مقدمة:
حملت الجولة الاستثنائية التي أجراها وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن Lloyd Austin، إلى عدد من الدول الإفريقية، والتي بدأت يوم 24 سبتمبر 2023م، وشملت اجتماعًا مع الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود Hassan Sheikh Mohamud، في جيبوتي؛ دلالةً واضحةً بشأن آليات العمل الأمريكية المستحدثَة تجاه القضايا والتحديات التي تواجهها القارة، سواء القائمة منذ سنوات أو تلك التي أفرزتها الاضطرابات الأخيرة في غرب إفريقيا.
وسوف تدمج واشنطن وتُحَفِّز جهودها الدبلوماسية ودعمها الاقتصادي والعسكري والأمني لشركائها في القارة الإفريقية، ضمن سياسة استباقية، هدفها قطع الطريق أمام قُوى أخرى تسعى لاستغلال حالة عدم الاستقرار والاضطرابات والانقلابات التي باتت السمة الرئيسة للقارة في السنوات الأخيرة، ومِن ثَمَّ يمكن الحديث عن زَخَم كبير في الوقت الراهن على صعيد الوجود والانخراط الأمريكي في شؤون القارة، أو ما يُمكن وَصْفه بعملية تصحيح تُباشرها واشنطن بشأن السياسات الخارجية المتعلقة بإفريقيا.
وعلى الرغم من أن الانخراط الأمريكي في قضايا العنف والتطرف والدفاع في دول إفريقية قائم بالفعل، إلا أن المستجدات التي شهدتها القارة، وعلى رأسها الانقلابات العسكرية في النيجر والجابون، والاضطرابات في غرب إفريقيا بوجه عام، وتراجُع النفوذ الفرنسي لصالح زيادة الوجود والتأثير الروسي، والمخاوف من تفاقم ظاهرة الإرهاب والعنف والتطرف، كل ذلك يُؤشِّر على بدء مرحلة تطوير آليات الدعم الأمريكي للأنظمة السياسية وللقوات المسلحة للدول الصديقة في أنحاء إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، والعمل على بناء أو تعزيز الشراكات الدفاعية الثنائية مع هذه الدول. الأمر الذي يدل على أن المرحلة المقبلة ستشهد زخمًا متزايدًا بشأن الدور الذي تباشره واشنطن في القارة؛ بغرض مَنْح الشركاء الأفارقة القدرة على البقاء والاستقرار ومواجهة التحديات الأمنية والتنظيمات المتطرفة، ومن أجل مواجهة النفوذ الروسي المتنامي.
هذا الزخم لم يظهر أثناء الجولة الإفريقية التي أجراها وزير الدفاع الأمريكي فقط؛ إذ سبق تلك الجولة حدث آخر على صلةٍ بهذا الملف؛ يتعلق باجتماعٍ عقده رئيس موزمبيق فيليب نيوسي Filipe Nyusi، مع أوستن في مقر وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، تطرَّق للملفات ذاتها التي طرحها الوزير الأمريكي خلال جولته الإفريقية، التي تُعد الأولى من نوعها؛ ولا سيما مسألة بناء وتعزيز الشراكات الدفاعية الثنائية مع دول القارة؛ لمنحها القدرة على التغلب على التحديات الأمنية التي تواجهها.
وخلال النقاشات التي دارات بين الجانبين، كشف أوستِن جانبًا من آليات العمل المُستحدثَة التي تعتزم واشنطن تفعيلها أو إعطاءها دفعة جديدة؛ بغية استقرار الأنظمة السياسية لدى الشركاء؛ إذ أوضح أن الولايات المتحدة بصدد مواءمة 3 عناصر هي: (الدبلوماسية والتنمية والدفاع) لملاحقة القوى التي تغذي عدم الاستقرار وانعدام الأمن، وحرص بلاده على تعزيز قدرات القوات المسلحة في موزمبيق لتمكينها من مكافحة الجماعات المتطرفة العنيفة شمالي البلاد.
