حاولت عدة دول إفريقية معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان السائدة فيها منذ تسعينيات القرن المنصرم، وذلك من خلال الاعتماد على آليات العدالة الانتقالية المختلفة التي تجمع بين العمليات المحلية المتبعة والإجراءات الدولية المعتمدة؛ ومع ذلك، أدَّى الافتقار إلى الإرادة السياسية، وضعف مؤسسات الدولة إلى تقويض هذه الجهود، وخاصةً المحاولات الجادة منها.
وبالنسبة للأفارقة الذين يبحثون عن وطن يتوافر فيه عناصر المساءلة والمصالحة والسلام الدائم؛ فإن وعود العدالة الانتقالية العريضة لا تزال بحاجة إلى الوفاء بها.
ومنذ استقلال معظم الدول في القارة في بداية الستينيات، واجهت العديد منها استبدادًا وقمعًا للمعارضة السياسية السلمية، وتحديدًا دول مثل أوغندا، وإثيوبيا، وإريتريا في التسعينيات، وذلك بعد ما أنشأت حركات التحرير السابقة نظام الحزب الواحد التي ارتكبت عن طريقه انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، وسادت في فترته ثقافة الإفلات من العقاب بصورة كبيرة؛ إلى جانب دول أخرى مثل سيراليون وليبيريا؛ حيث أصبح أمراء الحرب رؤساء يتنافسون على الموارد الطبيعية الغنية التي غذت الحروب الأهلية والإقليمية، وكذلك كينيا وزيمبابوي؛ حيث اعتمد مظهر من مظاهر الاستقرار السياسي على قمع المعارضة.
والمثال الآخر هو الصومال، التي عانت 21 عامًا من الحكم العسكري والنظام القمعي، وشهدت أطول حرب أهلية وانهيار الدولة منذ الثمانينيات بشكل كامل؛ حيث شاركت قوى مختلفة محلية في انتهاك حقوق الإنسان.
ومن اللافت للنظر، أن أغلب البلدان الإفريقية التي عانت من حروب داخلية أو إقليمية تمر الآن بمرحلة انتقالية سياسية متباينة الدرجة. ومع ذلك، لا تزال العديد منها موجودة في مسرح الصراعات التي تستهدف المدنيين العُزّل. وكان هذا هو الحال في بوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية وليبيريا وسيراليون والسودان والصومال.
ومن أجل استعادة السلام، وتوفير القدر الكافي من الاستقرار لإجراء الانتخابات؛ أقرَّ المجتمع الدولي ترتيبات تقاسم السلطة بين المتحاربين السابقين، وبعض الأطراف السياسية التي تَحْظَى بالشرعية السياسية، على الرغم من ارتباطهم الواضح بجرائم الحرب والنهب الاقتصادي وسجِلّهم الأسود بشكل عام.
وتفتقر التحولات في هذا السياق إلى الشرعية السياسية المتوافق عليها محليًّا، كما أن فرصتها ضئيلة في إنتاج ديمقراطية أو سلام دائمين. وسنأخذ الصومال كدراسة حالة للتحديات الكبيرة التي تواجهها في رحلة استعادة الدولة بسبب غياب العدالة الانتقالية فيها منذ عقود.
الصومال دولة إفريقية-عربية، انهار نظامها السياسي عام 1991م، وشهدت أطول حرب أهلية منذ الثمانينيات من القرن الماضي.
ومن خلال إلقاء نظرة سريعة على الصراع الصومالي قبل ظهور الدولة؛ كان يتم عادةً إنهاء العنف وحل الأزمة داخل العشائر الصومالية مِن قِبَل السلطات المحلية التقليدية، وذلك عن طريق استخدام آليات حلّ النزاعات القائمة على القانون العرفي (الحير)، جنبًا إلى جنب مع نصوص الشريعة الإسلامية. كانت هناك حالات انتهاك لحقوق الإنسان أثناء الاستعمار وخلال دولة ما بعد الاستعمار التي تأسَّست عام 1960م، في السنوات التسع الأولى، أو ما يُعرف بالعهد المدني.
