لم تعرف البشرية في العصور الحديثة مرضاً أش فتكاً وأكثر انتشارا من ( متلازمة العوز المناعي المكتسب) أو ما يعرف بـ ( مرض الإيدز ) (**) حتى صار يعرف المرض بـ( طاعون العصر)، وذلك على الرغم من أن مرض الإيدز ليس من جنس الطاعون ، ويسببه ميكروباً يختلف عن ذلك الذى يسببه مرض الطاعون ، كما أن علاماته وأعراض المرضين تختلفان عن بعضهما اختلافاً شديداً ، إلا أن ما يجمع بينهما هو فتكهما الشديد بضحاياهما ، إذ إن مرض الطاعون قد قضى على نصف سكان أوروبا في القرن السادس عشر، كذلك مرض الإيدز منذ اكتشاف حالات محدودة وسط مجموعة من الشواذ جنسيا في الولايات المتحدة في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي.
والمرض في حالة انتشار في جميع أنحاء العالم ، إذ أصيب بالمرض منذ إكتشافه وحتى نهاية عام 2003م أكثر من 60مليون شخص قضى منهم على حوالي 20 مليون ، مما يعني أن حوالي 40 مليون شخص الآن يحملون هذا الفيروس في أجسامهم ومما يزيد من حجم المشكلة أن الغالبية العظمى من هؤلاء المصابين لا يعلمون بحالتهم ، بل وإن نسبة مقدرة من القرويين في العديد من الدول لم تسمع أصلاً بهذا المرض ، وهذا الجهل بالمرض لا يمنع الإصابة به، إذ أن مرض الإيدز لا يصيب فقط من يعلمون به ، بل هو مرض سلوكي في المقام الأول يصيب من يتعرض له .
ولا تخلو دولة واحدة الآن في العالم من وجود حالات لمرضى ومصابي الإيدز. بل لا تكاد تخلو مدينة أو قرية من هذا المرض ، إلا أن انتشار المرض يختلف من منطقة إلى أخرى ، وفي بدايات ظهور المرض في الثمانينيات من القرن الماضي كانت دول العالم وأقاليمه تقسم بالنسبة لمرض الإيدز حسب المجموعات الخطرة التي ينتشر أو يتوقع أن ينتشر فيها مثل : الشواذ جنسياً ، أو البغايا ، أو مدمني المخدرات ، أو سائقي الشاحنات الثقيلة ، أو غيرهم . إلا أن هذه الطريقة قد تم الاسغناء عنها ، إذ وجد أن هذه المجموعات نفسها تكاد تكون موجودة في جميع الدول ، كما وأن قائمة المجموعات الخطرة أو تلك الأكثر عرضة للخطورة تختلف أحياناً من دولة لأخرى ومن أقليم لآخر، لذلك يتم تقسيم الدول الآن إلى ثلاثة أنواع رئيسية حسب نسبة انتشار المرض ، وذلك على النحو التالي :
1 – دول بها نسبة الوباء منخفضة ، وهي تلك الدول التي لا تصل فيها نسبة انتشار المرض إلى 1 % وسط عامة السكان ، كما لا تتجاوز الـ 5 % وسط أي من المجموعات الخطرة
2 – دول بها الوباء مركز، وهي الدول التي أيضاً لا تصل فيها نسبة انتشار المرض إلى 1 % وسط عامة السكان ، إلا أن نسبة انتشار المرض وسط واحدة على الأقل من المجموعات الخطرة تتجاوز الـ 5 % .
3 – دول بها وباء عام منتشر، وهي الدول التي تصل فيها نسبة انتشار المرض وسط عامة السكان إلى 1 % أو أكثر.
الوضع الوبائي للمرض بالسودان
الوضع الوبائي لمرض الإيدز في السودان يشبه إلى حد كبير الوضع الوبائي للدول الأفريقية أو على الأقل يشبه الوضع الوبائي لما كانت عليه تلك الدول في أي مرحلة من مراحل تطور الوباء فيها خلال العقد الماضي ، ويعزى ذلك لعدة عوامل من أهمها : أن السودان يجاور ما يعرف بـ (حزام الإيدز الأفريقي) .
بدايات ظهور المرض في السودان لا تختلف عن بقية دول العالم، وذلك عندما بدأ المرض ينتشر وتم اكتشافه في العديد من دول العالم في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، وهي الفترة التي تميزت بمحاولة العديد من دول العالم الإعلان عن خلوها من المرض، وهذا الإخفاء ساعد على زيادة انتشار المرض لعدم تبني برامج للمكافحة في تلك الدول .