أولًا: موزمبيق في معادلة أسواق الطاقة العالمية
بحلول عام 2004م، أصبحت موزمبيق دولة مُنتجة للغاز الطبيعي، وبحسب موقع “وورلد ميترز” الأمريكي للبيانات الإحصائية، تمتلك موزمبيق 100 تريليون قدم مكعب من احتياطيات الغاز المؤكدة، محتلة بذلك المرتبة 14 على مستوى العالم، والتي تمثل قرابة 1,4٪ من إجمالي احتياطيات الغاز الطبيعي في العالم، والبالغة 6923 تريليون قدم مكعب. وتبلغ احتياطيات الغاز المُثبتَة في موزمبيق قرابة 1545,7 ضعف استهلاكها السنوي، ما يعني أن لدى البلد الواقع في جنوب شرق إفريقيا احتياطات تكفيه للاستهلاك المحلي، ليس لعقود، ولكن لقرون قادمة، هذا في حال لم تقم بتصديره؛ إذ لا يتحاوز الاستهلاك المحلي هناك 64,697 مليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي سنويًّا، اعتبارًا من عام 2017م، محتلة بذلك المرتبة 82 على مستوى العالم من حيث استهلاك الغاز الطبيعي، وهي نسبة لا تُذكر مقارنةً بإجمالي الاستهلاك العالمي البالغ 132,290,211 مليون قدم مكعب سنويًّا.
كما تستهلك موزمبيق 2,265 قدم مكعب من الغاز الطبيعي للفرد كل عام، أو 6 أقدام مكعبة للفرد يوميًّا. وتنتج موزمبيق سنويًّا 201,295,50 مليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي اعتبارًا من عام 2015م وإلى الآن، لتحتل المرتبة 55 على مستوى العالم، وتُصدِّر 67% من إنتاجها من الغاز الطبيعي (134,197 مليون قدم مكعب سنويًّا منذ عام 2015م)[[1]].
إن كمية الغاز الطبيعي المؤكدة التي تتجاوز 100 تريليون قدم مكعب، حوَّلت موزمبيق إلى واحدة من أكثر مناطق الغاز جاذبية في جميع أنحاء العالم، وواحدة من أهم دول قارة إفريقيا، ولا سيما حين بدأت تصدير الشحنة الأولى من الغاز المُسال في نوفمبر 2022م، على الرغم من التحديات الأمنية الناجمة عن التوترات شمالي البلاد.
وبينما أصبحت موزمبيق مُنتِجَة للغاز منذ عام 2004م من خلال الإنتاج التجاري في حقل الغاز البري باندي Pande، أصبح مشروع محطة كورال سول Coral Sul في نوفمبر 2022م أول مشروع تطوير بحري، خرجت منه أول شحنة تصدير للغاز الطبيعي المُسَال على الإطلاق إلى أوروبا. وقد منح هذا الإنجاز موزمبيق مكانة مهمة بين مورّدي الغاز حول العالم، ووضعها ضمن أسواق الطاقة العالمية، ولا سيما في وقتٍ يبحث فيه الاتحاد الأوروبي عن مُورِّدين للغاز الطبيعي المُسَال، بعد التحركات التي تهدف إلى تقليل الاعتماد على الغاز الروسي.
وتحمل صادرات الغاز الطبيعي المسال فوائد عديدة لموزمبيق منها[[2]]:
1- سيحقق تسويق احتياطيات الغاز البحرية عائدات تصدير كبيرة يمكن أن تساعد في إطلاق ثورة صناعية، وتسهم في النمو الاجتماعي والاقتصادي الأوسع للدولة النامية.
2- يمكن أن يضع المشروع موزمبيق كواحدة من أكبر عشر دول مصدرة للغاز الطبيعي المُسَال في العالم.
3- ستكون التدفقات المالية من العملات الأجنبية أمرًا أساسيًّا لتسريع تطوير البنية التحتية، ولا سيما قطاع الكهرباء والتنمية الصناعية.
4- سيعزز مكانتها في الجزء الجنوبي لقارة إفريقيا؛ حيث يمكنها أن تصبح مُورِّدًا أساسيًّا لدول الجوار، في وقتٍ لا تزال الدول المجاورة مثل: جنوب إفريقيا وزيمبابوي وزامبيا أمام أزمة إمدادات طاقة غير مستقرة.
5- مع وجود أكثر من 600 مليون شخص لا يحصلون على الكهرباء في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا؛ فإن إمدادات الغاز في موزمبيق يمكن أن تكون الحل الذي تحتاجه القارة.