لكنَّ الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بدأت مع الحكم العسكري الذي ألغى الدساتير، وفرض سياسة أحادية وقمعية؛ أغلقت كافة سبل التعددية في الخيارات السياسية، ومنعت المواطنين من ممارسة حقوقهم المدنية، وسدت أمامهم أبواب المشاركة السياسية.
وتزايدت حدَّة الانتهاكات في بداية الثمانينيات مع تصاعد المواجهة المسلحة بين حركات المعارضة والدولة الصومالية. وكانت جميع أطراف النزاع مذنبة بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك استهداف السكان المدنيين بسبب انتمائهم العشائري.
وكان أبرز انتهاك لحقوق الإنسان هو سياسة الأرض المحروقة؛ التي اتبعتها الأنظمة العسكرية في منطقة مدغ، والاستخدام المفرط للقوة ضد السكان المدنيين في المناطق التي أعلنت معارضتها العلنية ضد النظام مثل هرجيسا وبوروما، والمناطق المحيطة بها في عام 1988م.
علاوةً على ذلك، حدث ما يُعرَف بحادثة الجمعة السوداء في 1989م، والتي بدأت في مساجد مقديشو وما تلاها من مجازر بحق المدنيين العُزّل، بما في ذلك أفراد مستهدفون ينتمون إلى عشائر معينة.
بعد انهيار الدولة عام 1991م؛ تغيرت الدوافع والطبيعة والجهات الفاعلة بشكل كبير. وتقاتلت الميليشيات المسلحة القائمة على العشائرية فيما بينها، مما تسبَّب في الفوضى، وارتُكبت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ضد السكان المدنيين.
لم تقتصر تلك الانتهاكات على تصرُّفات الجهات الفاعلة الصومالية غير الحكومية -أي أمراء الحرب، واتحاد المحاكم الإسلامية، وحركة الشباب-، ولكن أيضًا الجهات الفاعلة الخارجية المتورطة: عمليات الأمم المتحدة في الصومال، والجيش الإثيوبي، وبعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال، وغيرها.
ومن الغريب أنه على الرغم من الانتهاكات العديدة لحقوق الإنسان التي تحدث في الصومال؛ لم يتم إدراج “العدالة الانتقالية” كجزء من الخطة الدولية للمساعدة في عملية بناء السلام الصومالية، ومِن ثَمَّ شعر العديد من ضحايا الحرب الأهلية بالمرارة إزاء ما اعتبروه لامبالاة سائدة عند المجتمع الدولي تجاه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبها أفراد معروفون.
علاوةً على ذلك، بدا لكثير من الصوماليين، أن ثقافة الإفلات من العقاب قد شجَّعها المجتمع الدولي، الذي وفَّر أو سهَّل لمرتكبي أعمال العنف تولي مناصب سياسية رفيعة في مختلف الحكومات الانتقالية، بينما تجاهل سجِلّاتهم السيئة في مجال حقوق الإنسان.
كانت مثل هذه الأساليب المعيبة، وعدم الاهتمام الكافي في كل مكان واضحة جدًّا في سياسات وكالات الأمم المتحدة، وحتى في نقص الأدبيات الأكاديمية حول العدالة الانتقالية في الصومال.
ومن خلال حصر النطاق في الفترة التي تلت عام 1991م، ودراسة أدوار الجهات الفاعلة غير الحكومية الصومالية، والدولة الوطنية، والجهات الفاعلة الخارجية، من الضروري الاعتراف بأن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بدأت في ظل النظام العسكري الذي استولى على السلطة في الصومال في عام 1969م.
ولم يتم بعدُ توثيق الانتهاكات، بما في ذلك التعذيب، والاعتقال خارج نطاق القضاء، والعقوبات الجماعية، والتطهير العشائري، والإعدامات الجماعية، وهَضْم حقوق الأقليات، والتهجير الداخلي في السبعينيات والثمانينيات، بشكل كامل وبطريقة صحيحة.
ورغم هذا، فإن المعاناة الحقيقية التي يعيشها الصومال بدأت مع الانهيار الكامل للدولة. ففي 26 يناير 1991م، فرّ الرئيس محمد سياد بري من القصر الرئاسي “فيلا الصومال”، وانسحب مع أنصاره إلى مناطق جنوب الصومال. وسرعان ما تحوَّل الصراع بين النظام وفصائل المعارضة المسلحة إلى حرب بين الفصائل المسلحة القبلية.
