقلًا للبضائع الإثيوبية | مقدار المسافة عن إثيوبيا | ملاحظات |
إريتريا | ميناء عصب
وميناء مصوع |
يبعدان 1177 و894 كيلو مترًا عن على التوالي | يستحوذان على أقل من 5% من تجارة إثيوبيا |
جيبوتي | جيبوتي | يبعد 560 كيلو مترًا | يستحوذ على 90% من تجارة إثيوبيا مع العالم الخارجي. |
أرض الصومال (غير معترف بها دوليًّا) | بربرة | يبعد 943 كيلو مترًا | يستحوذ على أقل من 5% من تجارة إثيوبيا |
الجدول من إعداد الباحثة
الهروب للبحر الأحمر.. هل يستغل آبي أحمد “المنفذ البحري” للهروب من أزماته الداخلية؟
لم يمنع توقيع إثيوبيا اتفاقية سلام مع إقليم التيجراي ووقف الحرب الأهلية، اندلاع الاشتباكات مع أقاليم أخرى، ووقف سلسلة الأزمات التي تواجه حكومة آبي أحمد وتعيشها البلاد نتيجة عدم القدرة على إدارة التعددية الإثنية التي تتمتع بها إثيوبيا، وبخاصة في إقليم أمهرة الذي يضم مجموعات كبيرة ومتنوعة من الإثنيات، والتي لا تعترف في معظمها بالواقع الجديد الذي فرضته هذه الاتفاقية وحل الميليشيات المسلحة كافة وإعادة دمج عناصرها داخل الجيش النظامي، وهو ما ترتَّب عنه اندلاع الاشتباكات بين الحكومة المركزية وعدد من هذه المليشيات بالشكل الذي يهدد استقرار إثيوبيا الهشّ بالفعل، واقتصادها الذي ما يزال يعاني من تداعيات حرب التيجراي، فضلًا عن تدهور الأوضاع الاقتصادية وارتفاع معدلات التضخم، وانعدام الأمن الغذائي، والذي يعد في إثيوبيا من أسوأ حالات انعدام الأمن الغذائي في العالم.([17])
كل هذه المؤشرات جعلت البعض يعزو تصريحات آبي أحمد بشأن الوصول للبحر الأحمر، محاولة لتحويل انتباه الرأي العام عن الأزمات الداخلية التي تُواجه حكومته، وتوحيد القوميات الإثيوبية، نحو هدف جديد ممَّا يعزز الشعور بالهوية القومية الإثيوبية ويواجه الأزمات الداخلية.([18])
وعلى الرغم من أن هذا التفسير قد يكون حقيقيًّا في أحد جوانبه، إلا أن ذلك لا يمنع من النظرة التوسعية الإثيوبية والعمل على توسيع حدودها على حساب جيرانها من دول القرن الإفريقي على مدار التاريخ، فضلًا عن طموح آبي أحمد وإستراتيجيته بأن تكون إثيوبيا قائدة في منطقة القرن الإفريقي، وهو ما لم يحدث بدون تمكن إثيوبيا من وجود منفذ بحري لها على البحر الأحمر.
شكل رقم (1)
مقارنة بين معدلات التضخم، ومتوسط أسعار المستهلك في إثيوبيا والعالم
Source: Inflation rate, average consumer prices
Annual percent change, International Monetary Fund, 2023, URL
https://www.thenewhumanitarian.org/newsfeature/2023/08/01/boom-bust-fallout-war-and-drought-leaves-ethiopians-mired-poverty
السيناريوهات المستقبلية
في ضوء ما سبق تتجه السيناريوهات المستقبلية لتشمل ثلاثة اتجاهات:
السيناريو الأول: استمرار آبي أحمد في سياسة التراشق بالتصريحات، والاكتفاء في خطاباته بذكر حق إثيوبيا في أن يكون لها منفذ بحري على البحر الأحمر، وهو ما سيصاحبه أيضًا بعض ردود الأفعال الكلامية من إريتريا وجيبوتي والصومال، بالشكل الذي قد يؤثر سلبًا على العلاقات بين إثيوبيا ودول جوارها؛ تحسبًا من الطموح الإثيوبي الذي سيسعى آبي أحمد أن يُحوّله لخطوات فعلية بعد أن تستقر الأوضاع في إثيوبيا.
السيناريو الثاني: اتخاذ آبي أحمد طريق الجانب التعاوني وتنويع الاعتماد على الموانئ المختلفة وليس الاقتصار على ميناء جيبوتي فقط، وذلك عن طريق عقد مزيد من الاتفاقيات والتفاهمات لنقل تجارته ولربطه بالعالم الخارجي.
السيناريو الثالث: تحوّل التصريحات الكلامية إلى صراع وخطوات تتَّخذها الدولة الإثيوبية من أجل أن يكون لها موطئ قدم على البحر الأحمر، وهو ما قد يحدث في إريتريا بشكل أقرب عن طريق دعم المطالب الخاصة بإسقاط أسياس أفورقي الذي يحكم البلاد منذ الاستقلال، وهو ما سيترتب عليه زعزعة الأمن الإقليمي لدول القرن الإفريقي الذي يعاني معظم دوله من صراعات سياسية وأزمات اقتصادية طاحنة.