وتجدر الإشارة إلى أن أحد مؤشرات الاهتمام الدولي المتزايد باستقرار موزمبيق وملف الغاز الطبيعي هناك، هو الموقف الياباني، على سبيل المثال؛ إذ دخلت طوكيو في الآونة الأخيرة طرفًا فعَّالًا في معادلة الدعم المالي لحكومة موزمبيق من أجل تعزيز قدراتها على مكافحة الإرهاب؛ انطلاقًا من سياسات طوكيو الجديدة الرامية لتعزيز وجودها على الساحة الدولية، ولعب دور أكبر في قضايا تشغل اهتمام اللاعبين الكبار على الساحة الدولية، فضلًا عن مُزاحمة نفوذ الصين.
يأتي الدور الياباني المحتمل في موزمبيق في وقتٍ أقرَّت فيه طوكيو في منتصف ديسمبر 2022م استراتيجيتها الجديدة للأمن القومي، وأصدرت ثلاث وثائق للسياسات الدفاعية ذات الصلة، والتي رفعت سقف الإنفاق العسكري من 1% إلى 2% من النتائج المحلي، وسط توجُّه لاتباع سياسات أكثر استباقية.
ولدى اليابان مصلحة في دعم موزمبيق؛ فمجموعة “ميتسوي” اليابانية تمتلك حصة تبلغ 20% في مشروع غاز بقيمة 18 مليار يورو، تقوده شركة “توتال إنيرجي” الفرنسية العملاقة، والذي عُلِّق منذ عام 2021م بعد الهجوم المسلح على بلدة “بالما” الساحلية القريبة.
وفي مايو 2023م تعهَّد رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، بمساعدة موزمبيق في مواجهة التنظيمات المسلحة في شمال البلاد، وتحديدًا في إقليم “كابو ديلغادو” الغني بالغاز الطبيعي في أقصى شمال موزمبيق، مؤكدًا أن طوكيو ستساعد ماليًّا في الحرب ضد الإرهاب في موزمبيق، وربط بين هذا الدعم وبين الأهمية القصوى للأمن بالنسبة لعمليات الشركات اليابانية في شمال البلاد. ومن المنتظر، بحسب وزيرة خارجية موزمبيق، فيرونيكا ماكامو، أن تزوّد اليابان موزمبيق بمعدات ملاحة جوية بقيمة حوالي 22,5 مليون دولار، وسفينة مراقبة بقيمة 830 ألف دولار[[3]].
ثانيًا: أهداف وآليات تعميق الانخراط الأمريكي مع موزمبيق
جاءت زيارة رئيس موزمبيق إلى واشنطن، والنقاشات التي دارت بينه وبين وزير الدفاع الأمريكي في البنتاغون، قبيل الجولة التي أجراها أوستِن في إفريقيا، لتكشفت الغطاء عن ملامح السياسة الأمريكية التصحيحية، والتي ظهرت خلال وجود أوستِن في دولة جيبوتي بعد ذلك. وبحسب مصادر رفيعة في وزارة الدفاع الأمريكية، تَصدَّر أهداف جولة أوستِن الإفريقية: بناء شراكات دفاعية ثنائية، ومكافحة التطرف العنيف، وبناء قدرات الشركاء؛ لكي يتمكنوا من التعامل مع التحديات الأمنية، وكذلك تعزيز دور الولايات المتحدة كشريك أمثل في القارة، لمجابهة النفوذ “الخبيث” لبعض الأطراف، في ظل مؤشرات على زيارات قامت بها وفود عسكرية روسية لبلدان إفريقية عدة، لبحث فرص الجيش الروسي ليعمل في تلك المناطق، وكذلك في ظل الانقلابات أو المحاولات الانقلابية في بعض الدول الإفريقية، التي تُعد تحديًا للولايات المتحدة الأمريكية، وتفرض قيودًا قانونية تُصعِّب التعاون العسكري[[4]].
