بات واضحًا مدى تعمُّق المشكلات الإفريقية المتزايدة في بيئات راكدة للغاية، ولا تشهد تحولات حقيقية تُمكِّن المواطن الإفريقي من تجاوُز عتبات الأزمات إلى التركيز في المستقبل، والعمل على خلق مناخات جديدة داخل الدول الإفريقية. ولم تزل أجندات التدخل الخارجي -والذي وصل إلى مرحلة التنافس اللحظي- تتنافس على كلّ ما يخص القارة الإفريقية سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا.
يناقش المقال الأول مسألة بالغة الخطورة؛ وهي: الدور الأمني والعسكري الذي تلعبه دولة رواندا الصغيرة -التي تَستسيغ وصفها بإسرائيل إفريقيا- في ملفات أمنية مهمة، أبرزها مواجهة الإرهاب، وتأمين مواقع الثروات المعدنية والطاقوية في دول من مثل جمهورية إفريقيا الوسطى وموزمبيق وبنين، وإلى جانب رصد المقال لتناقضات قوة رواندا المفترَضة مع حجم أدوارها المتصاعد (وبدعم من دول إقليمية ودولية كبيرة)؛ فإنه كشف جانبًا بالغ الخطورة وهو استثمار رواندا عبر مجموعة كبيرة من شركاتها في مناطق الأزمات تلك؛ مما يؤشّر بطبيعة الحال إلى نهج “استعماري داخلي” يُمكِّن رواندا من الاستفادة من ثروات تلك الدول واستغلالها لغايات أخرى بحاجة إلى مزيد من الاستقصاء في واقع الأمر.
أما المقال الثاني فقد نشرته “صوت أمريكا”، وحاولت أن تبدو فيه موضوعية إلى حدٍّ ما. وتناول المقال مساعي الولايات المتحدة، ومن خلفها “الدول الغربية”، إلى تغيير سلسلة إمداد المعادن في إفريقيا، وتحجيم الدور الصيني في تلك السلسلة، لكنَّ المقال في مُجمله جاء مجافيًا لتلك الموضوعية، وفارضًا للعديد من المقولات الخاطئة (مثل: عدم تنبُّه الغرب للحضور الصيني في إفريقيا طوال عقدين كاملين)؛ للوصول إلى خلاصات غير صحيحة أو على الأقل رغبوية بشكل واضح.
وتناول المقال الثالث أثر ارتفاع معدلات الفائدة على أداء الاقتصادات الإفريقية الكبرى (واقتصر العرض هنا على دول إفريقيا جنوب الصحراء)، وهو أثر بالغ الضرر بتلك الاقتصادات، وتوقَّع المقال تعاظمه في العام المقبل، وإحداث أزمات اقتصادية وسياسية ربما غير مسبوقة في تلك الدول تحت وطأة تزايد أعباء خدمة الديون وارتفاعات التضخم لمستويات قياسية جديدة.
رواندا تستهدف منصب شرطي إفريقيا الجديد([1])
أعلن الرئيس الرواندي بول كاجامي في سبتمبر الماضي عزمه خوض الانتخابات الرئاسية للفوز بفترة رئاسة رابعة تعزز مدة حكمه؛ حيث يدير البلاد فعليًّا منذ العام 1994م، دون أن يُتيح أي فرصة أمام بروز معارضة سياسية حقيقية؛ حيث وصل الأمر إلى تخوّف أيّ من المعارضين حاليًّا من خوض الانتخابات المزمعة ضده.
وتتمثل أداة كاجامي القوية في إحكام سيطرته على رواندا في جيشه الذي بات يخوض حروبًا في جمهورية إفريقيا الوسطى، وضد الجماعات المسلحة في موزمبيق، ويتوقع نشر 3000 جندي رواندي في بنين على بعد نحو 3000 كيلومتر لمحاربة المسلحين على أطراف الساحل. وتعد عمليات الانتشار هذه خارج حدود البلاد في صميم استراتيجية كاجامي من أجل جعل رواندا دولة مصدرة للأمن في أرجاء إفريقيا- أو “الشرطي في الجوار”. ويقوم كاجامي بشغل فراغ ظهر (مباغتًا) في ظل فوضى. إذ يقوم الإرهابيون بترويع الملايين في أرجاء الساحل. ويواجه النفوذ الغربي تحديًا مِن قِبَل الصين وروسيا، ومِن قِبَل وافدين جددد مثل مجموعة فاغنر الروسية.