فقد تم اكتشاف أول حالة إيدز بالسودان عام 1986 م، وأعقب ذلك إنشاء ( اللجنة القومية لمكافحة الإيدز) في عام 1987 م ، والتي أصبحت فيما بعد باسم ( البرنامج القومي لمكافحة الإيدز) .
وفي السنوات الأولى لظهور المرض لم تكن هناك برامج قوية للمكافحة وذلك لعوامل عدة أهمها : تبني سياسة الإخفاء وعدم الإعلان عن حجم المشكلة ، كما أن المرض لم يكن يشكل مشكلة صحية رئيسية في السودان إذا ما قورن بالمشكلات الأخرى مثل : الملاريا ، والدرن ، وأمراض الإسهال ، وسوء التغذية عند الأطفال . ولم يتنبه المسئولون إلى خطورة وحجم المشكلة المتمثلة في سرعة انتشار المرض وبخاصة وسط الشباب ، ومما ساعد على تفاقم المشكلة أكثر عدم وجود دواء مكتشف له أو لقاح واق .
وقد استمر المرض في الانتشار طوال العقد الماضي ، وهنالك العديد من العوامل التي ساعدت على ذلك ومنها :
* الموقع الجغرافي للسودان، حيث أنه يجاور العديد من الدول الأفريقية التي بها معدلات انتشار عالية .
* حالة عدم الاستقرار في منطقة شرق ووسط أفريقيا .
* الحركة السكانية الواسعة للمواطنين داخل السودان بسبب:- الحرب ، الكوارث الطبيعية، العوامل الاقتصادية ، الهجرة للعمل والدراسة بالخارج ، السلوك الجنسي غير المنضبط (خارج الأطر الشرعية) .
وقد تم بذل العديد من الجهود لمكافحة مرض الإيدز في السودان ، وارتفعت أصوات العديد من المختصين منبهة إلى خطورة المرض وسرعة انتشاره إلا أن عدم وجود إحصائيات دقيقة عن حجم المشكلة وسياسة التعتيم حالت دون اتخاذ إجراءات جادة لمكافحة المرض .
كل هذه العوامل ساعدت على انتشار المرض ، وبدأ ذلك واضحاً في ازدياد عدد المرضى بالمستشفيات ، وازدياد عدد الحالات الموجبة في زجاجات الدم المتبرع بها ، وكذلك زيادة الحالات الموجبة وسط المتقدمين لإكمال إجراءات سفرهم للعمل خارج السودان . ومما زاد من انتشار المرض في البلاد الجهل الشديد به، فعلى سبيل المثال أوجد مسح ( الأمومة الآمنة) عام 1999 م أن 19 % فقط من النساء في سن الإنجاب في ولاية (غرب دارفور) بغرب السودان قد سمعن بمرض يسمى الإيدز.
وقد تم في عام 2002 م تنفيذ مسح عام للتعرف على الحجم الحقيقي للمشكلة في السودان بغية وضع خطة استراتيجية للمكافحة ، وكان أهم ما توصل إليه هذا المسح أن السودان يوضع في خانة الدول التي بها وباء عام منتشر بنسبة انتشار 1.6% وسط عامة السكان ، وتمثلت نتائج المسح في الآتي :
- العدد المقدر لمرضى ومصابي الإيدز بنهاية عام 2002 م 500.000 حالة . وهذا الرقم إذا ما قورن بالإحصائيات الرسمية لمنظمة الصحة العالمية يعني أن السودان به ثلثي حالات الإيدز الموجودة في الدول العربية مجتمعة ، إلا أن هذه المعلومة يجب ذكرها بحذر، إذ إن العديد من الدول العربية تمارس سياسة الإخفاء وعدم الإفصاح عن الحجم الحقيقي للمرضى خصوصاً وسط مواطنيها .
- العدد التراكمي للحالات المبلغ عنها لمصابي ومرضى الإيدز حتى نهاية ديسمبر 2002 م فقط 9791 وهي المشاهدة من جبل الجليد .
- حوالي 97 % من مجمل الإصابات كانت عن طريق الاتصال الجنسي .
- 85 % من جملة الحالات تقع في الفئة العمرية (15-39 عام) .
- وسط الحالات المبلغ عنها كانت نسبة الرجال أكثر من النساء .