وقبل شروعه في جولته الإفريقية، عقد وزير الدفاع الأمريكي اجتماعًا مع رئيس موزمبيق في مقر وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، أشاد خلاله بالشراكة بين واشنطن ومابوتو في مكافحة الجماعات المتطرفة في شمال موزمبيق، مضيفًا أنه يأمل في تعميق التدريب العسكري بين الدولتين. وخلال الاجتماع الذي عُقِدَ عقب انتهاء الدورة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، أكد أوستِن أن واشنطن تعمل على مواءمة الدبلوماسية والتنمية والدفاع لملاحقة القوى التي تُغذِّي عدم الاستقرار وانعدام الأمن، وتُثمِّن شراكتها مع موزمبيق في مكافحة الجماعات المتطرفة العنيفة في شمال البلاد. وفضلًا عن ذلك وقَّع الجانبان اتفاقًا لتمويل مشروعات بقيمته 375 مليون دولار؛ لتطوير البنية التحتية في مقاطعة “زامبيزيا” في موزمبيق، بما في ذلك بناء جسر حيوي بطول 1,1 ميل عبر نهر “ليسونغو”؛ بغية الربط والتواصل الاقتصادي بين شمال البلاد وجنوبها.
رئيس موزمبيق تطرَّق بدَوْره إلى تعزيز الثقة بين البلدين، وأشاد بالدعم الذي قدَّمه الوزير أوستِن ومن فوقه الرئيس جو بايدن والكونغرس عبر مختلف القطاعات، بما في ذلك الاقتصاد والرعاية الصحية والأمن. وأكد مجددًا التزام موزمبيق بمكافحة الإرهاب، وتحسين الوعي بالمجال البحري، موجهًا دعوة للتدريب العسكري مع الولايات المتحدة، كما وجَّه الدعوة لسفن البحرية الأمريكية للقيام بزيارات إلى موانئ موزمبيق[[5]].
وزارة الدفاع الأمريكية نشرت بتاريخ 22 سبتمبر 2023م بيانًا مُفصلًا حول ما دار من نقاشات وتفاهمات بين رئيس موزمبيق وبين وزير الدفاع الأمريكي. هذا البيان حمل عددًا من النقاط الرئيسة التي توضح طبيعة السياسة الأمريكية الاستباقية إزاء موزمبيق، والتي ربما تتطابق نسبيًّا مع الطرح الذي ساقه أوستِن خلال زيارته لإفريقيا بعد ذلك[[6]]:
1- تريد واشنطن ربط ملف التنمية الاقتصادية بملف الدفاع والأمن، وتضع التقدم على الصعيد الاجتماعي أيضًا، بما في ذلك تمكين المرأة، أو التقني مثل تطوير آليات مكافحة تغير المناخ، في سياق أمني، وترى أن جميع تلك الملفات مترابطة لا يمكن فَصْلها عن بعضها البعض.
2- تتمسك واشنطن بمواصلة تعزيز الأمن البحري والعمل مع حكومة موزمبيق في هذا الصدد للقضاء على أسباب الصراع، وتوسيع نطاق الأمن في المنطقة، وهذا أمر أساسي لاستراتيجية الولايات المتحدة لمنع الصراع وتعزيز الاستقرار، ومِن ثَم ترى أن شراكتها مع موزمبيق ستعزز الاستقرار الإقليمي.
3- تعمل واشنطن على مواءمة الدبلوماسية والتنمية والدفاع لملاحقة القوى التي تغذّي عدم الاستقرار وانعدام الأمن (الأمر ذاته الذي ردده أوستِن خلال زيارته إلى إفريقيا).
4- تعتقد واشنطن أن الإرهاب كان ولا يزال يُشكِّل تهديدًا كبيرًا للأمن الإقليمي، وأن كلًا من الولايات المتحدة وموزمبيق عانتا من الإرهاب، لذلك ترى أهمية كبيرة لتلك الشراكة من أجل مكافحة الجماعات المتطرفة العنيفة في شمال موزمبيق، وترى أن تعاون مابوتو مع مجموعة تنمية الجنوب الإفريقي والاتحاد الأوروبي وآخرين، دليل على قوة الشراكة في مكافحة التطرف العنيف.
5- أكد البيان على مواصلة الشراكة مع القوات المسلحة الموزمبيقية، والعمل على تعزيز عمليات ومهمات التدريب العسكري بين البلدين.
