– دور المنظمات الدينية وأعضائها في توفير الخدمات الصحية في زيمبابوي
– برامج الحد من الفقر المموّلة من الخارج في منطقة موريوا بزيمبابوي
– الحداثة وتغيُّر القِيَم الأُسرية في نيجيريا: الآثار المترتبة على الأبوة والأمومة الفعَّالة
مقدمة:
تُعد الرعاية الصحية مطلبًا أساسيًّا لكل إنسان في كافة أرجاء العالم بأَسْره كي يحيا حياةً كريمةً. كما أنها عنصر رئيس لا غِنَى عنه لتحقيق التنمية والتقدم؛ فالرعاية الصحية بمثابة نَهْج للصحة والرفاه لا يقتصر على الفرد بحسب؛ بل يشمل المجتمع بأَسْره.
وعلى الرغم من أن الرعاية الصحية تختلف من بلدٍ لآخر، ومن منطقة لأخرى؛ إلا أننا نجد أن غالبية الحكومات تُواجه العديد من التحديات التي تواجه القطاع الصحي، بما في ذلك نقص الميزانية المخصصة للقطاع الصحي، ضعف البنية التحتية، عدم توافر الأدوات والمستلزمات الطبية اللازمة، ونقص الأدوية. هذا بالإضافة إلى هجرة العقول المتمثلة في هجرة الأطباء للخارج.
فالعديد من الدول الإفريقية؛ مثل: كينيا، زامبيا، زيمبابوي، تنزانيا ونيجيريا، تُنفق قدرًا بسيطًا من الناتج المجلي الإجمالي لا يتجاوز (10%) على القطاع الصحي. كما أن غالبية تلك البلدان تعاني من قصور في عدد الأطباء مقارنةً بعدد المرضى يصل إلى (1 طبيب: 1000 مريض) في أوغندا، (1 طبيب: 6000 مريض) في زامبيا، و(1 طبيب: 30000 مريض) في تنزانيا.
هذا بالإضافة إلى أن الوصول للخدمات الصحية لا يزال يُمثل تحديًا كبيرًا يواجه القطاع الصحي. فهناك أقل من (50%) من الأفارقة هم فقط مَن يتمكّنون من الوصول للمرافق الصحية الرسمية.
وقد زادت حدة التحديات التي يواجهها القطاع الصحي في إفريقيا نتيجةً للانتشار الموسّع للأمراض والأوبئة التي شهدتها القارة مُؤخرًا كالملاريا، الإيبولا، كوفيد-19، وغيرها؛ الأمر الذي مثَّل ضغوطًا على القطاع الصحي الذي يعاني بالفعل من التدهور.
ناهيك عن بعض التحديات الأخرى التي تُواجه القطاع الصحي وتقديم الرعاية الصحية المناسبة؛ منها: سيطرة الطابع الاستثماري على خدمات الرعاية الصحية، وتحوّلها للطابع التجاري، وافتقادها لأخلاقيات الرعاية الصحية ذات البُعْد الثقافي والاجتماعي.
وفي ضوء ذلك، سنستعرض الخدمات الصحية في زيمبابوي قبيل الاستعمار وعقبه، والدور الذي تلعبه المنظمات الدينية المسيحية في توفير الرعاية الصحية اللازمة في ظل تدهور القطاع الصحي الحكومي.
وعند الحديث عن الفقر؛ فإننا نجده بمثابة القاسم المشترك في ظهور العديد من المشكلات والظواهر الاجتماعية والسياسية، وتنعكس آثاره على كافة القطاعات المجتمعية. ولقد حظيت مشكلة الفقر باهتمام علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع، وخاصة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ حيث طرحوا قضيتين من خلالهما يمكن معالجة الفقر:
الأولى هي أن الفقراء هم المسؤولون عن حالة الفقر التي يعيشونها، وبالتالي يستلزم الأمر تغيير أنماطهم السلوكية. أما القضية الثانية فتتمثل في أن الفقراء هم ضحايا النسق الاجتماعي الأكبر، ويستلزم هذا الأمر إحداث بعض التغيرات الجذرية في هذا النسق لحل مشكلة الفقر.