- تمثل المجموعات المتحركة كالنازحين ، واللاجئين والسائقين ، والقوات النظامية ، والشباب عامة أهم مجموعات انتشار المرض.
- تمثل الولايات الجنوبية – الشرقية – الخرطوم النيل الأبيض – جنوب كردفان أكثر المناطق إصابة .
نسبة انتشار المرض في الفئات المختلفة بالسودان :
- وسط النساء الحوامل = 1 % ، وهي حسب تصنيف WHO تمثل انتشار الوباء بصورة عامة وسط كافة فئات المجتمع.
– وسط المساجين = 2.0 %
– وسط النازحين = 1.0 %
- وسط مرضى الدرن= 1.0 %
– وسط مرضى الأمراض التناسلية = 1.1%
– وسط العاهرات = 4.4 %
– وسط اللاجئين = 4.0%
- وسط طلاب الجامعات = 1.1%
– وسط بائعات الشاي = 2.5%
- وسط أطفال الشوارع = 2.3%
أهم مؤشرات المسح السلوكي :
- ارتفاع ملحوظ في السلوكيات الجنسية الخطرة .
- الذين يمارسون الجنس خارج القنوات الشرعية 9.1% .
أهم مؤشرات المسح الوبائي :
- العدد المقدر لحاملي الفيروس وسط المواطنين 512.000 حالة ، المكتشف منها فقط 979 حالة .
– هذه النتائج تعكس عدم خلو منطقة أو مجموعة أو فئة من المجتمع من حالات الإيدز.
- الارتفاع العالي للنسبة وسط طلاب الجامعات مؤشر لزيادة كبيرة في الحالات في السنين القادمة .
- نسبة الانتشار العالية وسط اللاجئين مؤشر خطير في ظل التداخل الكبير مع فئات المجتمع .
تم بناءً على نتائج هذا المسح وضع خطة استراتيجية للمكافحة ، أهدافها العامة هي :
1 - تحجيم انتقال الإصابة بفيروس عوز المناعة البشري باستخدام الاستراتيجيات الملائمة والتي تهدف إلى تقليل انتشار الفيروس من 1.9% إلى أقل من 1 %
2 - تقليل الإصابة بمرض الإيدز والوفيات ، وتحسين نوعية الحياة للأشخاص المصابين بفيروس عوز المناعة البشري .
3 - بناء قدرات مختلف الشركاء العاملين في مكافحة فيروس عوز المناعة البشري ، وتمكينهم من المشاركة الفاعلة في التداخلات المختلفة ، ويجب أن يكون لكل ولاية وحدة حسنة التأسيس والتجهيز لمكافحة فيروس عوز المناعة البشري .
4 - تعبئة القادة السياسيين وقادة المجتمع للتأكد من التزامهم وتنسيق موارد ” القطاع الحكومي والخاص” مع المستويين القومي والعالمي لنشاطات الوقاية والمكافحة .
كما تم وضع أهداف خاصة لخطة المكافحة تمثلت فيما يلي :
1 - زيادة الوعي والمعرفة حول فيروس عوز المناعة البشري وطرق انتشاره .
2 - تشجيع المعتقدات والممارسات التقليدية التي تزيد السلوك الإيجابي الذي يمكن الشباب من الزواج ، والدعوة إلى عدم ممارسة الجنس غير الشرعي والذي يتم خارج إطار الزوجية ، وكذلك النهي عن السلوك الجنسي السلبي بين الشباب وطلاب الجامعات والمجموعات الأخرى ذات الخطر.
3 - مراجعة القوانين الراهنة المتعلقة بمكافحة الأمراض السارية وتضمين فيروس الإيدز في القائمة نفسها .
4 - تنظيم وتنفيذ وتجديد التخطيط لنشر المعلومات في إطار حملة التوعية التي تستهدف كل القطاعات المعنية بمشكلة فيروس الإيدز بما في ذلك السلطات الحكومية ، والقطاع الخاص ، والمنظمات الطوعية ، ومنظمات المجتمع المدني والمجتمع خاصة ، والمصابين بفيروس عوز المناعة البشري .
استراتجيات خطة المكافحة :
1- زيادة الوعي بفيروس ومرض الإيدز :
عن طريق إعطاء أولوية قصوى لنشر المعلومات بين أعضاء المجتمع لتأمين التغيير السلوكي الذي من شأنه دعم الوقاية من فيروس عوز المناعة البشري، وذلك بتقديم كل المعلومات المتعلقة بالإصابة بفيروس الإيدز وطرق انتقاله. ونتائج مختلف الإجراءات الوقائية ، وتصحيح المعتقدات الخاطئة عبر القنوات الإعلامية المختلفة ، وأخذ الخصائص الدينية والثقافية والتقليدية للمجتمعات المختلفة في الاعتبار.