6- رئيس موزمبيق بدوره أشار إلى أنه يتفق مع وزير الدفاع الأمريكي بشأن التنسيق العسكري، ومكافحة الإرهاب، وتحدث عن أهمية نزع السلاح وإعادة الإدماج والمصالحة مع التنظيمات المحلية، فضلاً عن الحاجة إلى مراقبة المجال البحري الموزمبيقي والتوعية بالمجال البحري.
7- أكد رئيس موزمبيق أنه على استعداد لاستقبال سفن البحرية التابعة للولايات المتحدة الأمريكية القادمة إلى موزمبيق، وإجراء تدريبات مشتركة مع قوات البحرية المحلية، مشددًا على أنه مستعدّ لتعميق التعاون في هذا الصدد.
ثالثًا: الانخراط الأمريكي في أزمة شمال موزمبيق
تُعد مقاطعة كابو ديلغادو Cabo Delgado في أقصى شمال موزمبيق مسرحًا لصراع بين السلطات والمسلحين المتطرفين، فيما أكد وزير الدفاع الأمريكي خلال استقباله رئيس موزمبيق أن بلاده ملتزمة بالعمل معه للقضاء على أسباب الصراع وتوسيع الأمن في المنطقة[[7]].
وبحسب مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، يواصل الآلاف من المدنيين الفرار من أعمال العنف الجارية في مقاطعة كابو ديلغادو، وأن سلسلة من الهجمات التي شنَّتها الجماعات المسلحة غير الحكومية في الفترة الواقعة بين يناير ومنتصف مارس 2022م، أدَّت إلى نزوح حوالي 24,000 شخص داخل منطقة “نانغادي”. وبحسب تقرير للمفوضية، التمس حوالي 5,000 شخص الحماية في منطقة “مويدا” المجاورة، وهي منطقة نائية على الحدود مع تنزانيا، بعد أن شهدوا أعمالًا وحشية وعانوا منها، بما في ذلك القتل وقطع الرأس وبتر أطراف الجثث والعنف الجنسي والاختطاف والتجنيد القسري والتعذيب مِن قِبَل الجماعات المسلحة[[8]].
وتشكل هذه الأوضاع أرضية مناسبة لتعميق الانخراط الأمريكي في الحرب التي تخوضها القوات المسلحة في موزمبيق، ولا سيما منذ إدراج تنظيم محلي على صلة بـ “داعش” كتنظيم إرهابي في مارس 2021م، ومنذ أن شهدت مقاطعة “كابو ديلغادو” في أكتوبر 2017م نزاعًا مسلحًا حصد أرواح المئات من المدنيين، وأدى إلى نزوح الآلاف. وفي ظل المخاوف من تأثر البلدان المجاورة والاستجابة البطيئة التي أبداها المجتمع الدولي، عملت الولايات المتحدة على تقديم المساعدة لموزمبيق لمكافحة التنظيمات المسلحة، كما أبدت أيضًا استعدادها لدعم القوات المسلحة الموزمبيقية، ونفذت تدريبًا مشتركًا استمر لمدة شهرين لمشاة البحرية الموزمبيقية، وذلك بعد أيام من إضافة (داعش- موزمبيق) إلى قائمة الإرهاب الأمريكية.
ودعمت واشنطن دعوة وجَّهتها البرتغال، في النصف الأول من 2021م، لشركاء الاتحاد الأوروبي إلى زيادة الدعم العسكري لمابوتو. وتجدر الإشارة إلى أن الفترة بين عامي (2016-2020م) شهدت تسلم موزمبيق لشحنات معدات وأسلحة متنوعة من بلدان مختلفة، منها: روسيا والهند والبرازيل وسلوفاكيا وألمانيا والبرتغال ورومانيا وأوكرانيا والصين وجنوب إفريقيا والمملكة المتحدة وإسبانيا وتركيا [[9]].