وعلى الرغم من تطلعات إثيوبيا للاستحواذ على هذه الموانئ بالقوة من خلال السيناريو الثالث؛ إلا أنه مُستبعَد قيام إثيوبيا بذلك الفترة الراهنة بسبب تعقُّد الوضع الداخلي والانقسام بين الجماعات الإثنية المختلفة، وعدم قدرة إثيوبيا بعد حرب التيجراي التي استنفزت اقتصادها للدخول في صراع مع إحدى الدول المجاورة، لذلك يكون السيناريو الأول هو الأقرب حدوثًا؛ وذلك لأنه يُتيح لآبي أحمد الاستفادة من هذه التصريحات على المستوى الداخلي في ظل حالة الانقسام الإثني وتجميع الشعوب الإثيوبية حول هدف قومي جديد.
ختامًا.. يمكن القول: إن حالة الغموض التي انتابت خطاب آبي أحمد، وسرعة ردود الأفعال الرافضة من قبل إريتريا وجيبوتي والصومال، تؤكد أن الفترة القادمة سوف تشهد تدهورًا في العلاقات بين الطرفين، وحالة من عدم الاستقرار السياسي، وذلك في حالة اتخاذ آبي أحمد خطوات غير سلمية مدعومة مِن قِبَل الولايات المتحدة الأمريكية وأطراف دولية أخرى من أجل تعزيز وجود إثيوبيا على البحر الأحمر.
__________________
[1]Eritrea responds to Abiy’s controversial Red Sea remark, Eritrea responds to Abiy’s controversial Red Sea remar,16October2023, clubofmozambique, URL
https://clubofmozambique.com/news/eritrea-responds-to-abiys-controversial-red-sea-remark-246849/
[2] Simon Marks, Djibouti Latest Nation to Reject Ethiopia’s Red Sea Access Plea, October 19, 2023, URL
https://www.bloomberg.com/news/articles/2023-10-19/djibouti-latest-nation-to-reject-ethiopia-s-red-sea-access-plea#xj4y7vzkg
[3]Somali presidential advisor says Ethiopia’s demands on access to Red Sea should be taken seriously, October 16, 2023, somaliguardian, URL
https://somaliguardian.com/news/somalia-news/somali-presidential-advisor-says-ethiopias-demands-on-access-to-red-sea-should-be-taken-seriously/
[4] الصومال يرفض الدخول في مفاوضات مع إثيوبيا بشأن منحها حق الوصول إلى ميناء في البحر الأحمر، الصومال الجديد، 19 أكتوبر 2023م، متاح على الرابط التالي:
https://2u.pw/F22es9J
[5] هاشم علي حامد محمد، هل تجد إثيوبيا “الحبيسة” ضالتها على البحر الأحمر؟، اندبندنت عربية، 20 أكتوبر 2023م، متاح على الرابط التالي:
https://2u.pw/SgBZUpu
[6] Berouk Mesfin, Ethiopia’s Role and Foreign Policy in the Horn of Africa, International Journal of Ethiopian Studies (California:Tsehai Publishers, Vol. 6, No. 1/2 (2012), PP90-91.
[7]Somaliland: The Strategic Importance of Assab, Berbera ports for Ethiopia, somalilandstandard, 7 June2023, URL
https://somalilandstandard.com/somaliland-the-strategic-importance-of-assab-berbera-ports-for-ethiopia/
[8] أحمد عسكر، لماذا تسعى إثيوبيا لامتلاك منفذ بحري؟ (القاهرة: مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، 2023م)، ص4.
[9]Cornelia Toelgye, The revival of Ethiopian Navy, the Horn of Africa, the Red Sea, Regional power dynamics, Africa-express,25 June2020, URL
https://www.africa-express.info/2020/01/25/the-revival-of-ethiopian-navy-the-horn-of-africa-the-red-sea-regional-power-dynamics/
[10][10] هاشم علي حامد محمد، هل تجد إثيوبيا “الحبيسة” ضالتها على البحر الأحمر؟، اندبنتدنت عربية، 20 أكتوبر 2023م، متاح على الرابط التالي:
https://2u.pw/nSXfZ5z
[11]White P, War and food security in Eritrea and Ethiopia, 1998-2000(Amsterdam: Elsevier, Volume 29, 2005), PP 95-96.
[12] محمود أبو بكر، إثيوبيا وإريتريا… علاقة فاترة تلتقي للمصلحة وتفترق بالسياسة، اندبندنت عربية، 19 مايو 2023م، متاح على الرابط التالي:
https://2u.pw/RpGK6Ga
[13]Staff Writer, Ethiopia Revives an Age-old Question: Access to Sea, Hornreview, July 25, 2023, URL
https://hornreview.org/ethiopia-revives-an-age-old-question-access-to-sea/
[14] ما هي أهمية ميناء عصب لإثيوبيا؟، الراكوبة، 1 أغسطس 2018م، متاح على الرابط التالي:
https://2u.pw/tFzlDWY
[15]Tanja R. Müllerm, Back to square one between Eritrea and Ethiopia? Eritrean foreign policy and the repercussions of geopolitical re-alignments in the Horn(Berlin: researchgate, 2018), PP10-11.
[16] Brendon J. Cannon and Ash Rositter, Ethiopia, Berbera Port and the Shifting Balance of Power in the Horn of Africa, Rising Powers in Global Governance, December 2017, URL
[17] The food, fuel, finance crisis: Ethiopia under the spotlight, helpage International,
19 January 2023, URL
https://www.helpage.org/news/the-food-fuel-finance-crisis-ethiopia-under-the-spotlight/
[18]Eritrea ‘unprovoked’ by Ethiopian PM’s ‘Red Sea statement’, apanews, 17 October2023, URL
https://apanews.net/eritrea-unprovoked-by-ethiopian-pms-red-sea-statement/