وللمفارقة فإنه مع تحول كاجامي ليكون شرطي إفريقيا؛ فإن حكومته صُنِّفت (وفق تقرير لهيومان رايتس ووتش HRW في 10 أكتوبر الجاري) على أنها الحكومة الأكثر استبدادًا في الإقليم؛ إذ وثق التقرير حملة (أمنية) رواندية خارج أراضيها تتضمن أعمالًا عدائية تشمل عمليات قتل واختطاف ومحاولة اختطاف وهجمات عنيفة استهدفت روانديين يعيشون في الخارج منذ العام 2017م.
وقد اتُّهمت الحكومة الرواندية في السابق بقتل مواطنين منفيين رفيعي المستوى مثل باتريك كاريجيا P. Karegeya، رئيس جهاز الاستخبارات السابق في إدارة كاجامي، الذي عُثر عليه مشنوقًا حتى الموت في غرفة فندق في جنوب إفريقيا في العام 2014م. وهو أمر أثار (لحظتها) استنكارًا أمريكيًّا (وكان السيد قد أنكر تورط رواندا، لكنه لم يتوانَ عن إخبار “وول ستريت جورنال” عبارة خطيرة: “كنت آمل بالفعل أن تكون رواندا قد قامت بذلك”)، وأشار تقرير هيومان رايتس ووتش إلى أن هذه الانتهاكات في الخارج ليست شائعة ومستمرة فحسب، لكنها تتم بتيسيير من قوات كاجامي المنتشرة في مناطق عملياتها الإفريقية. وقالت حكومة رواندا: إن “هيومان رايتس ووتش تواصل تقديم صورة مشوهة لرواندا لا توجد إلا في مخيلتها”.
ويبدو من الوهلة الأولى أن فكرة أن رواندا دولة مصدرة للأمن غريبة للغاية. فعدد سكانها يقف عند 13 مليون نسمة، ويبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي نصف نظيره تقريبًا في هاييني، ويبلغ عدد الجنود النظاميين في الجيش الرواندي 33 ألف جندي فقط. لكن قوات رواندا قوية ومُدرَّبة جيدًا، وتمكنت من إلحاق هزائم بجارتها الكونغو الديمقراطية التي تبلغ نحو مائة ضعف مساحة رواندا.
كما أن رواندا ثالث أكبر مساهم في العالم في قوات حفظ السلام الأممية بقوات يبلغ عددها ستة آلاف جندي يحققون دخلًا شهريًّا بقيمة 8,5 مليون دولار. ونالت رواندا امتنان صناع السياسة الغربيين، ومساعدة الغرب لرواندا في نيل التدريب والدعم من الدول الأعضاء في الناتو حسب ملاحظة ج. بيتر فام J. P. Pham. وفي الأعوام القليلة السابقة قدم كاجامي قواته مباشرة (دون ترتيبات من الاتحاد الإفريقي على سبيل المثال) للحكومات الإفريقية التي تواجه مشكلات داخل حدودها.
وعلى سبيل المثال فإنه أرسل في العام 2020م نحو ألف جندي لمحاربة المتمردين الذين كانوا يهددون نظام رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى فوستين-آرشنجي تواديرا؛ حيث حاربت قوات رواندا جنبًا إلى جنب قوات مرتزقة فاغنر. وفي العام التالي أرسلت رواندا قوات لموزمبيق لمواجهة الإرهابيين الذين أوقفوا مشروعًا للغاز الطبيعي بقيمة 20 بليون دولار بقيادة شركة توتال انيرجيز الفرنسية. وتعد بنين آخر دولة إفريقية تستدعي قوات كاجامي لمساعدتها بعد هجمات من الإرهابيين من بوركينا فاسو والنيجر.
ويبدو أن عمليات الانتشار هذه كانت تهدف إلى تحقيق هدفين رئيسين (لنظام كاجامي) وهما: صنع المال والتأثير في الأفراد. فقد أسهم الاتحاد الأوروبي بنحو 20 مليون يورو (22 مليون دولار) لبعثة رواندا في موزمبيق، واتخذت المدفوعات في الواقع شكل مَنْح شركات المناجم الرواندية حقوقًا في استخراج المعادن (في موزمبيق).
وقد أقر كاجامي بذلك في مقابلة مع Africa Report بنصه: “لأن جمهورية إفريقيا الوسطى وموزمبيق لا يملكان المال، فإنهم اتفقوا على التوصل “لوسيلة أخرى” لتعويض رواندا.