وفي مارس 2021م، أشارت تقارير إعلامية إلى أن قوات خاصة تابعة للجيش الأمريكي بدأت تدريب مشاة البحرية الموزمبيقية في برنامج مدته شهرين، تنفيذًا لتعهد إدارة بايدن بمحاربة التمرد المرتبط بتنظيم “داعش”، في وقتٍ قدَّر فيه مراقبون أن هذا التنظيم يُشكّل خطرًا على احتياطيات الغاز الطبيعي الضخمة في شمال موزمبيق؛ الأمر الذي أسهم في تحفيز المشاركة الأمريكية المتزايدة في الصراع، ولاسيما وأن شركة النفط والغاز الأمريكية “إكسون موبيل” تمتلك امتيازات كبيرة في حقول الغاز البحرية “روفوما”، إلى جانب شركة “توتال” الفرنسية، كما تقع مرافق معالجة الغاز في “شبه جزيرة أفونغي”، شمالي موكيمبوا دا برايا Mocimboa da Praia مباشرة، وهي مدينة ساحلية احتلها المسلحون منذ أغسطس 2020م ويشنون منها هجمات إلى أماكن أبعد، مما يُشكِّل خطرًا على الطرق البرية والبحرية إلى الشمال. وعملت واشنطن في تلك الفترة على عدد من المحاور منها[[10]]:
1- فرض عقوبات على قادة التنظيمات وإدراج جماعات محلية كتنظيمات إرهابية، وعزل الكيانات والأفراد المتورطين بما يحرمهم من الوصول إلى النظام المالي الأمريكي.
2- تعزيز قدرة الحكومة الموزمبيقية على مكافحة عمليات تمويل الإرهاب.
3- مساعدة مابوتو في جهود مكافحة المخدرات؛ نظرًا لوجود صلة بين المخدرات وتمويل الإرهاب.
4- تعزيز إجراءات أمن الحدود بسبب تحركات المسلحين عبر الحدود إلى تنزانيا.
5- بناء قدرة الحكومة الموزمبيقية على منع الهجمات الإرهابية والاستجابة للتعامل مع الأزمات بطريقة فعَّالة.
وتجدر الإشارة إلى أن يوم 26 أغسطس 2023م شهد إعلان السلطات المحلية في موزمبيق مقتل أحد قادة التنظيمات الإرهابية خلال عملية عسكرية شمالي البلاد، يُدعى ابن عمر، والذي اعتُبر زعيم فرع تنظيم “داعش” في البلاد منذ عام 2017م. ووصف بيان حكومي مقتل عمر الذي صنفته الولايات المتحدة كزعيم لتنظيم إرهابي في عام 2021م، بأنه “لحظة بالغة الأهمية في معركة مستمرة منذ سنوات في مواجهة الإرهاب”[[11]].
وقبل ذلك بيومين فقط، أعلن الجيش الموزمبيقي مقتل اثنين من العناصر المهمة بالتنظيم في مقاطعة “كابو ديلغادو”؛ أحدهما نائب قائد العمليات، والآخر كان يتولى مسؤوليات مهمة داخل التنظيم، وأن مقتلهما جاء خلال كمين نصبه التنظيم للجنود، لكن إحدى مركباتهم انقلبت على جسر واشتعلت فيها النيران، وأن الزعيمين قتلا في تبادل إطلاق النار الذي أعقب ذلك، ولم يُصَب أي جندي[[12]].
تقارير إعلامية أمريكية كانت قد أكدت أن نحو 12 عنصرًا من القوات الخاصة التابعة للجيش الأمريكي بدأوا تدريبات للمشاة البحرية الموزمبيقية ضمن برنامج مدته شهران في إطار التزام إدارة بايدن بمحاربة التمرد المرتبط بتنظيم “داعش”، مُعلِّلة ذلك بأن التهديد الذي يُشكِّله المتمردون على احتياطيات الغاز الطبيعي الضخمة في شمال موزمبيق قد ساعد في تحفيز المشاركة الأمريكية المتزايدة في الصراع، في وقتٍ تمتلك فيه شركة النفط والغاز الأمريكية “إكسون موبيل” امتيازات كبيرة في حقول الغاز البحرية “روفوما”، على الرغم من الانتقادات الداخلية الموجهة ضد الانخراط الأمريكي في الأزمة شمالي موزمبيق، والتي تستند إلى تقديرات بأن إجراءات العقوبات على موزمبيق على وجه الخصوص، تخاطر بعرقلة الجهود الإنسانية في مقاطعة “كابو ديلغادو” وتعرقل أنشطة نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج المحتملة[[13]].