2- السلوك الجنسي :-
في سبيل الوقاية ومكافحة انتقال فيروس ومرض الإيدز عبر السلوك الجنسي يصبح من الضروري تشجيع العفاف والفحص والبعد عن الممارسة الجنسية غير الشرعية خارج الحدود الزوجية كذلك يجب تشجيع المعتقدات والممارسات التقليدية التي تشجع الشباب على الزواج ونحو ذلك من وسائل الوقاية .
3- الوقاية من الانتقال عبر نقل الدم :-
يجب أن يكون فحص كل الدم المتبرع به عملاً إجبارياً في كل المراكز الصحية الحكومية والخاصة قبل نقله ، كذلك يجب توفير المعدات لبنوك الدم في كل المستشفيات، وذلك بهدف فحص الدم ، كما يجب تدريب كل الفنيين لتمكينهم من فحص فيروس عوز المناعة البشري .
4- الوقاية من الانتقال من الأم لطفلها :
يجب توجيه خاص وتدريب لأطباء النساء والتوليد والقابلات لتقليل الانتقال من الأم للطفل ، كذلك يجب إطلاع الأشخاص المصابين بفيروس الإيدز على الإرشاد والعناية التي تقدم للمصابين بفيروس الإيدز.
5- الفحص والاستشارة الطوعية :
يجب توفير وإتاحة الفرصة لفحص فيروس الإيدز طوعياً والاستشارة عنه في المرافق الصحية
وذلك لتسهيل معرفة حالات الإصابة والأفراد المقيمين مع أسرهم ، ويجب تدريب المرشدين الذين بوسعهم تقديم الخدمات عند الحاجة ، ويجب إعطاء الأولوية للولايات تلك التي يعرف عنها الارتفاع في نسبة انتشار فيروس الإيدز.
6- المعالجة والرعاية الطبية :-
لا بد من ذكر أن السودان من الدول العربية القليلة التي تتمتع فيها برامج مكافحة الإيدز بالالتزام السياسي العالي ، وتمثل ذلك في قيام رئيس الجمهورية بإجازة الخطة الاستراتيجية في يناير 2003م، مما فتح الباب على مصراعيه لجهود المكافحة وإنشاء العديد من الهياكل المساعدة مثل :
1 - المجلس القومي لمكافحة الإيدز والذي يرأسه وزير الصحة ويرعاه السيد رئيس الجمهورية
2 - الشبكة القومية للمنظمات التطوعية العاملة في مجال مكافحة الإيدز.
3 - الجمعية السودانية لرعاية مصابي ومرضى الإيدز، وهي أول جمعية تطوعية في الشرق الأوسط يكون على رئاستها مصابي ومرضى الإيدز إضافة لعدد من المتطوعين .
4 - مجموعة التنسيق القطرية.
وختاماً:
فلعل من أهم الدروس والعبر التي يجب أن تتنبه لها العديد من الدول التي ما زالت تطبق سياسة إخفاء الحقائق حول المرض بتلك الدول أهمية مواجهة المرض بشجاعة قبل أن يستفحل هذا المرض إن لم يكن قد أستفحل بالفعل .
الهوامش:
(*) اختصاصي الطب الوقائي – المدير السابق لبرنامج مكافحة الإيدز بوزارة الصحة الاتحادية – السودان
(**) مرض الإيدز : مرض قاتل لا دواء مكتشف لعلاجه حتى الآن . سببه فيروس ارتجاعي يسمى فيروس عوز المناعة البشري . وهناك نوعان أساسيان من الفيروس , فيروس عوز المناعة البشري ( أ ) ، فيروس عوز المناعة البشري (ب) . وكلا النوعين موجودان الآن في جميع أنحاء العالم إلا أن فيروس عوز المناعة البشري (ب) يتركز في مناطق معينة في العالم مثل : غرب أفريقيا ، والهند ، كما أنه أقل خطورة من فيروس عوز المناعة البشري ( أ ) ، فبعد دخوله إلى جسم الإنسان يهاجم الفيروس نواة الخلية الآدمية ، ويعيد تشكيل مادتها الوراثية فتتحول إلى مادة فيروسية؟ إذن فهو يتكاثر بتحطيم خلايا الجسم.