وتحتلّ القارة الإفريقية قائمة أكثر المناطق التي تحوي أعلى معدلات للفقر في العالم، وخاصة مناطق إفريقيا جنوب الصحراء؛ حيث تعد القارة الإفريقية، ولا سيما إفريقيا جنوب الصحراء حقلاً خصبًا لظاهرة الفقر. فقد ساهم الفقر بقِسْط وافر في حدوث الكثير من المشكلات والصراعات السياسية والاجتماعية. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من (35%) من سكان القارة يعيشون تحت خط الفقر. وأن (27) دولة من أصل (42) دولة في إفريقيا جنوب الصحراء يعيشون في فقر مدقع.
ووفقًا لبيانات البنك الدولي؛ فإن الفقر المدقع يزداد بمعدل طفيف في جميع المناطق باستثناء إفريقيا جنوب الصحراء، والتي لا تزال تمثل المنطقة الأكثر تأثرًا بالفقر المدقع. ويُعزَى ذلك -وفقًا لـــ”جلوبال فاينانس”- إلى العامل المشترك بين معظم البلدان المتصدرة لقائمة الفقر والمتمثل في عدم المساواة والانقسامات الاجتماعية والحروب الأهلية والصراعات السياسية، فضلاً عن انتشار الفساد والاعتماد المفرط على المِنَح والمساعدات الإنسانية الدولية.
وعادةً ما يُستدل على الفقر من خلال بعض المظاهر المتنوعة؛ منها: عدم القدرة على الحصول على الخدمات الأساسية، ضيق أو عدم كفاية المسكن، ارتفاع معدلات الأمراض ونِسَب الوفيات، نقص امتلاك الأصول، الشعور بالجوع والألم وعدم الراحة، بالإضافة إلى ارتفاع مستوى الأُمّية والبطالة وانخفاض الأجور.
وفي سبيل الحد من معدلات الفقر، انتهجت العديد من الدول استراتيجيات وخطط من شأنها الحد من معدلات الفقر، منها ما هو قائم على الاعتماد الحكومي الذاتي، ومنها ما هو قائم على المِنَح والمساعدات الدولية المتمثلة في برامج الحدّ من الفقر الممولة من الخارج. ولكنَّ الاعتماد على المنح والمساعدات الدولية والبرامج المموَّلة من الخارج تفتقر إلى الاستدامة؛ لكونها تستهدف التطبيق خلال فترة زمنية محددة وينقطع عقبها التمويل ويتوقف البرنامج.
وفي بعض الأحيان تكون البرامج المقدَّمة لا تتناسب مع احتياجات المجتمع المحلي وموارده المتاحة، الأمر الذي لا يُحقِّق النتائج المرجوة في سبيل الحد والقضاء على الفقر المدقع.
وفي الوقت الذي تعاني فيه القارة الإفريقية من الفقر المدقع؛ اجتاحت العولمة بما تحمله بين طياتها من مظاهر للحداثة كافة أرجاء القارة. وعلى الرغم من الجوانب الإيجابية للحداثة؛ إلا أنها تركت آثارًا سلبية على منظومة القيم والعادات والتقاليد الإفريقية. كما انعكست بالسلب على بناء الهوية في المجتمع الإفريقي.
ومن هذا المنطلق، سنتناول في مقالنا هذا استعراضًا لنموذجين من الدراسات ذات الصلة بتلك القضايا؛ الأول يتناول الحديث عن برامج الحد من الفقر المموَّلة من الخارج. والثاني يتناول تأثير الحداثة على منظومة القِيَم الأسرية.