تقدير الموقف:
1- الجولة التي أجراها وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستِن، في عدد من الدول الإفريقية في 24 سبتمبر 2023م، خلت من زيارة موزمبيق، إلا أن هذا البلد الواقع في جنوب شرق إفريقيا يقف على رأس أولويات واشنطن في هذه المرحلة، ولا سيما مع بدء تصدير أول شحنات الغاز المُسَال الموزمبيقي إلى أوروبا في نوفمبر 2022م.
2- خلاصة السياسة التي أعلنها وزير الدفاع الأمريكي من جيبوتي، تتطابق مع تلك التي كشف عنها النقاب لدى اجتماعه مع رئيس موزمبيق، فيليب نيوسي، في مقر وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) في 22 سبتمبر 2023م؛ حيث أكد على محاور عمل ضمن ما يبدو، وأنها تصحيح مسار السياسة الأمريكية، تحمل آليات استباقية هدفها استقرار الأنظمة السياسية للشركاء الأفارقة، وتعزيز قدرات القوات المسلحة في هذه الدول، والانخراط بشكل فعَّال في مكافحة التنظيمات المتطرفة.
3- تُطبّق الولايات المتحدة على ما يبدو نتائج دروس الاضطرابات التي شهدتها الشهور الماضية في غرب إفريقيا، والتي أفرزت مخاوف بشأن تعاظم النفوذ الروسي وانحسار النفوذ الغربي وشلّ قدرة الولايات المتحدة على العمل في تلك المناطق، وتعمل على تعزيز نفوذها في شرق إفريقيا ومناطق أخرى، وسط حديثٍ عن مشروعات عملاقة ربما تظهر في الأفق، ومن ذلك الممر الذي سيربط زامبيا مع أنغولا، وهو أشبه بمشروع الممر الهندي-الأوروبي، الذي أعلنت عنه أخيرًا، في وقتٍ يمكن أن يتطور المشروع ليشمل الربط مع موزمبيق أيضًا بشكل منطقي.
4- استقرار الصومال أيضًا وتحجيم نفوذ “حركة الشباب” هناك يُعدّ هدفًا استراتيجيًّا للولايات المتحدة الأمريكية في هذه المرحلة؛ إذ يتعين أن تمر ناقلات الغاز المُسال من موزمبيق قبالة سواحل الصومال، وهو ما يفسّر الانخراط الأمريكي في تعزيز قدرات القوات الحكومية في مقديشيو، بما يسهم في تأمين المسار البحري لنقل الغاز المُسال من موزمبيق وصولًا إلى البحر الأحمر ومنه إلى أوروبا عبر قناة السويس المصرية.
5- تكتسب دول شرق إفريقيا الساحلية (تنزانيا وكينيا والصومال وجيبوتي وإريتريا) أهمية قصوى بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، التي تُولي استقرار الأنظمة السياسية فيها أولوية قصوى؛ نظرًا لكون سواحلها ومياهها الإقليمية ممرًّا محتملًا لنقل الغاز الطبيعي من موزمبيق إلى أوروبا، حال إطلاق مشروع خط أنابيب يقود الغاز الموزمبيقي إلى نقطة تجميع ما على ساحل البحر المتوسط، أو استمرار نقل الغاز في صورته السائلة عبر ناقلات.
6- يمتلك الجيش الأمريكي حضورًا مباشرًا (تدريب ومشاركة قوات خاصة) في عمليات مكافحة الإرهاب شمالي موزمبيق، كما ظهرت مؤشرات على مشاركة قوات خاصة أمريكية في العمليات العسكرية شمالي البلاد، ومن المفترض أن يتزايد دور الجيش الأمريكي في المرحلة المقبلة.
7- يشكل التنظيم المُسمَّى (داعش- موزمبيق) خطرًا على احتياطيات الغاز الطبيعي الضخمة في شمال البلاد، الأمر الذي أسهم في تحفيز المشاركة الأمريكية المتزايدة في الصراع، بما في ذلك مشاركة قوات خاصة في العمليات العسكرية.
