يعكس اللغط الدائر حول ما حدث في إريتريا يوم 21 من يناير/كانون الثاني الجاري حالة “شح المعلومات” في أكثر دول العالم انغلاقاً، وهو ما جعل وكالات الأنباء تجهد كثيراً في محاولة التقاط أي إشارة عن الوضع هناك، حتى بلغ الأمر ببعضها إيراد النبأ نقلاً عن موقع إريتري معارض مختص بمقالات الرأي، كان قد أورد النص على سبيل التكهن والتخمين.
الحصول على أي معلومة من إريتريا أمر في غاية الصعوبة، حيث لا يوجد أي وسيلة إعلام مستقلة هناك، كما أن البلاد ليس بها سوى تلفزيون واحد وإذاعة واحدة وصحيفة واحدة، وجميعها حكومية.
ومع بداية الربيع العربي تجاهل الإعلام هناك كل أخبار الثورات وكأنها لم تحدث بالأساس، كما فرضت غرامات على المقاهي والأماكن العامة التي تنقل لروادها بث القنوات الإخبارية العربية، وهناك ضريبة “رفاهية” على من يمتلك لاقط قنوات فضائية في منزله.
وبالإضافة إلى ذلك فإن خدمة الإنترنت ضعيفة للغاية، مع حظر لمعظم المواقع الإخبارية، ولا يُسمح لأي مواطن باستخراج شريحة هاتف نقال مالم يكن له سكن ثابت، مع انعدام خاصية إرسال الرسائل النصية خارج البلاد.
هذه الأمور وغيرها، جعلت من إريتريا إحدى أكثر دول العالم انغلاقا، وحدّ من قدرة وكالات الأنباء على تقصي حقيقة ما جرى ويجري هناك. لكن ماذا جرى بالضبط صباح 21 من الشهري الجاري؟
بعض المعلومات المتفق عليها تشير إلى أن مجموعة عسكرية لا يتعدى قوامها 200 جندي اقتحمت مبنى وزارة الإعلام الذي يضم التلفزيون وإذاعة صوت الجماهير، وصحيفة إريتريا الحديثة، إضافة إلى مكتب وزير الإعلام، وبقية موظفي الوزارة. وأعقب ذلك خروج المتحدث الرسمي باسم الحكومة ليلقي بيانا مقتضبا وعد فيه بالإفراج عن السجناء السياسيين وتفعيل دستور عام 1997 ورفع حالة الطوارئ، وإنهاء خدمة العلم الإلزامية طويلة الأمد وإنهاء التمييز لأسباب دينية أو عرقية.
سيناريوهات محتملة
هذه الأحداث طرحت ثلاث سيناريوهات محتملة لما حدث، يتمثل أولها في قيام مجموعة محدودة من الجنود بمحاولة انقلابية سيطرت خلالها على وزارة الإعلام لبعض الوقت، قبل أن يحاصرها الجيش ويقضى عليها. لكن ما يضعف هذا الاحتمال أن الأهالي لم يشهدوا قتالا في محيط الوزارة الواقعة في تلة مطلة على العاصمة، وتحيط بها العديد من المنازل، كما أن العملية لم تنته ببيان للجيش ردا على الانقلابيين.
أما السيناريو الثاني فيتمحور في استمرار سيطرة القوة المتمردة على التلفزيون والتحصن داخله، دون أن يتمكن الجيش من دحرها، وهو أيضا احتمال ضعيف بسبب عودة البث، ولتمكن الموظفين من التحرك من عملهم وإليه، ولعدم وجود قتال في محيط التلفزيون، كما أنه من المعلوم أن الجيش الإريتري لا يتهاون أبدا أمام عملية تمرد.
ويشير السيناريو الثالث إلى التوصل لتفاهم ما بين الانقلابيين والحكومة عادوا بموجبه إلى ثكناتهم وأخلوا محيط التلفزيون مع وعود بتحقيق مطالبهم أو النظر فيها.
هذا الاحتمال رغم كونه غريبا فإنه وارد، لوجود سابقة مشابهة حدثت عام 1993 حين احتجت مجموعة عسكرية على سوء أوضاعها، فتم حل المشكلة بوعود شخصية من الرئيس. لكن ما يُضعف هذا الاحتمال أن المطالب هذه المرة ليست خدمية، بل تتعلق بمطالب ذات سقف عالٍ، تقدح في طبيعة النظام القائم، وسبق أن سُجن لأعوام طويلة كل من طالب أو لمح لهذه الأمور.
ويُضعف هذا الاحتمال أيضا أن الرئيس لم يحقق وعوده العام 1993 بل قضى على قيادات المجموعة المحتجة.
أما السيناريو الأخير والأقرب للحدوث فيتوقع أن تكون هذه المجموعة عينة بعث بها الجيش الذي أصبح في سيطرة قادة مناوئين للرئيس، كنوع من استعراض للقوة، وهو يسيطر الآن تماماً على الوضع ويطوّق أسمرا، ومطلبه الوحيد تنحي الرئيس أسياس أفورقي.
وما يجعل هذا الاحتمال ممكنا أن هناك خلافات بين الرئيس وقادته العسكريين الكبار، وتململا عاما في صفوف الجيش الذي يعاني أوضاعا سيئة بعد خوض حروب منهكة مع جيرانه.
ويدعم هذا الاحتمال عدم ظهور الرئيس أو من يحُسب عليه في أي شأن داخلي أو خارجي، كذلك فإن سفارات النظام في مختلف دول العالم لم يصدر عنها أي بيان لصالح الرئيس أو ضده، وهو ما قد يشير ربما إلى انقطاع التواصل المباشر بين القيادة وممثلياتها في الخارج، أو يعكس على أقل تقدير نوع من الارتباك.
ويظل كل ما سبق نوعاً من التحليل ومحاولة لقراءة المشهد الإريتري، بينما تبقى الأيام القادمة كفيلة بإجلاء الحقيقة.
(*) صحفي إريتري
المصدر : الجزيرة نت