(1) دور المنظمات الدينية وأعضائها في توفير الخدمات الصحية في زيمبابوي([1])
استهدف “آيفي موسيكيوا” و”نوربرت موسيكيوا” في مقالهما استعراض طبيعة الخدمات الصحية التي كان يتم تقديمها قبيل الاستعمار الذي خضعت له زيمبابوي وعَقبه؛ لإبراز الفوارق في طبيعة تلك الخدمات الصحية. كما ركّزا على إبراز الدور الذي تلعبه المنظمات الدينية المسيحية لسدّ فجوة القصور في الخدمات الصحية الحكومية في زيمبابوي.
– الخدمات الصحية بدايةً من عصر الاستعمار حتى عصر الاستقلال
كانت مسؤولية توفير الرعاية الصحية قبيل الاستعمار تقع على عاتق ممارسي الطب التقليدي “المعالجين التقليديين”. ومع مجيء الاستعمار حاملاً معه الطب الحديث، وفَّرت حكومة المستعمر الخدمات الصحية لرعاياها الأوروبيين المستوطنين فقط دون إيلاء أيّ اهتمام لتوفير الرعاية الصحية للأفارقة.
ولكن مع مرور الوقت اضطرت حكومة المستعمر إلى تقديم الخدمات الصحية الأولية لقطاعات معينة من الأفارقة لسببين رئيسيين؛ الأول: انتشار الأوبئة والأمراض المعدية، والرغبة في احتوائها والسيطرة على انتشارها. والثاني: يرتبط باقتصاد المستعمر القائم على التعدين والذي يتطلب قوى عاملة تتمتع بقدر جيد من الصحة لتحقيق الأهداف الاستعمارية.
وبحلول عام (1927م)، تعاونت حكومة المستعمر مع المنصرين والمنظمات الدينية في إنشاء مستوصفات ومستشفيات ومراكز صحية. كما قامت بتدريب فريق التمريض ومساعديهم، ولكن كانت غالبية تلك الخدمات الصحية موجَّهة إلى المناطق الحضرية على حساب المناطق الريفية، كما كان أغلبها يَستهدف العلاج وليس الوقاية. وقد عملت بعد ذلك المنظمات الدينية على توسيع نطاق عملها في مجال تقديم الخدمات الصحية لتصل إلى المناطق الريفية.
وبعد حصول زيمبابوي على استقلالها عام (1980م)، قامت الحكومة المستقلة الجديدة بتوفير بعض الخدمات الصحية؛ مثل تطعيم وتحصين الأطفال دون تكلفة تقع على عاتق السكان. كما تعاونت مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لتنفيذ برنامج “التكيف الهيكلي الاقتصادي”، والذي يتضمّن تقديم الخدمات العامة للسكان؛ بما فيها الخدمات الصحية. وكانت الخدمات الصحية المُقدَّمة مجانية دون رسوم حتى عام (1991م). فمع بداية هذا العام تمَّ فرض رسوم مقابل تلقّي الخدمات، وارتفعت تلك الرسوم المحصَّلة عام (1994م).
وقد تعرَّض القطاع الصحي لحالة من التدهور نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية في زيمبابوي، الأمر الذي ترتب عليه عزوف الكثير من الأطباء وهجرتهم للخارج بسبب تدني الرواتب ونقص الأدوات والمستلزمات الطبية، الأمر الذي زاد من حالة تدهور القطاع الصحي.
– الخدمات الصحية التي تقدمها المنظمات الدينية المسيحية
تدير الكنائس الإفريقية بعض المرافق الصحية، والتي يبلغ عددها (22) مرفقًا صحيًّا، تقدّم الخدمات الصحية الوقائية والعلاجية. وتساهم تلك المرافق في تقديم (68%) من الخدمات الصحية في المناطق الريفية، و(3%) على مستوى الدولة ككل. وترتكز تلك المرافق التي تديرها الكنائس في المناطق النائية والمحرومة والمُهمَّشة في الدولة، والتي يصعب على ساكنيها الوصول إلى الخدمات الصحية الحكومية والتي عادةً ما ترتكز في المناطق الحضرية. وتحظى تلك المرافق بشعبية كبيرة؛ لكونها تتقاضى رسومًا رمزية نظير الخدمات الصحية، وفي بعض الحالات تقوم بالإعفاء من دَفع الرسوم.