وفي الوقت نفسه، كانت العاصمة غارقة في الفوضى المطلقة، وانخرطت الميليشيات الهائمة في النهب الواسع للممتلكات العامة والخاصة، وقتل السكان المدنيين.
وفقدت القيادة السياسية والعسكرية للمؤتمر الصومالي الموحد (USC) -وهو الذي أطاح بحكومة بري من العاصمة- السيطرة على ميليشياتها أثناء تنافسها للسيطرة على المواقع الاستراتيجية والمرافق الرئيسية في المدينة، بما في ذلك الميناء البحري والمطار والمقر الرئاسي المعروف بـ”فيلا صوماليا”.
في هذه الفوضى، تم نهب جميع ممتلكات الدولة، مثل المصانع والآثار التاريخية، والأرشيف الوطني، والمكاتب الإدارية، ومرافق الخدمة الاجتماعية، بما في ذلك المدارس والجامعات والمستشفيات، وتدميرها تدريجيًّا أو نهائيًّا، وتحويلها إلى مقرات سكنية أو ملكيات خاصة.
علاوةً على ذلك، تم الاستيلاء على المنازل الخاصة والشركات والأراضي والمزارع والماشية ونهبها. ولم يسلم شيء من الدمار. وقد شهدت حركة الإنقاذ الديمقراطية الصومالية، والحركة الوطنية الصومالية، وميليشيات الجبهة الوطنية الصومالية سلوكًا مشابهًا من النهب والاستغلال على السكان المدنيين المسالمين في القتل العشوائي، وعملية الشد والجذب مع قوات المؤتمر الصومالي الموحد.
وفي غضون يومين من انهيار النظام القديم، في 28 يناير/كانون الثاني، تم الإعلان عن حكومة مؤقتة، وتم تعيين علي مهدي محمد رئيسًا مؤقتًا. هذا القرار المتسرع الذي اتخذه الجناح المدني المؤتمر الصومالي الموحد في مقديشو (ما يسمى بـ “مجموعة البيان”)، تم رفضه من قبل فصيل الجنرال عيديد في المؤتمر الصومالي الموحد.
ونتيجة لذلك، انقسمت قوات المؤتمر الصومالي الموحد إلى معسكرين مسلحين متعارضين، تم حشدهما على طول الخطوط العشائرية السكنية: معسكر علي مهدي، ومعسكر الجنرال عيديد. وأثار تعيين الحكومة المؤقتة نزاعًا مريرًا بين فصائل هوية عشيرة المتنافسين على السلطة.
ونتيجةً لذلك، ففي سبتمبر 1991م، عندما استُنفدت كل الجهود للتوصل إلى اتفاق سياسي سلمي، اندلع قتال عنيف بين فصيلي المؤتمر الصومالي الموحد في مقديشو. استمر القتال لنحو 100 يوم، مما أدى إلى تدمير جزء كبير من المدينة، وتسبب في مقتل ما يقدر بنحو 20 إلى 30 ألف شخص من الضحايا، وأدَّى إلى مجاعة مرعبة ومأساوية.
ولم تتمكن إمدادات الإغاثة الإنسانية من الوصول إلى الجائعين؛ حيث اختطفها أمراء الحرب والميليشيات التابعة لهم، واستبدلوا معظمها بالأسلحة. وبحلول نهاية عام 1991م، كان القتال قد قسم مقديشو بخط أخضر بين فصيلي المؤتمر الصومالي الموحد. وتوسطت الأمم المتحدة في اتفاق وقف إطلاق النار في مارس 1992م، وانخفض مستوى حجم الصراع إلى حدّ ما دون أن ينتهي حتمًا.
وفي الوقت نفسه، شكّلت الحركة حركة الإنقاذ الديمقراطية الصومالية والحركة الوطنية الصومالية (SSDF) (SPM) ائتلافًا جديدًا للدارود، وتحالفت مع أنصار محمد سياد بري في جيدو وكيسمايو في جنوب الصومال. وحشد التحالف قواته العسكرية المشتركة ضد الاتحاد الصومالي المنقسم، وهاجم مقديشو في 9 أبريل 1991م. وكانت البلاد مقسمة مِن قِبَل فصائل مسلحة متنافسة، والتي كانت تعتمد بشكل حصري تقريبًا على العشائر.