وقد دخل -حسب ديفيد هيمبارا D. Himbara وهو مستشار اقتصادي سابق لكاجامي ومن أبرز معارضيه حاليًا في الخارج- عدد من الشركات الرواندية (ذات الصلة بشركة Crystal Ventures وهي شركة قابضة وتمثل الذراع الاستثماري للحزب الحاكم في رواندا) في البلدين، ونالت استثمارات مهمة (لا سيما في قطاع التعدين). وهناك حاليًا أكثر من 100 شركة رواندية مسجلة في جمهورية إفريقيا الوسطى مقارنة بعشرين شركة فقط في العام 2019م، كما منحت شركة على صلة بالحكومة الرواندية امتيازات لمدة 25 عامًا في خمسة مناجم. وتقوم شركات رواندية تابعة لشركة Crystal Ventures القابضة بأعمال في موزمبيق.
أمريكا تسعى “لتنويع” سلسلة إمداد المعادن الإفريقية التي تهيمن عليها الصين([2])
تعد إفريقيا ساحة لمعركة جديدة على النفوذ مع تحمُّس واشنطن الواضح لزيادة جهودها لبناء سلسلة إمداد معدنية مهمة بديلة من أجل تفادي الاعتماد على الصين؛ إذ تهيمن بكين على معالجة معادن مهمة مثل الكوبالت والليثيوم والموارد الأخرى من القارة التي تحتاج إلى الانتقال إلى الطاقة النظيفة والعربات الكهربائية.
لكن لم يرغب إلا عدد قليل من حضور قمة الطاقة الخضراء في إفريقيا Green Energy Africa Summit في منتصف أكتوبر الجاري في كيب تاون -والتي عقدت على هامش أسبوع النفط في إفريقيا- في الحديث عن ذلك الأمر مباشرة.
وفي إجابة عن سؤال من أحد الحاضرين عما إذا كانت الولايات المتحدة تلاحق الصين (في إفريقيا)؛ رد كمبرلي هارينجتون، مساعد وزير الخارجية الأمريكي في مكتب موارد الطاقة بالخارجية، ببساطة أن واشنطن تسعى “للتنويع”.
ورغم تباين وجهتي نظر واشنطن وبكين إزاء انخراطهما في التنافس على معادن القارة الإفريقية؛ فإن محللين مستقلين رأوا الأمر من زاوية مغايرة. منها أن الصينيين قد وضعوا “أولوية للاستحواذ على المعادن المهمة (في إفريقيا) طوال العقدين الفائتين، وأنهم دعموا تلك الاستراتيجية بدبلوماسية شعبية موسعة واستثمارات ضخمة في البنية التحتية في إفريقيا؛ جاء أغلبها مصحوبًا بديون طويلة الأجل. وأن الغرب تنبَّه لتلك الاستراتيجية في وقت متأخر، وبدأ من وقتها التكالب على موارد القارة الإفريقية المعدنية.
وكانت مبادرة الشراكة الأمنية والمعادن Minerals Security Partnership التي أطلقتها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في العام الماضي جزءًا من هذه الاستجابة (الغربية) كوسيلة لتنويع سلاسل الإمداد.
وتشمل قائمة شركاء المبادرة كلًّا من أستراليا وكندا وفنلندا وفرنسا واليابان وكوريا الجنوبية والنرويج والسويد والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي.
إفريقيًّا كان الرئيس الكونغولي فيلكس تشيسيكيدي من بين أبرز القادة الأفارقة الذين طالبوا بشروط أفضل من الصين في السنوات الماضية. وتنتج بلاده نحو 70% من إنتاج العالم من الكوبالت، لكنها لا تزال واحدة من أقلّ دول العالم نموًّا. واشتكى تشيسيكيدي في يناير 2023م من أن الشعب الكونغولي لا يستفيد من عقد المعادن مقابل بنية تحتية بقيمة 6,2 بليون دولار مُوقَّع مِن قِبَل الرئيس السابق مع الصين.
ونفس الأمر في زيمبابوي، التي تملك أكبر احتياطيات من الليثيوم؛ حيث فرضت الحكومة حظرًا على تصدير الليثيوم الخام الذي سيتم معالجته داخل البلاد. وبنت شركة صينية مصنعًا ضخمًا لمعالجة الليثيوم في زيمبابوي لهذا الغرض.
عهد جديد من معدلات الفائدة المرتفعة يضع إفريقيا على المحك([3])
يُعدّ ارتفاع أسعار الطاقة العالمية في الربع الثالث من العام 2023م تذكيرًا في وقته تمامًا بأن البنوك المركزية التي تشنّ حروبًا ضد التضخم لم تَفز في الحرب بعدُ.