ولم تقتصر المنظمات الدينية على تقديم الخدمات الصحية القائمة على الطب الحديث فحسب؛ بل أَوْلت اهتمامًا بالتداوي بالأعشاب والعلاجات العشبية مِن قِبَل المُعالِجين التقليديين، وذلك لتكملة الطب الحديث؛ حيث تقدم “عيادة الأيادي المباركة للتداوي بالأعشاب”، والتي تبعد حوالي 45 كم عن العاصمة هراري، خدماتها إلى مرضى السكر، السل، الهزال، السرطان، ومرضى ضعف المناعة. هذا بالإضافة إلى علاج الحالات التي تعاني من ضعف البصر، الالتهابات الجلدية، وآلام المفاصل.
كما أولت الكنائس الإفريقية، وخاصة “الكنيسة الرومانية الكاثوليكية” قدرًا من الاهتمام بالعلاج الإلهي “الروحي”. ويرتكز العلاج في المقام الأول على الصلاة، وقد اعتمدت الكنائس مؤخرًا على وسائل التواصل الاجتماعي (الفيسبوك، واتساب، يوتيوب)؛ لتقديم محتوى مرئي يتضمَّن جلسات العلاج الإلهي؛ لتسهيل عملية الوصول إلى أكبر عدد من المرضى. وقد لاقي هذا العلاج رواجًا وشعبية كبيرة في زيمبابوي؛ نتيجةَ توافقه مع الدين التقليدي الإفريقي من ناحية، وتعسُّر الحصول على الخدمات الصحية من المرافق الرسمية من ناحية أخرى.
كما اتجهت الكنائس الخمسينية إلى تقديم “خدمات الأمومة وصحة الأم”، والتي تقوم في الأساس على العلاج الروحي. وقد مثَّلت “مبويا جوينا” إحدى أعضاء كنيسة القديس يوحنا نموذجًا يُحتَذى به في مجال الاهتمام بصحة الأم؛ حيث نجحت في توليد 250 امرأة خلال أسبوعين بالمجان في منزلها المكون من غرفتين في منطقة مبار، وذلك بعد إغلاق عيادة الأمومة في مبار بسبب إضراب الأطباء والعاملين في المجال الصحي. وتدّعي “مبونا جوينا” أنها تعمل تحت تأثير قوة الروح القدس التي تُمكّنها من مواجهة التحديات والمضاعفات.
وبالتالي، فإن المنظمات الدينية المسيحية والأعضاء المنتميين لها ساهموا بقدرٍ ما في سد الفجوة التي أحدثها تدهور القطاع الصحي في زيمبابوي؛ وذلك من خلال خدمات الرعاية الصحية القائمة على الطب الحديث، وتلك القائمة على التداوي بالأعشاب، بالإضافة إلى العلاج الروحي.
– الوصول إلى الخدمات الصحية وفقًا لمقتضيات النوع الاجتماعي
يحلل هذا الجزء من المقال طبيعية وامكانية الوصول للخدمات الصحية وفقًا لمتغير النوع الاجتماعي والدخل ومكان الإقامة، مع الإشارة إلى أكثر الفئات تأثرًا بمحدودية الوصول. فهناك حالة من عدم التكافؤ في الوصول للخدمات الصحية في زيمبابوي وفقًا للاعتبارات السالف الإشارة إليها، فقاطنو المناطق الحضرية يسهل وصولهم للخدمات الصحية مقارنة بقاطني المناطق الريفية. ومحدودو الدخل والفقراء يتعذَّر عليهم الوصول للخدمات الصحية والحصول عليها مقارنةً بغيرهم من الفئات الأخرى بالمجتمع.