وفي الوقت نفسه، هدّد معارضو النظام في شمال الصومال، وأغلبهم من قبيلة إسحاق، بفصل الشمال عن الجنوب. وتحت ضغط شعبي غاضب، ألغت الحركة الوطنية الصومالية (SNM) من جانب واحد قانون الاتحاد لعام 1960م، وأعلنت دولة أرض الصومال المستقلة في 17 مايو 1991م، والذي لم يتم الاعتراف بها حتى الآن.
يمكن تلخيص المراحل المختلفة للصراع بعد انهيار الدولة في عام 1991م، والتي أنتجت كلّ منها انتهاكات لحقوق الإنسان على النحو التالي:
1) 1991-1992م: انهيار الدولة واندلاع الحرب الأهلية والمجاعة، ما تسبب بوفاة 20- 30 ألف شخص في مقديشو، وقرابة 300 ألف وفاة في مجاعة باي وباكول المشهورة.
2) 1992-1995م: قوات التدخل المكونة من قوة المهام الموحدة وعملية الأمم المتحدة في الصومال تسببت هذه العملية من جانبها في مقتل 24 باكستانيًّا، و19 جنديًّا أمريكيًا، و500-1000 صومالي.
3) 1995-2001م، الصراع بين العشائر والميليشيات المغيرة التابعة لأمراء الحرب المختلفين تُخلِّف العديد من الضحايا والوفيات.
4) 2001-2006: بداية الحرب الدولية على الإرهاب، وظهور اتحاد المحاكم الإسلامية، وصراعها مع أمراء الحرب في مقديشو، وخلفت تلك الأحداث وضعًا إنسانيًّا صعبًا وانتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان.
5) خلال الفترة من 2007 – 2008م، حدث التدخل العسكري الإثيوبي، ومقاومة اتحاد المحاكم الإسلامية، وقوات البعثة، وعمليات الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب، والحرب مع حركة الشباب.
6) في يناير 2009م اشتعل الصراع بين بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال والجيش الصومالي وحركة الشباب، وما يزال هذ الصراع مستمرًّا
في الختام، لا غنى عن العدالة الانتقالية بعد الصراع الذي طال أمده، وتوثيق الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي لم تتم معالجتها منذ عام 1969م. وهذا أمر مهمّ للحدّ من ثقافة الإفلات من العقاب السائدة في البلاد منذ العقود، واستعادة المسؤولية الفردية عن الجرائم.
ولحسن الحظ، توفّر الشَّريعة الإسلامية آليات جزائية وتصالحية قابلة للتطبيق في السياق الصومالي. وإنه مقبول لدى معظم السكان، ويقدم الخيار الأفضل إذا تم دَمجه مع العادات التقليدية بحكمةٍ.
إن تطبيق العدالة الانتقالية في الصومال، يجب أن يستمد الدروس المستفادة من فتح مكة، الذي مارسه النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في عام 630م. واستخدم أربعة آليات: إعدام بعض الجناة، والعفو العام، والعفو الفردي، والإصلاح المؤسسي.
بعد فتح مكة وتجربة التحول الجماعي إلى الإسلام، كان لا بد من إعادة بناء المجتمعات التي كانت في حالة حرب داخلي. كان على المهاجرين الذين أُجبروا على الهجرة من ديارهم بسبب اضطهاد واستعباد الطبقة الأرستقراطية في مكة، أن يصلوا إلى فترة جديدة من السلام والمصالحة، ويرغبون في استعادة تماسكهم وأُخوتهم.
ومع ذلك، فإنّ التحدي المتمثل في تطبيق العدالة الانتقالية يظل متمثلًا في ضعف مؤسسات الدولة، والقيود المالية المطلوبة، وعدم جاهزية مؤسسات الدولة. وهذا هو العائق المشترك في جميع الدول الإفريقية التي شهدت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان؛ حيث يُفضّل المواطنون السلام حتى وإن كان باردًا أو هشًّا بدلاً من السعي لتحقيق عدالة غير قابلة للتحقيق.