8- يوجد دور متزايد لليابان التي تمتلك حصة لا تقل عن 20% في واحد من أكبر مشروعات الغاز الطبيعي في موزمبيق (معلق حاليًّا؛ نظرًا للظروف الأمنية)، بعد أن تعهدت أخيرًا بتوفير الدعم المالي للحكومة في مابوتو؛ في إطار حرب الأخيرة ضد التنظيمات الإرهابية شمالي البلاد، وهذا التعهُّد يتَّسق مع الاستراتيجية اليابانية الجديدة للأمن القومي التي صدرت في ديسمبر 2022م.
9- موزمبيق تعد أحد أبرز اللاعبين الجُدد في سوق الطاقة العالمي باحتياطيات مؤكدة هائلة من الغاز الطبيعي، تبلغ 100 تريليون قدم مكعب، قابلة للزيادة، وفي حال نجاح استئناف المشروعات التي تباشرها شركات دولية كبرى، منها شركات أمريكية وفرنسية ويابانية، يمكن أن تحتل موزمبيق المركز العاشر ضمن أكبر مُصدِّري الغاز في العالم في غضون أعوام معدودة.
10- يمكن أن تصبح موزمبيق في غضون بضع سنوات واحدة من الاقتصاديات الإفريقية والدولية الكبرى؛ إذ ستجني أرباحًا طائلة جراء تسويق احتياطيات الغاز من الحقول البحرية؛ الأمر الذي قد يُمكِّنها من بدء نهضة صناعية وحدوث طفرات على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، وتسريع تطوير البنية التحتية، ولا سيما قطاع الكهرباء.
……………………….
الهوامش
[1]. انظر:
“Natural Gas Reserves by Country”, World Ometers (Washington, United States, 2017): https://www.worldometers.info/gas/mozambique-natural-gas
[2]. انظر:
Charné Hollands, “What First LNG Export Means for Mozambique”, Energy Capital Power (Cape Town, South Africa), December 15, 2022: https://2u.pw/pAYak19
“Japan pledges to help Mozambique fight terrorism”, Africa News (Lyon, France), May 5, 2023: https://2u.pw/zSNsfkG
[4]. “وزير الدفاع الأمريكي يبدأ جولة إفريقية لتعزيز الشراكات ومجابهة (النفوذ الخبيث)”، صحيفة بيتنا الآن (الرباط، المغرب)، 24 سبتمبر 2023م، على الرابط: https://baytounaalaane.ma/?p=21601
[5]. انظر:
Pearl Matibe, “Mozambique’s President Nyusi visits Pentagon, signs $537 million deal”, Premium Times (Abuja, Nigeria), September 27, 2023: https://2u.pw/ITEKQUU
[6]. انظر:
United States Department of Defense. Secretary of Defense Lloyd J. Austin III Remarks Welcoming the President of Mozambique Filipe Jacinto Nyusi (Washington, D.C: Sept 22, 2023): https://2u.pw/d5HojPz
[7]. “موزمبيق والولايات المتحدة تسعيان لتعميق العلاقات الدفاعية والأمنية”، صحيفة الوفد (القاهرة، مصر)، 24 سبتمبر 2023م، على الرابط: https://www.alwafd.news/5176824
[8]. مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين. موزمبيق: الآلاف يواصلون الفرار بسبب أعمال العنف في كابو ديلغادو (جنيف: 22 مارس 2022م)، على الرابط: https://news.un.org/ar/story/2022/03/1096902
Jordan Smith. Arms transfers, military spending and insurgencies: What we do (and do not) know about Mozambique (Stockholm International Peace Research Institute, Sweden: June 29, 2021): https://2u.pw/X6fyklp
[10]. انظر:
Peter Fabricius, “US military joins the fight against Isis in Mozambique”, Daily Maverick (Cape Town, South Africa), Mar 17, 2021: https://2u.pw/XKwkeB7
.[11] “موزمبيق: مقتل إرهابي بارز في عملية عسكرية”، صحيفة الشروق (القاهرة، مصر)، 26 أغسطس 2023م، على الرابط المختصر: https://2u.pw/bfksiSJ
“Mozambique: Army kills two senior rebel leaders in Cabo Delgado”, Africa News (Lyon, France), August 24, 2023: https://2u.pw/nBgQR26
[13]. انظر:
Peter Fabricius, “US military joins the fight against Isis in Mozambique”, Op. Cit.