كما تُعدّ النساء أكثر تأثرًا من الرجال بمحدودية الوصول للخدمات الصحية؛ وذلك لكون النساء أكثر احتياجًا للخدمات الصحية من الرجال، بما تشمله تلك الخدمات من رعاية ما قبل الولادة، ورعاية ما بعد الولادة، ورعاية الأمومة، وتنظيم الأسرة، وغيرها. لذلك، اتجهت الكثير من النساء إلى تفضيل الولادات المنزلية بدلاً من الولادة في المرافق الصحية الرسمية؛ لارتفاع تكلفتها من ناحية، وصعوبة الوصول إليها من ناحية أخرى.
ويخلص المقال إلى أنه في الوقت الذي عانت فيه زيمبابوي من الأزمات الاقتصادية، وعدم مقدرة الحكومة على توفير خدمات الرعاية الصحية للمواطنين؛ لعبت المنظمات الدينية المسيحية دورًا بالغ الأهمية في تعويض القصور والنقص في الخدمات الصحية في زيمبابوي. فعلى الرغم من أغراضها التنصيرية الكامنة وراء تقديم تلك الخدمات الصحية؛ إلا أنه لا يمكن إنكار أهمية الدور الذي لعبته تلك المنظمات في الدولة.
(2) برامج الحد من الفقر المموّلة من الخارج في منطقة موريوا بزيمبابوي([2])
استعرض “لويد دزاباسي” و”موفات شيتابا” في دراستهما آراء وأفكار سكان منطقة “موريوا” بزيمبابوي حول البدائل المتاحة التي يمكن تنفيذها واستغلالها بشكل جيد في سبيل تحقيق التنمية الريفية، والحد من الفقر، بدلاً من الاعتماد على البرامج المموّلة من الخارج. وقد تمثلت تلك الأفكار والآراء في جملة من المقترحات، وهي:
– تعزيز برامج الحد من الفقر الممولة محليًّا:
حيث شجَّع السكان المحليون فكرة تنفيذ برامج محلية تقوم على المجهودات الذاتية والدعم الحكومي، بدلاً من البرامج الممولة من الخارج، وذلك على غرار البرنامج الحكومي “فامفودزا”، أو ما يُعرَف بــ”البرنامج الرئاسي للزراعة المقاومة للمناخ”، والذي استهدف تحقيق الأمن الغذائي للأسر في المناطق الريفية، والحد من استيراد الحبوب، وذلك من خلال توفير البذور والأسمدة والأغطية اللازمة لبناء الصوبات الزراعية للمزارعين كوسيلة للتأقلم مع التقلبات المناخية.
– تعزيز الإنتاج الريفي:
وذلك من خلال إنشاء مصانع لتعبئة وتجفيف الفاكهة، وأخرى لإنتاج معجون الطماطم، ومصانع لإنتاج زيت “دوار الشمس”؛ حتى لا تتعرض الكثير من الفاكهة للتعفن والهدر. على أن يتم تصدير تلك المنتجات للدول التي تحتاج إليها. وبالتالي، يُعزّز هذا المقترح الحفاظ على المحصول من ناحية، وتوفير فُرَص عمل للشباب من ناحية أخرى كوسيلة للحد من البطالة.
– التوسع في مشروعات الري:
كوسيلة للحد من الفقر، وذلك من خلال تعزيز مشروعات الري والاستغلال الجيد للمسطحات المائية المتاحة، وإدخال أنظمة ري حديثة تَستهدف المناطق التي تعتمد على مياه الأمطار كمصدر رئيس للزراعة في ظل التقلبات المناخية وتذبذب هطول الأمطار. وذلك اقتداء بتجربة الصين الفريدة التي نجحت في خفض معدلات الفقر في المناطق الريفية من 31,6% عام 1978م إلى 2,3% عام 2006م من خلال الاهتمام بالزراعة وتنميتها.