ورغم أن التضخم العالمي قد تباطأ من ارتفاعاته القياسية في العام 2022م؛ فإن التضخم في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي لا يزال أعلى من هدف 2% الذي تسعى البنوك المركزية في تلك الدول للوصول إليه؛ باعتباره معدل التضخم المثالي. ويزيد ذلك من احتمال محافظة البنوك المركزية في إفريقيا وحول العالم -لاسيما تلك التي تراقب عن كثب (قرارات) بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي- على استمرار معدلات فائدة مرتفعة في المستقبل المنظور.
ارتفاع أعباء الاقتراض إفريقيًّا:
إن ترجيح استمرار معدلات الفائدة مرتفعة في العام 2024م وما بعده يمثل تحديات خطيرة للعديد من الاقتصادات الإفريقية، بما في ذلك قوى إقليمية كبرى مثل جنوب إفريقيا وكينيا ونيجيريا. فقد ارتفعت مستويات الدَّيْن العام بتلك الدول على نحو كبير للغاية في السنوات الأخيرة مع لجوء حكوماتها إلى الزيادة السريعة في الإنفاق العام من أجل تخفيف آثار الصدمات العالمية المتنوعة مثل كوفيد-19 والتضخم.
وقد تفاقمت الآثار السلبية لتحدي ارتفاع الدين العام وسط ارتفاعات معدلات الفائدة في إفريقيا بسبب حقيقة أن أغلب العملات المحلية في أرجاء القارة قد فقدت أرضيتها مقابل الدولار الأمريكي في السنوات الأخيرة. مما جعل الواردات أكثر تكلفة، وزاد من أعباء خدمة الديون لصالح الدَّيْن الخارجي الذي يهيمن عليه الدولار.
إن العهد الجديد من ارتفاع معدلات الفائدة يضع إفريقيا في نقطة حَرجة بسبب سرعة توسُّع الدين العام في القارة في فترة 5-10 أعوام السابقة. وفي جنوب إفريقيا، على سبيل المثال، يُتوقع أن تصل أرقام الدين الحكومي الصافي إلى 3.66 تريليون راند، أو ما يمثل نحو 74.3% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2020-2021م. وهذا الوضع أكثر حدة في نيجيريا؛ حيث تضاعف الدَّين العام الإجمالي أكثر من خمسة أضعاف في العقد الماضي من 7.56 تريليون نيرا في ديسمبر 2012م إلى 39.56 تريليون نيرا في ديسمبر 2021م، فيما تظهر الأرقام الحديثة أن هذا الاتجاه متصاعد في العامين الأخيرين.
وفي كينيا، أكبر اقتصاد في شرق إفريقيا، زاد الدَّين القومي من 35.39 بليون دولار في العام 2018م إلى 55.08 بليون دولار في العام 2021م، وإلى 71.48 بليون دولار في العام الحالي 2023م وفقًا لبيانات مجمعة من مصادر مختلفة. وتتوقع شركات بحثية عالمية استمرار ارتفاع الدين العام الكيني ما بين 2023م-2028م بنحو 36.7 بليون دولار.
وغالبًا ما تُطوِّر الدول ذات مستويات الدَّين العام المرتفعة اعتمادًا مزمنًا على أسواق المال المحلية والعالمية لإعادة تمويل الأوراق المالية الحكومية ودفع فواتيرها. ومع توقُّع محافظة البنوك المركزية على معدلات فائدة مرتفعة في العام المقبل؛ فإن الاقتصادات الإفريقية الكبرى ذات مستويات الدين العام المرتفعة مثل جنوب إفريقيا ونيجيريا وكينيا ستجد نفسها في مواجهة مع تداعيات أعباء الاقتراض المرتفعة.
[1] Rwanda wants to be Africa’s new cop on the beat, The Economist, October 10, 2023 https://www.economist.com/middle-east-and-africa/2023/10/10/rwanda-wants-to-be-africas-bobby-on-the-beat
[2] Kate Bartlett, US Seeks to ‘Diversify’ China-Dominated Africa Minerals Supply Chain, Voice of America, October 13, 2023 https://www.voanews.com/a/us-seeks-to-diversify-china-dominated-africa-minerals-supply-chain-/7309072.html
[3] Lennox Yieke, New era of high interest rates puts Africa in tough spot, African Business, October 17, 2023 https://african.business/2023/10/trade-investment/new-era-of-high-interest-rates-puts-africa-in-tough-spot