– التدريب واللجان المحلية:
وذلك من خلال عقد ورش عمل يديرها رؤساء القرى تَستهدف نقل خبرات هؤلاء الرؤساء إلى أفراد المجتمع لتمكينهم وإكسابهم الخبرات وتدريبهم على الكيفية التي من خلالها يمكن الارتقاء بالمجتمع وتنميته.
وقد ختم “لويد دزاباسي” و”موفات شيتابا” دراستهما بالإشارة إلى بعض نماذج المشروعات المحلية الناجحة التي قام بها أفراد المجتمع المحلي بالجهود الذاتية دون الحاجة إلى تمويل ودعم خارجي، ومن تلك الإنجازات: إنشاء قاعة اجتماعات في قرية “دوكو”، إنشاء عيادة طبية، بناء صوامع لحفظ الحبوب، فضلاً عن بناء مدرسة بالتعاون بين سكان القرى المتجاورة.
(3) الحداثة وتغيُّر القِيَم الأُسرية في نيجيريا: الآثار المترتبة على الأبوة والأمومة الفعَّالة([3])
أشار “ليدا إسيوما تشاينيمبا” في دراسته إلى أنه على الرغم من أن الحداثة لها جانبها الإيجابي المتمثل في تحسين مستوى معيشة الأفراد، وتحسين الخدمات الصحية والتعليمية المقدَّمة لهم، فضلاً عن تسريعها لعملية التواصل بين الأفراد؛ إلا أن لها أثرًا سلبيًّا بالغ الأهمية على الأسرة النيجيرية.
فقد أثرت الحداثة على هيكل الأسرة النيجيرية، ووظائفها، والدور الحاسم للأبوة والأمومة؛ الأمر الذي انعكس على طبيعة العلاقات الأسرية القائمة بين أفرادها والقِيَم الأسرية التي تُوليها الأُسَر النيجيرية قدرًا من الاحترام، وتحرص على تناقلها من جيل إلى جيل. ناهيك عن الآثار الأخرى التي نجمت عن الحداثة كانتشار الجريمة وانعدام الأمن والانحطاط الأخلاقي.
وقد استعرض “ليدا إسيوما” في دراسته -عن تأثير الحداثة على القيم الأسرية النيجيرية- ثلاثة محاور رئيسية؛ المحور الأول تناول التغيرات الطارئة على القيم الأسرية بنيجيريا. بينما يتناول المحور الثاني تأثير الحداثة على الأبوة والأمومة. في حين استعرض المحور الثالث تأثير تغيُّر القيم الأسرية على المجتمع النيجيري بأَسْره.
– التغيرات الطارئة على القيم الأسرية بنيجيريا
طال تأثير الحداثة العديد من القيم الأسرية التي تُوليها الأسر النيجيرية اهتمامًا بالغًا، وتحرص على التمسك بها، ومن تلك القيم: “عفة الزواج“، والتي كانت تحظى بمكانة عالية في المجتمع النيجيري، وتمنح صاحبها المكانة والشرف والاحترام من قبل أفراد المجتمع.
ولكنَّ الحداثة، بما أتاحته من فرص للاحتكاك الثقافي بالثقافات الأخرى؛ أدت إلى تغير هذه القيمة؛ حيث أصبح الكثير من الشباب ينظرون إلى عفة الزواج باعتبارها “قيمة قديمة عفا عليها الزمن”، وحل محلها بعض الممارسات غير الرسمية كالمعاشرة قبل الزواج والمساكنة؛ كنتاج لتبني الشباب لبعض القيم الجديدة؛ كالرغبة في خوض التجارب الجديدة والاستعداد للمخاطرة والرغبة في التغيير.
كما تعرضت “قيمة الأطفال” هي الأخرى لتأثير الحداثة؛ فعلى الرغم من أن الأطفال يُمثِّلون محل اهتمام وتقدير، ويُنظَر إليهم باعتبارهم “أصولًا نفعية” تُقدِّم دعمًا للوالدين؛ سواء في صغرهم أو مع تقدمهم في العمر؛ إلا أن الحداثة أثَّرت على رعاية الوالدين ومسؤوليتهم تجاه أطفالهم، حيث أدت رغبة الوالدين في زيادة الدخل الأسري لتلبية الاحتياجات الأساسية للأسرة أو لتحقيق الثراء إلى الانشغال الدائم بالعمل وإهمالهم لمتابعة أطفالهم وتوجيههم، واقتصر الأمر على توفير المتطلبات الأساسية للأطفال من مأكل وملبس ومأوى وتعليم ورعاية صحية فقط دون إيلاء اهتمام لإشباعهم بالدفء الأسري.
ذلك الأمر الذي انعكس بالسلب على “قيمة التماسك الأسري”، والتي كانت سمةً أساسيةً من سمات المجتمع النيجيري؛ حيث أصبح التماسك الأسري مُهدّدًا ببعض الظواهر غير المرغوب بها كالاضطراب الأسري، الطلاق، العنف الأسري، وإساءة معاملة الأطفال كنتاج لما فرضته الحداثة من قِيَم تخالف القيم الأصلية للمجتمع النيجيري.
ومن ضمن القيم الأخرى التي تأثرت بالحداثة “قيمة السمعة واسم العائلة”؛ حيث كانت السمعة الطيبة من أهم القِيَم التي يحافظ عليها المجتمع النيجيري. ولكن في الآونة الأخيرة، أصبحت هذه القيمة آخِذة في التآكل، وخاصة مع انتشار بعض الظواهر غير المرغوب بها بين أواسط الشباب كالقتل الشعائري، والقيام بالأفعال المشينة التي تضر بسُمعة واسم العائلة.
– الحداثة وتحديات الأبوة والأمومة
في هذا الصدد، أشار “ليدا إسيوما” لتأثير كلٍّ من تكنولوجيا المعلومات، التصنيع، والتحضر باعتبارهم عناصر مهمة مصاحبة للحداثة على الدور الحاسم للأبوة والأمومة.
فقد أتاح “التقدم التكنولوجي” المتمثل في أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية الوصول إلى المعلومات بكل سهولة ويسر، وما ترتب على ذلك من تحسين مستوى المعيشة. ولكن على الرغم من ذلك كان لهذا التقدم أثر سلبي على الدور الحاسم للأبوة والأمومة، وخاصةً في ظل الانشغال الدائم للآباء والأمهات بالعمل خارج المنزل لفترات طويلة، وقلقهم الشديد بشأن المحتوى الذي يتم عَرْضه عبر تلك الوسائل التكنولوجية الحديثة من أفلام ومقاطع فيديو ورسوم متحركة تتضمَّن أعمال العنف والعدوان. الأمر الذي جعل الأطفال يتشربون ثقافة العنف بالفطرة، وخاصة لأنهم يقضون وقتًا طويلاً أمام تلك الوسائل التكنولوجية والإعلامية.
كما أثَّر “التصنيع” على الدور الحاسم للأبوة والأمومة، فخروج الوالدين كليهما للعمل وبقائهم لفترات طويلة خارج المنزل جعل عملية السيطرة على الأطفال أمرًا معقدًا ومشكلة تواجه الوالدين، فلم يعد هناك الوقت الكافي للمتابعة والتوجيه والإرشاد؛ الأمر الذي ساهم في انتشار حالة من التراخي الأخلاقي بين أواسط الأطفال والشباب.
هذا بالإضافة إلى الدور الذي لعبه التحضر في التأثير على الأبوة والأمومة؛ حيث أدَّى توافر فرص العمل والتعليم والرفاه في المناطق الحضرية إلى هجرة الكثير من الأسر النيجيرية إلى تلك المناطق بحثًا عن فرص أفضل للحياة. تلك المناطق الحضرية التي تحمل بين طياتها تنوُّعًا ثقافيًّا هائلاً يتطلب من الوالدين الكفاح كي يحتفظ أطفالهم بقِيَمهم الأسرية الأصيلة وسط هذا التنوع الثقافي الهائل.
كما ساهمت الهجرة إلى المناطق الحضرية في تغيُّر نمط الأسرة النيجيرية، وتحوّلها من نمط الأسرة الممتدة إلى الأسرة النواة. وما ترتب على ذلك من جعل مسؤولية وتربية الأطفال وتوجيههم تقع على عاتق الوالدين فقط بعد أن كانت مسؤولية جماعية للأسرة الممتدة، فضلاً عن إضعافها للروابط القرابية والأسرية. وتماشيًا مع طبيعة الوضع في المناطق الحضرية، وتعويضًا لدور الأسرة الممتدة المفقود لم يجد الوالدان سبيلاً أمامهم سوى ترك الأطفال في الحضانة أو ذهابهم للمدرسة خلال أوقات عملهم. وما ترتب على ذلك من اكتساب أطفالهم لبعض القِيَم المخالفة لقيمهم الأصلية كالتدخين وتعاطي المخدرات، وغيرها من القِيَم غير المرغوب بها.
– آثار تغيُّر القيم على المجتمع النيجيري
أشار “ليدا إسيوما” إلى أن التغير الذي شهدته القِيَم الأسرية جرَّاء الحداثة ترك آثاره الواضحة على المجتمع النيجيري ككل. فقد أضحى المجتمع النيجيري يفتقد المعايير الأخلاقية، ويشهد تفشِّيًا للعديد من الظواهر غير المرغوب بها كجرائم الاغتصاب، الزنا، القتل، الاختلاس، التزوير، وغيرها من الظواهر.
ويؤكد على أن ذلك ناجم عن إهمال الأسرة لعملية غرس القيم الأسرية والمجتمعية لدى الأطفال، وتورُّط بعض أرباب الأسر في الأعمال اللاأخلاقية كالاختلاس والاحتيال، الأمر الذي يجعلهم غير قادرين على فرض الالتزام بالقيم المثالية على أطفالهم.
ناهيك عن “عبادة المال”، و”شراهة الثروة” التي سيطرت على عقول الكثير من الأفراد ومكَّنتهم من تحقيق الثراء بطرق غير مشروعة، والتي أصبحوا بمقتضاها محل احترام ومثالًا يُحتذى به مِن قِبَل الشَّباب. كلّ هذه الأمور، جعلت المجتمع النيجيري يفتقد الإحساس بالقيمة في عصرٍ انخفضت فيه قيمة حياة الإنسان، وانعدم فيه الأمن، وانتشرت به العديد من أعمال العنف والتمرد والتدمير.
ونخلُص من ذلك إلى أنَّ الأسرة النيجيرية تحت ضغوط الحداثة فقدت العديد من قِيَمها الأصيلة والجديرة بالاعتزاز. كما أصبحت مَهمَّة تنشئة الأطفال والدور الحاسم للأبوة والأمومة من الأمور الصعبة والمُعقَّدة في ظلّ ضغوط الحداثة. كلّ ذلك انعكس على المجتمع النيجيري ككل؛ حيث ساهم الخلل الذي أصاب الأسرة في انتشار العديد من الظواهر غير المرغوب بها، والتي تتنافى مع القِيَم الأصيلة النيجيرية.
……………………………………….
[1] (Musekiwa, I. & Musekiwa, N. (2023). Role of faith-based organisations and individuals in provision of health services in Zimbabwe, HTS Teologiese Studies/Theological Studies. 79 (3), a8114. https://doi.org/ 10.4102/hts.v79i3.8114
[2] (Dzapasi, L. & Tarusikirwa, M. C. (2022). Foreign funded poverty reduction programmes in rural areas: local alternatives for Murewa district, ward 10, Zimbabwe. People centred – The Journal of Development Administration (JDA), 7(4), 119-127.
[3] (Chineyemba, L. I. (2023). Modernity and changing family values in Nigeria: implications for effective parenting. International Journal of Modern Anthropology. Vol. 2, Issue 19, pp.: 1129 – 1152.